“إنديانا جونز”: بعد خمسة أجزاء.. السلسلة في الميزان

* د. المهدي شبو

هي قطعا إحدى أشهر السلاسل في تاريخ السينما، دخل جزئها الأول قائمة المعهد الأمريكي للفيلم لأفضل 100 فيلم في تاريخ السينما الأمريكية العام 1996، بعد أن حاز على أربع أوسكارات من أصل ثمانية رُشّح لها. حققت أجزاؤها الثلاثة الأولى أرباحا من الأعلى في تاريخ السينما سواء في عروضها في القاعات أو في إصداراتها في مختلف دعائم الفيديو، كما جنى صُنّاعُها أموالا طائلة في ألعاب الفيديو والمنتجات المشتقة

صارت النموذج المتكامل والمُلهِم في جنس سينمائي قائم الذات هو أفلام المغامرات. في كل الاستفتاءات التي أجريت حول العالم كان جونز يأتي على رأس الأبطال المفضلين لدى المشاهدين متقدما بفارق كبير على أساطير السينما وفي مقدمتهم جيمس بوند، كل ذلك جعل انديانا جونز أسطورة وظاهرة في الثقافة الشعبية المعاصرة أسالت بحورا من المداد قاربت كل الجوانب حول ظروف ابتكار السلسلة والتفاصيل الدقيقة حول أسرار صنعها دون أن يمتد هذا السيل من المكتوب إلى تفكيك الخطاب أو حتى نقد المحتوى.

يتجدد الاهتمام بالسلسلة مع انطلاق العروض العالمية الأولى لجزء خامس يحمل متغيرين جديدين أولهما تغير جهة الإنتاج إثر تنازل شركة “لوكاس- فيلم” عن حقوق الإنتاج والملكية الفكرية لشركة والت ديزني العملاقة مقابل مليار دولار ما يعطي فكرة عن القيمة السوقية التي بلغتها السلسلة، وثانيهما إحجام ستيفن سبيلبرغ عن الوقوف وراء الكاميرا لفائدة جيمس مانغولد بعد أن بصم السلسلة بلمسته الخاصة حتى صارت مقترنة به وصار مقترنا بها.

عدة أبطال في بطل واحد

تبدأ القصة في مايو 1977، على شاطئ في جزيرة هاواي حيث يُمضِي صديقان أوقات مرحة في الاستجمام، كانت لكل منهما خلفية في الحضور لهذا المكان ، المخرج والمنتج جورج لوكاس لجأ إلى الجزيرة هربا من ضغط خروج فيلمه الجديد (حرب النجوم) فآثر الهروب من الصحفيين ومتابعة أخبار شباك التذاكر من بعيد، والمخرج ستيفن سبيلبرغ كانت تجربته السينمائية على المحك، إذ لم تكن الأستوديوهات الكبرى متحمسة لعمله بسبب تجاوزه لمدد التصوير وتخطيه الميزانيات المرصودة، حتى قيل أنه عرض نفسه لإخراج فيلم من سلسلة جيمس بوند يكون بطله شين كونري، ولم يُسْتجب لعرضه.

لوكاس وسبيلبرغ

أثناء حديثهما وهما يسيران بمحاذاة الموج الذي يتحطم على الرمل، وفي مواساة لصديقه اقترح لوكاس على سبيلبرغ أن ينسى العميل السري لصاحبة الجلالة لأن لديه البديل؛  والبديل هنا عالم آثار أمريكي يدعي إنديانا سميث ( إنديانا على اسم كلبة لوكاس، وسميث على الكنية الشائعة كثيرا في أمريكا والتي وقع التخلي عنها لأنها لا تحقق جرس كنية جونز في الآذان)، يواصل لوكاس عرض فكرته، البطل يجب أن يجمع في شخصية واحدة جميع أبطال أفلام الفئة ب التي صنعت خيال الصديقين في بدايات الخمسينات عند احتكاكهما لأول مرة بالسينما كمشاهدين يافعين، وكل أبطال المسلسلات السينمائية الأسبوعية التي كانت تعرضها القاعات السينمائية الصغيرة في الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن الماضي قبيل الفيلم الرئيسي.

وجد لوكاس في شخصية عالم الآثار ضالته، ومن مثل هذه الشخصية تملك القدرة على صهر جميع هذه الشخصيات في شخصية واحدة، وتأتي الاكسسورات لترسم معالم الشخصية: القبعة والمسدس للإيحاء بالكاوبوي ولما لا يكون مثل جون واين بشحمه ولحمه وعبره كل أبطال أفلام رعاة البقر، أو أليست السترة الرثة لباس المغامرين في أفلام العصر الذهبي لهوليوود، والسوط ألا يوحي حين يُرفع لتأديب أحدهم بزورو ذلك النبيل الباحث دوما عن تحقيق العدالة، ثم حين يربط هذا السوط بشيء ليمكن من العبور من مكان إلى آخر ألا يذكر بطرزان وتنقله في الغابة الكثيفة؟ وهذه القدرة على سحر النساء أليس فيها بعضا من ملامح شخصية جيمس بوند الدون جوانية التي تشترك مع جونز أيضا في الصراع مع قوى الشر؟ والقطعة الأثرية المسروقة أو المختفية التي يجري الجميع ورائها في كل فيلم في السلسلة أليست هي ” الماك غوفين” MacGuffin في أفلام الفريد هيتشكوك؟ 

إن النجاح الساحق لانديانا جونز يعود للفكرة التي رام صُنّاعه تحقيقها وهي تقديم بطل تركيبي يصهر في بطل واحد كل الأبطال الأسطوريين الذين بصموا تاريخ السينما.

في كل مرة كان جورج لوكاس يسأل عن المصادر التي ألهمته الشخصية، كان يجيب إنها من وحي الخيال الصرف، وهو ما يختلف فيه المهتمون ومؤرخو السينما الذين يرون في الشخصية مزيجا من الشخصيات الحقيقية التي عاشت بالفعل والشخصيات الخيالية من الثقافة الشعبية.

كثيرا ما أقام العارفون بالأركيولوجيا الصلة بين جونز وبين شخصيتين حقيقيتين هما المستكشف والمغامر، عالم الطبيعة الأمريكي الشهير روي تشابمان أندروز (1884-1960) وعالم الآثار الألماني أوتو غان ( 1904- 1939) ، وذهب آخرون إلى إن لوكاس وسبيلبرغ ألهما من طرف أبطال وشخصيات خيالية، فدرسا طويلا بعض الأعمال السينمائية كفيلم “رجل من ريو” لفيليب دو بروكا، و”كنز سييرا مادري)”لجون هيوستون ثم “سر الأنكا” لجيري هوبر، كما كان لأبطال الكوميكس حظهم في التأثير على رسم الشخصية كمغامرات بيسو التي ابتدعها كارل باركس ومغامرات تانتان لمؤلفها هيرجي.

بعد صياغة مشروع السيناريو بمساعدة فيليب كوفمان الذي لم يكمل المشروع وانسحب منه، ومع ذلك ظل يُقَدم إلى اليوم شريكا في ابتكار الشخصية، طاف لوكاس على جميع الأستوديوهات الكبيرة في هوليوود عله يعثر على التمويل، غير أن الاستوديوهات لم تقتنع بمشروع يُحييّ جنسا اختفى من السينما منذ عدة عقود ألا وهو أفلام المغامرات سيما وأن الزمن لم يعد هو الزمن، والسينما الواقعية التي ظهرت في هوليوود بعد حرب فيتنام لا تنبئ بنجاح أكيد لعالم الآثار، وحدها شركة بارامونت اقتنعت بجدوى المشروع فنفذته، وفي لفتة تكريمية لهذا الأستوديو الذي غامر بالتمويل رأى لوكاس وسبيلبرغ أن تبدأ الأفلام الأربعة الأولى بشعار الجبل المميز لبارامونت مجسدا في الطبيعة.

الممثل بين معايير لوكاس وسبيلبرغ

في أفلام الملاحم – كما انديانا جونز- عادة ما يتوقف نجاح الفيلم على الممثل الذي سيلعب الدور الرئيسي بما يمتلكه من جاذبية وكاريزما لأنه سيتماهى في دهن المتفرج مع الشخصية وستتمازج معه.

بعد اختبارات الأداء التي شارك فيها كثير من الممثلين كان بعضهم قد أصاب جانبا من الشهرة، وكان البعض الآخر في بداية المسار، استقر اختيار المنتج جورج لوكاس على الممثل توم سيليك بما يجسده من مقومات الذكورة وفق النموذج الأمثل لرجل عقد الثمانينيات من القرن الماضي، لكن ارتباطه بتصوير السلسلة التلفزيونية الشهيرة (ماغنوم) جعل من المتعذر سفره خارج الولايات المتحدة للتصوير الخارجي، وأمام اقتراب ميعاد بداية التصوير، لم يجد لوكاس بدا من مسايرة الاختيار الأول للمخرج ستيفن سبيلبرغ الذي رشح هاريسون فورد منذ البداية، وطيلة الأجزاء الأربع الأولى من السلسلة ستتضارب اختيارات  لوكاس وسبيلبرغ في كثير من المواقف والتفاصيل.

المرشحان الرئيسيان لدور انديانا جونز توم سيليك وهاريسون فورد

كانت نظرة سبيلبرغ ثاقبة، فقد اقتنع منذ دخوله المشروع بهاريسون فورد، فعلى كون الأخير لا يتمتع بوسامة نجوم العصر الذهبي لهوليوود، إلا أنه كان يخطف الكاميرا بتعبير كار السينما في مصر، وهذا كان كافيا لأن ينجح في تجسيد الدور بامتياز.

ساهم انديانا جونز في إطلاق مسار هاريسون فورد ووضعه على قائمة نجوم الصف الأول في هوليوود، وقد أجاد في تجسيده للدور لدرجة أن كثيرين يرون أنهم لا يتصورون الشخصية دون فورد، وهنا تقييد لمستقبل السلسلة، ففي نظيراتها ظل المختصون والهواة يرون مثلا أن جوني ويسمولر هو طرزان الأوحد والحقيقي، وأن شون كونوري هو جيمس بوند رغم تعاقب ممثلين عديدين على الدورين.

ورغم أن هيمنه ويسمولر على دور طرزان لم تتجاوز مدة 16 سنة مقابل خمس سنوات متصلة لشون كونوري في جيمس بوند مع عودتين متباعدتين، فإن الممثلين ظلا يفرضان نفسيهما وجها للمقارنة مع كل ممثل جديد يتقدم للدورين، وإذا كان الأمر كذلك، فما عسى أي ممثل أن يقنع في دور احتكره زميل له لاثنتين وأربعين سنة امتدت من 1981 إلى 2023 .

عن الأجزاء الخمسة 

رغم النجاح الساحق التي حققته الملحمة، إلا أن مبادرات صُنّاعها اتسمت بالتأني في الانجاز مقارنة مع نظرائهم في أشهر سلاسل السينما، فعلى مدى 42 سنة لم تصور من انديانا جونز إلا خمسة أفلام فقط، وقد قام كاتب هذه الكلمات بعقد مقارنات مع ما نفذ ضمن أشهر سلاسل السينما في مدة 42 سنة الأولى من وجودها، فتوصل إلى أن سلسلة زورو حققت 14 فيلما خلال الأربع عقود الأولى من وجودها، وحُقِق من جيمس بوند 20 فيلما ومن طرزان 38 فيلما خلال نفس المدة. 

كانت البداية في فيلم “مغامرو تابوت العهد المفقود” 1981 ، في هذا الفيلم سيلبس عالم الآثار والأكاديمي اللامع انديانا جونز عدة الشغل، لينطلق إلى مصر (جسدت في تونس) بحثا عن تابوت العهد التي تحكي الأسطورة أنه يحوي ألواح النبي موسى الإثنى عشر، ولأن الأسطورة العبرية تحكي أيضا أن أي جيش في العالم يتقدمه هذا التابوت لا يهزم أبدا، فإن المخابرات الأمريكية التي انتدبت جونز لهذه المهمة، لفت انتباهها تعقب النازيين للتابوت، يسافر جونز إلى النيبال لاستعادة ميدالية توصل إلى موقع التابوت وهناك يلتقي يماريون ( كارين ألين) حبه القديم ، ينطلقان سوية إلى مصر، وهناك يدخلان في صراع مع النازيين الذين يساعدهم عالم آثار فرنسي مرتزق وغريم سابق للبطل إسمه بيلوك.

عند خروجه للقاعات، شكل الجزء الأول من السلسلة ظاهرة في التلقي وفي المشاهدة. على وجود قلة من كبار النقاد هاجموا الفيلم، فإن الاستقبال النقدي كان مشجعا على العموم، أما الاستقبال الجماهيري، فقد كان منقطع النظير بدليل أن الفيلم كلف 18 مليون دولار فيما بلغت إيراداته في مجموع بقاع العالم 390 مليون دولار محققا واحدة من أعلى الأرباح في تاريخ السينما، نهيك على الجوائز التي حصدها سيما في ليلة الأوسكار.

نتيجة النجاح الجماهيري الساحق، دخل فريق العمل التجربة الثانية في الملحمة ، في “إنديانا جونز والمعبد الملعون” 1984، وإثر مقايضة فاشلة في ملهى ليلي بشنغهاي في الصين، يهرب جونز في صحبة طفل صيني (جونتان كي كوان) وراقصة أمريكية (كات كابشو) تعمل في الملهى المذكور، وعند تحطم طائرتهم يجدون أنفسهم في قرية فقيرة في قلب الهند، يخبرهم الأهالي أن حجرهم المقدس أخذ منهم وكدا جميع أطفالهم الذين سيقوا للعمل في السخرة بالمعهد الملعون، حيث يقومون بأعمال الحفر تحث إشراف ومتابعة الكاهن مولا رام ( قام بدوره ممثل بوليوود الشهير أمريش بوري) والهدف استخراج حجرتين من أحجاز سنكرا الخمسة المعروفة بقدرتها على منح حاملها الثروة والمجد، يتسلل الثلاثة إلى الطابق السفلي للمعبد حيث تجري أعمال الحفر على أمل استعادة الأحجار وتحرير الأطفال العبيد.

يعتبر هذا الجزء أكثر أجزاء السلسلة إثارة للجدل، فقد اعتبره الهنود فيلما مسيئا للهند، ورأي فيه كثيرون إحياء لتيار السينما الكولونيالية العنصري الذي ساد في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، وكان يقدم الرجل الأبيض باعتباره مُخَلِصا للأعراق الملونة الغارقة في الجهل والتخلف، هو أيضا فيلم سوداوي عنيف أُثار حفيظة حماة الطفولة بمشاهد تعنيف الأطفال، ويفسر مؤرخو السلسلة هذا الطابع السوداوي بأن لوكاس كان يعيش فترة الكتابة تجربة طلاق مريرة، كما سبيلبرغ الذي صور تحث الآثار النفسية للحادث الشهير الذي أودى بحياة طفلين وممثل في بلاتو تصوير فيلم ( البعد الرابع).

لم يلق الجزء الثاني، نفس النجاح الجماهيري للأول خصوصا بالولايات المتحدة، لكنه حقق إيرادات مهمة على المستوى الدولي. حين يفاضل بين الأجزاء التي أخرجها، يعتبر ستيفن سبيلبرغ (أنديانا جونز والمعبد الملعون) أبعد أجزاء الملحمة إلى قلبه، مرجعا ذلك إلى أنه خضع كثيرا لإملاءات جورج لوكاس في هذا الفيلم بالذات. وعلى المآخذ الكثيرة على الفيلم، يرى هواة السلسلة والشغوفون بها في الفيلم نموذجا ناجحا لأفلام المغامرات بإيقاعه السريع وبالمؤثرات الخاصة وبالمطاردات الشيقة خصوصا مشاهد المطاردة في عربات الأنفاق.  

في الجزء الثالث “انديانا جونز والحملة الأخيرة” 1989، ينطلق بطلنا وراء قطعة أثرية جديدة ، لكن هذه المرة بمعية والده هنري جونز( شون كونوري)، والهدف الكأس المقدسة التي استعملها السيد المسيح في عشائه الأخير والتي تحكي الأسطورة بقدرتها على منح الخلود لمن يشرب منها ، لهذا كان النازيون يتعقبونها بإيعاز من زعيمهم هتلر المهوس بفكرة الخلود مثله مثل الملياردير دونوفان الذي يدخل السباق بدوره .

يعتبر النقاد والهواة على حد السواء، هذا الجزء أفضل أجزاء السلسلة وأكثرها نضجا، يقال إن سبيلبرغ اقترح على لوكاس أن يأتي هذا الجزء بإضافة لشخصية جونز، ومن هنا جاءت فكرة إدخال الأب، وحتى تكتمل الحبكة صَوّر السيناريو علاقة معقدة بين الأب والابن، وحتى لا يكون دخول الأب مجانيا ولمجرد الظهور، يكتشف المشاهد أن جونز الأب سار ذات مسار الابن، ومن هنا يمكن فهم خلفية هذا العالم- المغامر. حقق سبيلبرغ بهذا الفيلم حلمه القديم بإدارة الممثل العملاق شون كونري الذي استقدم لما سبق التنويه إليه، ولكن ليقف كذلك في وجه هاريسون فورد، ويدخلان في مبارزة أداء صبت في نهاية الأمر في صالح الفيلم.

غابت السلسلة لما يقارب عقدين من الزمن، لتعود في 2008 مع جزء رابع هو “انديانا جونز ومملكة الجمجمة البلورية”. تدور الأحداث في العام 1957 في عز الحرب الباردة، يُرْغَم الدكتور جونز على أخذ إجازة قسرية من الجامعة بسبب أنشطته التي لا تنظر إليها الحكومة الأمريكية بعين الرضا، في طريقه لاستلام عمل جديد يأتيه مراهق دراج يدعى مات (شيا لابوف) ليخبره باختفاء صديقه عالم الآثار أوكسلي بالبيرو، فيتجهان سوية إلى هذا البلد في بحث عن جمجمة بلورية تمنح من يستطيع فك شفرة ألغازها القدرة على السيطرة على الكون، هناك يكتشفان أن السوفيات يتعقبون نفس الجمجمة تتقدمهم عالمة أوكرانية برتبة كولونيل في الجيش الأحمر تدعى إرينا سبالكو (كيت بلانشيت)، فصارت المهمة هي تفادي وقوع الجمجمة بيد السوفيات.

يعد هذا الجزء محاولة من لوكاس وسبيلبرغ للخروج عن النمطية التي بصمت السلسلة، لكنها كانت مغامرة محفوفة بالمخاطر، فالماك غوفين كان هذه المرة معقدا ولا يغري مقارنة بالأجزاء السابقة حيث كان رموزا دينية شهيرة، وهواة السلسلة لم يستسيغوا معالجة لوكاس التي اتجهت إلى عوالم حرب النجوم كالانفجار النووي والكائنات الفضائية والصحون الطائرة، واعتبروا الفيلم خيانة لروح انديانا جونز حتى إن بعضهم لا يعترف بهذا الجزء ولا يدخله ضمن السلسلة، فمغامرات عالم الآثار الأشهر توقفت في نظهرهم عند الجزء الثالث.

والحقيقة أن جمهور السلسلة كان أغلبه شغف بها في مرحلة الطفولة، وحين خرج الجزء الرابع، كان هذا الجمهور قد شب عن الطوق وتغيرت نظرته إلى الأشياء وطريقة تلقيها. ومع ذلك يمكن القول إن سبيلبرغ قدم في هذا العمل فيلما أقل مستوى في التنفيذ الحِرَفي من الأجزاء الثلاثة الأولى، وأقل إغراء في المشاهدة، لذا لم يلق نجاحا تجاريا مماثلا لسابقيه خصوصا أن السلسلة صنعت مجدها وحققت إيراداتها الضخمة بقدرتها على دفع المتفرج على تكرار المشاهدة مرات ومرات، أما في هذا الجزء، فلم يكن الأمر كذلك و يعترف كثير ممن شغفوا بالسلسلة في شهاداتهم على شبكة الانترنيت أنهم لم يكرروا مشاهدته على غرار نهجهم مع ما سبقه.

لقطة من الفيلم الجديد، الخامس في السلسلة

بعد غياب امتد لخمس عشرة سنة، تعود السلسلة في 2023 مع منتج ومخرج جديدين وبطل بلغ من العمر عُتِيا. تدور أحداث “انديانا جونز وقرص القدر” في العام 1969 حينها كان بطلنا قد جاوز الثمانين مثله مثل هاريسون فورد، وانسحب من حياة المغامرة ويعيش تقاعده بعد أن هجرته زوجته ومات ابنه في حرب فيتنام، يتلقى زيارة حفيدته هيلينا (فوبي وولتر بريدج) التي جاءت تستعيد منه نصف قرص أٍرخميديس القادر على الانتقال بصاحبه إلى الماضي لتغيير معالم الحاضر، هي تسعى للمضاربة على القرص الذي يتعقبه أيضا يورغن فولر(مادس ميكلسن) نازي سابق ومستخدم بوكالة ناسا وأحد المساهمين في البرنامج الفضائي الأمريكي، ويكمن الخطر الذي يحدق بأمريكا والعالم في أن هذا النازي المتعصب يسعى بمساعدة رجال غلاظ شداد إلى تجميع القرص لتغيير التاريخ وإعادة أمجاد الرايخ الثالث.

نستطيع القول إن الجمهور كان الحكم في الرجوع إلى الوصفة الأولية لانديانا جونز خصوصا بعد السقوط المريع للجزء الرابع، لذلك حرص الصناع الجدد للسلسلة على التقيد بكل توابل وبهارات الأجزاء الثلاثة الأولى سواء في المطاردات أو العقبات أو النزالات الجسدية بشكل جعل الجزء الخامس مجرد اجترار لكل ما سبق للمشاهد أن عاينه في الأجزاء السابقة، وهو ما لم يكن في صالح المخرج جيمس مانغولد الذي دخل في محاكاة لسبيلبرغ دون أن يرتفع بالفيلم إلى الحرفية التي أظهرها هذا الأخير في النسخ السابقة. يحفل هذا الجزء بكثير من العيوب إلى جانب عديد من المحاسن، ولهذا السبب تضارب النقاد والهواة في تقييمهم للفيلم ، ومهما يكن من أمر ، فإننا نعتقد أن الجزء الخامس عاد إلى أحضان أنديانا حونز بعدما انفصل عن أجوائه في الجزء السابق.

نفس التوابل لإعداد نفس الوجبة  

بعد مشاهدة متأنية للأجزاء الخمسة، نستطيع القول إن السلسلة كشفت عن أسرار طبختها التي طالما فتحت شهية جمهور السينما عامة وأفلام المغامرات خاصة، وقد توصلنا إلى تحديد ثماني مكونات رئيسية هي سر طبخة انديانا جونز:

الماك غوفين: وهي القطعة الأثرية المفقودة أو المسروقة  وهي دائما النواة الصلبة للفيلم وفي قلب كل مغامرة جديدة؛ هي تابوت العهد المفقود الذي لن يهزم جيش هو حائزه في الجزء الأول، وحجارة سنكرا الجالبة للثروة والمجد في الجزء الثاني، والكأس المقدسة مانحة الخلود في الجزء الثالث، والجمجمة البلورية الممكنة من السيطرة على الكون في الجزء الرابع، ثم قرص القدر بقدرته على الارتداد إلى الماضي لتغيير الحاضر في الجزء الخامس.

الغرماء: لا تكتمل عقدة القصة في كل جزء إلا بوجود غريم يسعى لتملك الماك غوفين وتوجيهها لأغراض شريرة أو شيطانية، وباستثناء الجزء الثاني حيث كان الغريم هو كاهن المعبد الملعون ومن هم ورائه والجزء الرابع حيث استأثر السوفيات بالدور، كان الغرماء في ثلاثة أجزاء  ( الأول والثالث والخامس) هم النازيون ، في الجزئيين الأول والثالث ، قد نتفهم دور الأصول اليهودية للمنتج جورج لوكاس والمخرج ستيفن سبيلبرغ في هذا التوجه وربما نتيجة أثار المحرقة وعداء اليهود للنازية، إلا أن ما لا يمكن أن نتفهمه هو اختيار والت ديزني إعادة الكرة لمرة ثالثة، ما أدخل السلسلة في رتابة نمطية، وكأنما خلقت لتصفية الحساب التاريخي مع النازية.

العقبات: في مسيره نحو الماك كوفين، لا بد للبطل أن يواجه عقبات، ومعلوم أن العقبات هي كنه أفلام المغامرات، وهي ملح هذه السلسلة، وقد اشتغل عليها صُنّاعُهَا بحرفية عالية وسخاء إنتاجي باذخ.

تعج مواقع الانترنت بفيديوهات تتبع فيها هواة السلسلة المواقع التي ألهمت في أفلام الثلاثينات والأربعينات بعضا من أشهر العقبات التي ظهرت في السلسلة. لكن البصمة الخاصة لانديانا حونز كانت هي تمييز كل جزء بعقبة عبارة عن جحافل من الحيوانات أو الحشرات على البطل ومن يرافقه أن يتخطوها كما الأفاعي في الجزء الأول والعناكب العملاقة في الجزء الثاني والفئران في الجزء الثالث، والنمل العسكري في الجزء الرابع وحشرات أم الأربعة والأربعين في الجزء الخامس.

المرأة: بالإضافة إلى كل الصفات الخارقة للبطل، كان مما ألح عليه جورج لوكاس عند رسمه معالم الشخصية وجوب أن يكون لبطله جانب إغرائي للجنس اللطيف على غرار جاذبية جيمس بوند، والمرأة تقع تحث تأثير انديانا حونز يستوي أن تكون هي الرفيقة كما ماريون ( كارين الين) في الجزء الأول وويلي ( كات كابشو) في الجزء الثاني، أو الغريمة كما اليسا شنايدر( اليسوم دودي) في الجزء الثالث  .في الجزء الخامس لم يكن جونز ليقنع في دور الدون جوان وهو شيخ قارب الثمانين، فجاء دور الحفيدة ليحمل البطولة النسائية، ونعتقد أن إدراج هذه الشخصية توخى في اعتقادنا ثلاثة أهداف أولها المحافظة على التقليد الذي دُشِنَ ابتداء من الجزء الثالث بإعطاء جونز عمقا عائليا، وثانيها حمل الدور النسائي الأول في ظل وضع لا يسمح بجونز في وضع العاشق، وثالثها فتح المجال لثأنيت الدور مستقبلا ، فبعد أفلام الخماسية والسلسلة التلفزيونية حول صبا البطل ، قد نرى مستقبلا مغَامِرَة وعالمة آثار من صلب الدكتور جونز. 

الأسرة: مدفوعا بنجاح ظهور الأطفال في فيلمه ET قبل سنتين، أقنع سبيلبرغ لوكاس بإشراك طفل في بطولة الجزء الثاني، وكذلك كان ، فتشكلت حول البطل والرفيقة والطفل نواة أسرة وهي إن لم تكن أسرة بيولوجية، فإن الاختيار مرر فكرة أن المغامرة لم تعد شأنا خاصا بالبطل، وإنما الأسرة هي التي تخرج برمتها للمغامرة، ما يشي بذكاء تسويقي استهدف تشجيع المشاهدة العائلية التي هي من مقومات سينما لوكاس وسبيلبرغ. في الجزء الثالث شَكّل دخول شون كونوري في دور الأب قيمة مضافة فتحت المجال لتطوير الشخصية.

وفي الجزء الرابع اكتشف المشاهد أن لانديانا جونز إبن، غير أن علاقتهما لم تتطور ليتولد عنها نوعا من الاستمرارية والتسليم كما في علاقة البطل بأبيه في الجزء الثالث ، في الجزء الخامس كان الجيل الرابع هو الذي دخل في شخص الحفيدة، ما جعلنا نثبت للسلسلة إعلائها لإحدى القيم الأمريكية المحافظة هي محورية الأسرة في التنظيم الاجتماعي.

الفكاهة: من العلامات المميزة للسلسلة؛ تغليف بعض المشاهد والمواقف بالفكاهة، وصار من العادي في القاعات السينمائية أن تقطع القهقهات ذلك الجو المشحون بالإثارة والترقب ، ما يؤكد مرة أخرى الذكاء التجاري لصناع السلسلة بدمج مختلف أجناس الفيلم الترفيهي ( الكوميديا والحركة ) في فيلم واحد.

الموسيقى التصويرية: هي البصمة الخاصة للسلسلة، وقد أراد من ورائها مؤلفها جون ويليامز الذي اشتهر قبل ذلك بوضع موسيقى فيلمي “حرب النجوم”- 1977 و”سوبرمان”- 1978؛ إضفاء بعد بطولي على الموسيقى والربط بينها وبين البطل عن طريق مقاطع موسيقية بسيطة التركيب سهلة التذكر وميسرة التمييز موظفا لذلك آلة الترومبيت وإيقاع المارش العسكري، أتذكر حين شاهدت الأجزاء الأولى بالقاعات السينمائية أن الجمهور كان ينخرط عفويا في التصفيق كلما تناهت إلى أسماعه هذه الموسيقى في خلفية بعض مشاهد الخلاص، ما يفيد في نظرنا أن وراء الموسيقى تفكيرا موسيقيا متوقدا نجح في إعطاء الميلوديا بعدا بطوليا يعضد السرد الفيلمي في العمل.

المؤثرات الخاصة: هي بهارات الوجبة التي تفتح شهية المشاهد، وهي أيضا من ثوابث سينما سبيلبرغ. على امتداد الأجزاء الخمسة، ستأخذ هذه المؤثرات جزءا معتبرا في ميزانية الإنتاج وصولا إلى تحقيق الغرض الرئيسي وهو أسر المشاهد طيلة أطوار الفيلم، بحيث يظل متسمرا في كرسيه، لا يدخله ملل ولا يصيبه كلل حتى إذا غادر القاعة نسي كل شيء، ما يقودنا إلى طرح التساؤل الأهم وهو هل تحمل السلسلة خطابا أم أنها لا تجاوز كونها سينما للترفيه  

الخطاب المضمر

مبدئيا تندرج سلسلة انديانا جونز ضمن أفلام الترفيه ذات البعد التجاري، ومن تم ليس مطلوب منها أن تدفع المشاهد للتفكير أو التأمل، بل إن النقاد بل وسبيلبرغ نفسه يصنفونها ضمن أفلام الفشار Popcorn movies دليلا على أنها لا ينبغي أن تؤخذ مأخذ الجد.

ورغم ذلك، نعتقد أن الأحداث التاريخية التي لامستها والرموز الدينية التي عرضت لها يهودية كانت أم مسيحية، تنبئ بخطاب مضمر. تاريخيا ظهرت السلسلة وحققت أفلامها الدالة إبان حكم رونالد ريجان (1981-1988)، وحين نتحدث عن سنوات ريجان، فإننا نستحضر سياسة المحافظين الجدد الذين راموا إرجاع عظمة أمريكا وفرض احترامها، لذا لم يخرج الفيلم عن هذا الخط الامبريالي، فانديانا جونز هو ترويج لفكرة السوبرمان الأمريكي الذي لا يقهر ويخرج من جميع النزالات ظافرا، وعظمته من عظمة أمريكا حتى إنه في الجزء الأول ينتهي تابوت العهد المفقود في إحدى مستودعات الجيش الأمريكي محققا النبوءة العبرية القائلة بأن الجيش الذي يحوز التابوت لن يهزم أبدا.

البطل الثمانيني

تسخر أفلام السلسلة من مختلف القوميات وتقدمها في أسلوب كاريكاتيري، الفرنسي محتال ومرتزق، والصيني غدار، والألمان قوة ممزوجة بالغباء، والسوفيت أشرار يتهددون أمن العالم، والهنود يأكلون الأفاعي ويقدمون الفاكهة في رؤوس القردة، وسكان أمريكا الأصليين والعرب والأتراك متخلفون.

على أن ما تقدم لا يعني أن السلسلة معادية للعرب، بل على العكس يمكننا اعتبارها من الأعمال القليلة في هوليوود التي قدمت العربي في صورة مشرفة، فظهر صلاح فيصل القاهر مقاول أنفار الحفر المصري (أدى دوره الممثل الويلزي جون رايس ديفيس) شهما وشجاعا وخدوما، ورافق البطل في ثلاث من مغامراته الخمس وكانت تلك حالة من الحالات جد النادرة في السينما الأمريكية التي يعامل فيه العربي باعتباره صديقا مقربا من البطل.

يخيل للمشاهد أن لسلسلة انديانا جونز ثأرا ما فتئت تصفيه مع النازية، فكان النازيون غرماء البطل في ثلاثة أجزاء من الخمسة التي أنجزت من السلسلة، والأغرب أن أي جزء من الأجزاء الثلاثة لم يترك طريقة إلا ووظفها للامعان من السخرية والتعريض بالنازيين، ونعتقد أن الأصول اليهودية للمنتج والسيناريست جورج لوكاس والمخرج ستيفن سبليبرج ليست بعيدة عن هذا التوجه.  

في نظر أصحاب الاختصاص من علماء الآثار، لا يمثل الدكتور جونز أهل الاختصاص، لأن السواد الأعظم من عمل عالم الآثار يتم في المكتبات ودراسة الوثائق وتتبع المراجع، أما بطلنا فيعتبرونه لص قبور أكثر منه عالم آثار، وهم لا يستسيغون مثلا إقدامه في الجزء الثاني على مقايضة رماد رفات الإمبراطور الصيني نيرهاشي بقطعة من الألماس.  

بعد كل ما تقدم، يمكن أن نتساءل أخيرا عن مستقبل السلسلة، وفي هذا الصدد يجدر أن نسجل أن الأفلام المتسلسلة تستنفذ أغراضها وجاذبيتها من حيث المشاهدة مع مرور الوقت؛ والدليل أن الأفلام التي تخرج عن طرزان وزورو بين الفينة والأخرى لا تترك أثرا يذكر، وسلسلة جيمس بوند فقدت زخمها مع اعتزال شون كونري وروجر مور رغم تعاقب عديد ممثلين ، أنديانا حونز نفسه بقي يدور في حلقة مفرغة منذ الجزء الثالث ولم يستطع أن يقدم جديدا يغري المشاهدين الذين افتتنوا بأجزائه الأولى والاضطراب الذي عرفه الجزئين الأخيرين خير دليل على ذلك ، يضاف إلى ما تقدم الصعوبة الناتجة عن تعويض ممثل اقترن اسمه بالشخصية لأربعة عقود، لكل ذلك ثمة من يرى في الجزء الخامس الأخير، وهو ما لا نشاطره لأن والت ديزني ما استثمرت في اقتناء حقوق السلسلة لتتوقف عند جزء وحيد ، والأكيد أن أنها ستعيد الكرة، لكن هل النجاح مضمون وهل تستطيع مستقبلا تجاوز السقف الذي رفعه سبيلبرغ في الجزئين الأول والثالث؟

* كاتب من المغرب        

Visited 1 times, 1 visit(s) today