الواقع التسجيلي المُتَأمل في فيلم “أعيش هنا وأتنفس هناك”

Print Friendly, PDF & Email

من بين مظاهر السينما التسجيلية الطليعية يتخذ المخرج قاسم عبد في افلامه شكلًا تجريبيًا يقوم على نوع من المراقبة التي تسعى لكسر البعد الرابع (الزمن) بنقل الحال التجسيدي للفعل اليومي للحياة نحو حاضر دائم يعيش بوحي الصورة القابضة على الوقت من خلال نموذج واقعي واسلوب فني.

كاميراه ترقب جوهر اللحظة فتضعها بصورة سينما واقع يحتفي بيوميات الحياة، ترويها عدسة تلتقط النمط الجاذب الخفي للايقاع المألوف.

فسينماه تنهل شيئًا من اسلوب التيار الواقعي الذي يرتكز على مراقبة يومية عبر عين الكاميرا لطبيعة عيش وحياة البشر ضمن البيئة المحلية التي يتفاعلون فيها ومعها، ويتم فيه الابتعاد قدر الامكان عن النهج الدرامي للأحداث والاعتماد على توالي النشاطات الانسانية وتبدلات الوقت والمناخ في بلورة الموضوعات للفيلم. وكان أبرز رموزه المخرج الألماني والتر روتمان بفيلمه برلين: سيمفونية المدينة الكبيرة.

ولسينما الحقيقة التسجيلية السوفيتية تأثير الى حد ما في انضاج نهجه البصري حيث النهل من أفكار المخرج دزيغا فيرتوف في التقاط وتوليف مشاهد الحياة اليومية بالاعتماد على المونتاج لخلق المسار السردي المُبتغى، تكون فيها الكاميرا عينًا ثالثة تكشف اسرار العادي والمُعتاد من نسق العيش اليومي فتفرز منه رؤى فنية جاذبة.

 فالفيلم التسجيلي يصبح بهذا الحال انعكاس للحركة الذاتية المستقلة للأفكار الناشئة من التطور المتوالي للحياة بفعل تغير الوقائع والزمن.   

قاسم عبد

في فيلمه الأخير “أعيش هنا وأتنفس هناك”، يستكمل رحلاته البصرية السابقة وخصوصًا بفيلمه (همس المدن) عندما ارتدت مرويات الكاميرا جلباب حكايات “قصخون” عتيق خَبر اللحظة وأدرك معناها في توثيق الهامش الذي ما ان يكسر شرنقة الوقت حتى يتجلى على سطور المتن لكتاب الحياة. فينتقل معه المشاهد من واقع عادي الى شكل فني يستدعي التأمل والتفكر.، مغمورًا بعاطفة إنسانية تجاه الحياة نفسها، مرورًا بالانتماء للمكان وحتى الوصول الى تراكمات الحكمة التي تولدها متواليات سنين العيش للفرد، ووهج العمر المتباين بين مراحل الزمن المختلفة من طفولة لصبا نحو شباب وكهولة.

نلتقط ذلك من حركة الناس في الشارع المقابل لشباك قاسم عبد حين يُطل بكاميراه على أنفاس الصباح والمساء وما بينهما من سجل احداث لبشر عاديون يمارسون افعال الحياة.

يتحرك بين لندن وبغداد حيث يعطي للضوء بُعده المناسب للمكان والزمن والفصول والمناخ. فتتمظهر البيئة المُعاشة وطبائع المجتمع كمقارنة بصرية بين المكانين. مع دقائق العرض يستدعينا المخرج الى عالمه الخاص فنبدو كمن ينظر من خلال عيونه في البداية ثم نقترب من روحه، بعدها ودون أن نشعر تصبح انطباعاتنا محكومة بإيقاع احساسه.

يمكننا ملاحظة ذلك من عمليات الهدم والترميم والبناء التي تأخذ حيزا من مساحة الفيلم الزمنية. فالتبدل في مظاهر المعمار هو تعبير عن التغييرات الواقعة على نفوس البشر القاطنين بالمكان، والى تجديد الثقافة والمزاج الحضاري لذائقته والى تبدل النسيج الاجتماعي. تستطيع الكاميرا بشموليتها البصرية رصد حجم التحول الافقي والعمودي للشكل المجتمعي ضمن الحيز الزمني المرصود بالصورة السينمائية.    

المقارنة هنا بين المدينتين العريقتين تقدم نفسها على مستويات عدة متوازية، بعضها عاطفي ذاتي والآخر اجتماعي يعكس النمط الحضاري والثقافة ونسق السلوك اليومي.

ميزة كل ذلك تتدفق على انها حاضر متواصل تنجح الاشياء العادية الصغيرة وغير ذات الاهمية لنا حين نمر بجانبها طبقًا لروتين الفعل اليومي في إبراز نفسها كمراكز أساسية ترتكز عليها الحياة.

يتحكم المخرج بواسطة استنطاق الشكل التقدمي للزمن لطرح تأملات قد تسمح لنا بتأويل الترابط الشعوري الخفي بين سقوط شجرة عتيقة قبالة المنزل في الشارع العام بسبب جو عاصف في لندن ووفاة جار عزيز في بغداد، أو احتفال الطفولة والصبا التي يختلف فيها المكان لكن الروح هي ذاتها ببعدها الانساني.

يسمح الفيلم لنفسه بالانخراط في مقارنات واعية تفرز منها نظرة تُطل على الغياب والحضور للمكان في ذات الصانع السينمائي الذي شكل الزمن وجريانه وارتباطه بالأرض التي يستقر عليها في عين اللحظة هاجسًا مستقبليا يستعين بالوثيقة البصرية لتسجيل الحاضر المكاني دون اختزاله فقط بالماضي والذكريات.

كان الكاتب هربرت جورج ويلز يرى في روايته الخيالية “آلة الزمن” أن الموجودات (كائنات وأشياء) لا تفقد حضورها المكاني عند كسر حاجر الزمن وان اختفت فيزيائيا عن البصر. هي موجودة ترى حاضرها الذي تبدل وأصبح يحمل من روح المستقبل الكثير حتى الحد الذي اخفاها عن البصر.

يقترب قاسم عبد من مدنه التي ألِفَها وعاشها بذات الروح التي جمعته معها منذ اول دهشة. يعيش جديدها دون ان يغفل حلاوة اللحظات الماضية او حزنها وحتى غربتها التي تظهرها على وجهها افعال تبدلات العصور والازمان.

عين تنظر بصمت. تلتقط العادي والمألوف لتركب منه نسقًا بصريًا يتراكم باتجاه انطباعات حضرية تقتنص اللحظة قبل ان ينعكس فجأة نحو تأملات في مظاهر العيش والفناء وربما الخلود الذي تتراءى ملامحه في لفتة ابداع لا تختزنه دقائق الحياة اليومية بقدر ما تبرزه فرادته عنها. او ربما اجتماعها كلها لتكون صورة زمن سيتسع الوقت حتما ليستبدله فتغشى تلك اللمحة الكلية لحضارة معينة بحقبة ما بنثار سحر الزمن متحولة الى شيء ثمين معتق لكنه يحمل نضارة وقته.

في الرحلات الساكنة عند نوافذ قاسم عبد تقف سينماه على مسارات الحياة فيها بحس انساني بالغ الدفء بمقاربته. يجذب متلقيه الى حافات الصورة بصمت مؤثر ليترك له الحديث مع الروح حول الاماني والغايات لفلسفة الوجود الانساني دون تعقيدات اللغة ولا اضمار الجمل والكلمات. فقط متوالية بصرية تُشرع للمُشاهد شبابيك المخرج الذاتية قبل ان تنفتح على عوالمه التي يسكنها فيتنفسها هنا ويعيشها هناك.     

Visited 3 times, 1 visit(s) today