“إلى أين تذهبين يا عايدة”.. وجوه تحت الحصار
لم تكن أغلب التوقعات تشير إلى حصول فيلم “Quo Vadis, Aida”أو “إلى أين تذهبين يا عايدة” من دولة البوسنة والهرسك على جائزة النجمة الذهبية أرفع الجوائز في مهرجان الجونة السينمائي الذي انتهت دورته الرابعة منذ أيام، وذلك بسبب تواجد أفلام في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة نسبيا أفضل منه فنيا، حتى أن رئيس لجنة التحكيم المخرج الإنجليزي بيتر ويبر أثناء توزيع الجوائز أطلق كلمة “فيلمي المفضل” على الإيطالي “حكايات سيئة”Bad Tales الذي حصد جائزة النجمة الفضية، لكن يبدو أن الأغلبية داخل اللجنة كان لهم انحياز للقضية الإنسانية التي طرحها الفيلم البوسني، وعلى النقيض كانت أغلب التوقعات تشير إلى حصول بطلة الفيلم ياسنا دوريستش على جائزة أفضل ممثلة وهو ما تحقق.
تستحق البطلة الجائزة بجدارة حتى وان كانت رؤيتي الشخصية تنحاز للإيطالية ألبا رورفاكر بطل فيلم “الروابط”، لكن أيضا ياسنا قدمت أداءا مذهلا فقد كانت هي المحور الرئيسي للأحداث طوال الفيلم، والعنصر الذي ربط بين طرفي الصراع في الحبكة وهما القوات الدولية الهولندية وأهل مدينة سربرنيستا البوسنية، التي شهدت المجزرة الشهيرة التي وقعت في يوليو عام 1995 حيث تم تصفية نصف سكان تلك المدينة بعد لجوئهم إلى قاعدة عسكرية للقوات الدولية والتي تشكلت من قوات هولندية بسبب تخاذلهم وتقاعسهم في القيام بدورهم وتسليم اللاجئين كلقمة سائغة إلى القوات الصربية تحت قيادة راتكو ميلاديش الذي حكم عليه بالسجن مدى الحياة من قبل محكمة العدل الدولية في نوفمبر عام 2017 باتهامه في أعمال إبادة جماعية أثناء الحرب التي مزقت يوغوسلافيا سابقا عام في الفترة من 1992 إلى 1995 .
تعد حرب البلقان بنظرة نسائية، القضية الأساسية التي تطرحها مخرجة الفيلم ياسميلا زبانيتش المولودة في مدينة سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك حتى من قبل أول أفلامها الروائية الطويلة “جربافيستا :أرض أحلامي” الذي حصدت من خلاله على جائزة الدب الذهبي من مهرجان برلين عام 2006، حيث قدمت فيلمين قصيرين عن تلك الحرب الأول بعنوان “أحذية مطاطية حمراء” والثاني “صنع في سراييفو”، وفي 2013 قدمت فيلمها الروائي الطويل الثاني الذي حمل اسم “من أجل هؤلاء الذين لا يستطيعون أن يحكوا حكايتهم”، والفارق بينه وبين فيلمها الجديد أن ياسميلا عادت لأن تسرد تفاصيل الحرب على لسان امرأة من البوسنة عكس الفيلم السابق فقد كانت الأحداث من منظور سيدة أجنبية كانت أكثر جهلا بالقضية و
وكانت كأنها عيون مجرد دورها المراقبة والكشف، لكن عايدة في الفيلم الجديد هي من أهل مدينة سربرنيتسا.
عايدة مدرسة لغة إنجليزية يتم الاستعانة بها للعمل كمترجمة لصالح القوات الدولية الهولندية التي تتبع الأمم المتحدة في مدينة سربرنيتسا التي تمت محاصرتها من قبل القوات الصربية بقيادة ميلاديش فيقوم سكان تلك المدينة باللجوء إلى تلك القاعدة العسكرية بهدف الاحتماء بها، ولأن القاعدة لا تتسع لكل هذا العدد فيقوم الهولنديون باستيعاب عدد قليل من اللاجئين بينما ينتظر العدد الأكبر في الخارج، وتستغل عايدة وجودها داخل القاعدة وتقوم بحيلة تسمح لعائلتها “الزوج وأبنين” بالدخول والاحتماء داخل القاعدة ظنا منها أن القوات الدولية ستوفر لهم الحماية قبل أن تتعرض للخذلان من الجميع.
كاميرا المخرجة ياسميلا زبانيتش في أغلب أحداث الفيلم مركزة على وجه البطلة التي هي محور الاحداث من خلال لقطات قصيرة جدا على الوجه من خلال التركيز على نظارتها الحادة وحالة التوتر والريبة التي انتابتها في كل مرحلة تتعلق بشخصية عايدة، في البداية الاحساس بأنها في مهمة قومية من اجل مساعدة بلدتها، ثم محاولات انقاذ أسرتها، ثم المرحلة الأهم الخاصة بالشك في نوايا القوات الدولية أو قلة حيلتهم تجاه المسألة برمتها، والمرحلة الأخيرة الخاصة بالاستماتة في حماية أسرتها فقط دون غيرهم التي جعلت السكان والجيران يصفون عايدة بالأنانية واستغلال منصبها لكن أوقات الحروب تجعل الإنسان يفقد جزء من انسانيته بهدف حماية من يحب.
وخلال المواجهات بين عايدة وقائد القوات الدولية يطرح السؤال: لماذا نحمي أسرتك فقط دون غيرهم؟، ولا تسطيع عايدة الرد سوى بنظرات الأعين الحزينة المنكسرة كأنها تريد أن تقول “عائلتي”، فهذه هي الحروب.
اللقطات القريبة التي أفرطت المخرجة في استخدامها جعلت المشاهد أكثر تفاعلا مع الأحداث واكثر قربا من هذا الحصار، فالمخرجة تعمدت هذا لتجعلنا محاصرين مع بطلتها، فالحصار هو السمة الأساسية للفيلم.
فعايدة محاصرة في حالة من التناقض بين مهمة عملها وحماية أسرتها، زوجها محاصر بين نظرات أهل المدينة له وبين رغبته في الحفاظ على أبنائه، سكان المدينة محاصرون بين نيران القوات الصربية وسياج قاعدة القوات الدولية، حتى تلك القوات الدولية فهم أيضا محاصرون بين عدم وجود دور محدد لمهمتهم أو تواجدهم من الأساس في تلك المدينة وبين انتظار التعليمات من الأمم المتحدة، فالجميع محاصرون.
وتميزت المخرجة في المزج بين عرض تفاصيل الحالة العامة التي تتعلق بالحرب ومحاولات الإبداة الصربية لسكان المدينة، وبين الحالة الخاصة التي بنيت عليها أحداث فيلمها المتمثلة في المترجمة عايدة وأسرتها التي تبحث عن حمايتهم.
ورغم أن احداث ونهاية تلك المجزرة معروفة للجميع إلا أن المخرجة نجحت باقتدار في اقناع المشاهدين باحتمالية نجاح بطلتها في توفير الحماية لأسرتها رغم ان كل الشواهد تؤكد عكس ذلك، ودعم هذا الأداء المبهر للبطلة ياسنا دوريسيتش خاصة في تطويعها لنظرات الأعين وتعبيرات الوجه لنقل مشاعر متباينة حول تلك الشخصية وتلك الحالة التي فرضت في هذا الفيلم الذي رشحته دولة البوسنة والهرسك ليمثلها في ترشيحات جائزة أوسكار أفضل فيلم ناطق بغلة أجنبية.
هناك مشهد بديع قدمته كلا من لمخرجة والبطلة الخاص بنظرات عايدة وبجثها عن أسرتها وسط أشلاء الجثث، فقد كان هذا المشهد من القلائل في الفيلم الذي اختارت مخرجته أن يكون بلقطة واسعة لتثبت أن الحصار انتهى لكن ويلات الحروب ستزال باقية في حياة عايدة القادمة، مشاعرها ستكون مزيج من الحزن عليهم والخذلان لعدم قدرتها على انقاذهم.
لكن سيظل المربك في الأمر مسألة اختيار اسم الفيلم باللغة اللاتينية دون أي وجود ضرورة درامية وكان هذا هو السؤال الذي طرحه عدد من ضيوف مهرجان الجونة، لكن يبقى تصوري أن هذا جاء بسبب أن المخرجة أرادت أن تقول أن الحرب اندثرت مثل اللغة اللاتينية لكن آثارها مازلت باقية، فهذه اللقة ليست مستخدمة حاليا لكن انشق منها معظم اللغات الأوروبية.