ألكسندر سوكوروف: آخر السينمائيين الروس العظماء
عندما منحت الأكاديمية الأوروبية للسينما جائزة الإنجاز الفني إلى المخرج الروسي ألكسندر سوكوروف عن إسهامه السينمائي الكبير خلال سنوات عمله في السينما.، قالت في بيانها الذي أصدرته بهذه المناسبة “إن سوكوروف ككاتب ومخرج مستمر في كونه صوتا هاما وملهما في السينما الروسية والأوروبية، ليس فقط من الناحية الفنية بل أيضا بالتزامه الشجاع في الدفاع عن حرية الرأي والتعبير الفني والقيم الإنسانية”.
ينتمي ألكسندر سوكوروف إلى عصرنا، لكنه يبدو كما لو كان ينتمي إلى عصر مضى، عصر الفنون العظيمة: كلاسيكيات الفن التشكيلي والأوبرا والموسيقى. إنه يخرج الأفلام، لكنه لا يبدو على قناعة بأن ما يبدعه من أفلام يدخل في مجال “الفن”.
يرى سوكوروف أن الفن العظيم كان في الماضي، وأنه كسينمائي مجرد “حرفي” أي “صنايعي” يؤدي عملا، وظيفة، أو حرفة لا علاقة لها بالفن. صحيح أنها تتعيّش على الفنون، لكنها تبقى مجرد صنعة. وهو يواصل العمل السينمائي، لا عن قناعة، بل عن اعتياد. هذا الاعتقاد يثير الكثير من التساؤلات حول هذا الفنان الغريب وموقفه الفكري من العالم ومن الفن: هل هو افتعال للتواضع أم أنه نابع عن موقف له جذوره وأسبابه؟
سوكوروف لا يعتبر السينما فنا رفيعا بدعوى أن هناك أدوات وتقنيات كثيرة تتدخل في تشكيل الفيلم. فالفيلم عنده أدنى من الأدب والرسم والموسيقى والعمارة والعلوم ويجب أن يبقى في الذيل، كما أن تأثير الصورة قد يكون مدمرا.
ولد سوكوروف عام 1951 في سيبيريا، ودرس التاريخ في جامعة غوركي، والسينما في معهد موسكو السينمائي، وتخرج عام 1979. ومنذ أول أفلامه “الصوت الوحيد للإنسان” وهو من إنتاج المعهد (عام 1978) يتأمل سوكوروف الواقع كمحصلة للتاريخ، ولا ينظر إلى الحاضر بمعزل عن الماضي، وقد أخرج الأفلام التسجيلية والروائية والأفلام القصيرة والطويلة ومتوسطة الطول، لكن الموضوع عنده هو الذي يختار جنس الفيلم، والإيقاع هو الذي يحدد مدة عرضه. وقد أخرج أكثر من 60 فيلماً ومنعت أفلامه السوفييتية من العرض إلى أن تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1990. ومن أهم أفلامه “ثلاثية طغاة القرن العشرين” التي بدأها بفيلم “مولوخ” عام 1999.
الفيلم والفن
أفلام سوكوروف متنوعة في مواضيعها لكنها متشابهة في أسلوبها، فهو يرغب في مضاهاة الفيلم بالفن التشكيلي، باللوحات التأثيرية، لذلك فهو يستخدم في معظم أفلامه الروائية تقنيات تجعل الصورة ضبابية، شاحبة، لا تبدو في البؤرة تماما، مما يسبب الإرهاق لعين المتفرج الذي يكافح لكي يقرأ تفاصيل الصورة، فهو لا يريد أن يجعل الفيلم أداة للوصف، بل للشعور، لنوع من التأمل الروحاني إن جاز التعبير. وهو أقرب في مفهومه للسينما -وليس بالضرورة في أسلوبه- إلى الفرنسي لوي بريسون الذي يقول إنه يحتفظ بمجموعة من أفلامه وإنه يشاهدها باستمرار رغم أنه لا يحب مشاهدة الأفلام، وإنه عندما يشاهد أفلام بريسون يشعر بالتحرّر التام من الخوف، لذلك يرى أن الفرنسيين لا يفهمون أفلامه “فهي أعظم حتى من بلد مثل فرنسا”!
ثلاثية أفلام “طغاة القرن العشرين” تتناول ثلاث شخصيات تاريخية هي هتلر ولينين وهيروهيتو إمبراطور اليابان، وهو يعيد تناول هذه الشخصيات التي لعبت دورا كبيرا في تاريخ بلادها، يصنع عائقا أمام الفنان، لكن بعيدا عن السائد والمألوف أي عن التاريخي والسياسي والأيديولوجي، فهي تركز على الشخصي الإنساني أي تسعى لكشف الجوانب الداخلية في الشخصية.
مولوخ
في الفيلم الأول في الثلاثية “مولوخ” Moloch (وهي كلمة توراتية تعني الإله الذي يُضحى بالأطفال من أجله) لا يتوقف سوكوروف أمام الزعيم النازي هتلر في حروبه وغزواته واجتماعاته بقياداته العسكرية وتخطيطه للغزوات، لكنه يقدم رؤية أخرى داخلية لهتلر “الإنسان” فوراء كل شخصية عامة إنسان، مهما كان رأينا في هذا الإنسان. وهتلر كما نراه في الفيلم، يذهب لقضاء عطلة “ويك إند” في منزله الشهير المشيّد فوق ربوة في جبال بافاريا، لكي يرى عشيقته إيفا براون، ويلحق به بعض رجال حاشيته مثل بورمان سكرتيره الشخصي ووزير دعايته جوبلز وزوجته “ماجدا”، في حضور دائم للشخص المكلف بتسجيل كل ما يدور من أحاديث سواء على مائدة الطعام أو في الجلسات الخاصة، بطريقة الاختزال.
هتلر من الداخل
يركز الفيلم على هتلر الحزين المكتئب المصاب بالهاجس القهري، فهو يشكو من المرض وخاصة السرطان، ويعبّر عن هاجسه بتناول الأطعمة النباتية، يتشاحن مع إيفا براون التي تؤكد له أنه مصاب بوساوس لا أساس لها، وهي تسخر منه وتركله وتتساءل: من غيري يمكنه أن يعارضك؟ إنها تبدو كاملة اللياقة البدنية، تقضي الوقت في الاستماع للموسيقى والرقص عارية، تعاني من الملل داخل جنبات القصر الكئيب الخانق بردهاته الطويلة، شاحبة الإضاءة. هتلر لا يتحدث قط عن الحرب والمعارك حتى بعد أن يعرض عليه غوبلز فيلما حربيا لانتصارات الجيش الألماني، بل يتركز كل تعليقه على توجيه النقد لمخرج الفيلم ومصوّريه، وفنيي الإضاءة والمونتاج. وعندما يعلق بورمان بأنه يجب إرسالهم إلى “أوشفيتز” يتساءل هتلر في عفوية: وما هو أوشفيتز؟ وأين يقع؟
ينتقد الموسيقى الحديثة ويتحدث كثيرا عن إعجابه بالأوبرا، وموتسارت، ورغم ذلك يرقص بشكل طفولي ويصدر أصواتا مثل صوت البطة وهو يحرك ساقيه بطريقة هزلية. ويطلق على إيفا براون “فتاة الكورس”، ويسخر من غباء بورمان، ويوبّخ جوبلز على سوء اختياره، فسوكوروف يريد أن يصور زعماء النازية في صورة البلهاء الذين يكشفون عن حقيقتهم داخل غرف النوم، وفي أحاديثهم الشخصية (سخريتهم مثلا من الرائحة القذرة التي تصدر من بورمان)، نفاقهم لهتلر وعدم إبداء أيّ معارضة لما يقوله مهما كان تافها: إنه يقول مثلا، إن سبب إعلانه الحرب على الاتحاد السوفييتي أنه نصح ستالين بعدم تشييد مقر له أعلى من أيّ مبنى في برلين، وأن الغابات الموجودة في روسيا البيضاء وأوكرانيا تصيب ألمانيا بالرطوبة مما يجعل الألمان كسالى.
هتلر كما يتصوره سوكوروف ليس الزعيم العنيف الذي ارتكب المذابح الجماعية واضطهد اليهود، بل الشخص (العادي) أو “الميديوكر” الذي اعتدى أساسا على الجمال والفن وعلى الروح الألمانية والمثاليات الفنية. إنه رمز للفظاظة والعجز عن رؤية الجمال: في لقطة من بعيد نراه وهو يتبرّز وسط الطبيعة بين أشجار الغابة.
يجعل سوكوروف إيفا براون أكثر الجميع ذكاء ومعرفة وحكمة، وقبل نهاية الفيلم مباشرة يقول هتلر إن الطاعون سيختفي من الأرض، و”إننا سنهزم الموت”. تقترب منه إيفا وتسأله باستنكار بعد أن يكون قد ركب السيارة استعدادا للرحيل: كيف يمكنك أن تقول هذا؟ الموت هو الموت، لا يمكن قهره. يحدق في وجهها لبرهة ثم يلتفت ويطلب من السائق أن يقود السيارة ويبتعد.
في فيلم “طاوروس” (أي الثور) نرى لينين في أيامه الأخيرة بعد أن أقعده المرض وأصبح ستالين يتحكم فيه ويصدر القرارات باسمه، وكيف أدرك لينين رغم مرضه وعجزه نذالة ستالين وأراد أن يعزله إلا أن الأخير تآمر عليه وعجّل بموته. ويدور التصوير داخل منزل لينين المفترض في مدينة غوركي، ويكشف الفيلم من خلال توقفه طويلا أمام عجز لينين كيف أصبح هذا العقل الجبار عاجزا مشلولا فاقد الإرادة.
هناك بعض التشابه بين “طاوروس” Tarus والفيلم التالي في الثلاثية “الشمس” The Sun عن إمبراطور اليابان هيروهيتو الذي كان يعتبر إلها يقدّسه الشعب، وكيف يهبط من عليائه بعد هزيمة بلاده في الحرب العالمية لنراه إنسانا بسيطا متلعثما مترددا خائفا، أقرب إلى السذاجة، يهبط للمرة الأولى من فوق قمة الجبل، إلى حيث يجلس أمام القائد الأميركي المنتصر الجنرال ماك آرثر. لكنه رغم ضعفه الظاهر أقوى في روحه من الأميركي، إنها عظمة اليابان وقوتها الروحية الداخلية في مواجهة الهمجية الأميركية والجهل بالتاريخ.
يرى سوكوروف أن الفيلم مثل صديق هو الذي يمكنه أن ينهي عباراتنا التي لم نكملها، ولكنه ليس وسيلة للاتصال، بل حياة أخرى قائمة بذاتها ولكن من دون أن يصبح محدد المعالم، أو محكوما بحدود، فهو لا يزال ابتكارا بدائيا. والفيلم يختلف عن الرواية في أن المخرج لا يعرف أين يتوقّف في الوقت المناسب عن السرد، بل يريد أن يستمر لكي يروي كل شيء.
“فاوست” Faust (الحاصل على جائزة الأسد الذهبي في فينسيا) يقوم الدكتور فاوست في المشهد الأول بتشريح جسد إنساني متغلغلا في أحشائه كما لو كان يبحث عن الروح. وعندما يرغب فاوست أن ينال اللذة يتعين عليه أن يرهن روحه لمن يريد الاستيلاء عليه (معادل الشيطان عند غوته) ولكنه الوجه الآخر من فاوست نفسه: وبينما يؤمن فاوست أنه في البدء كانت الكلمة، يردد نقيضه أنه في البدء كان الرهن. وعندما يتمكن فاوست في النهاية من دفن “الشيطان” المفترض تحت الأحجار يجد نفسه وقد أصبح تائها عاجزا عن الوصول إلى المعرفة.
مرثية لأوروبا
من الصعوبات التي تواجه كل من يريد الاستمتاع بأفلام سوكوروف أنها ليست سهلة، منبسطة، واضحة المعالم، فهو يتعامل مع الفيلم كما لو كان لوحة، ولكنه يستخدم عادة شريطا صوتيا متعدد الطبقات والمستويات، كثير الحوارات والأصوات. غير أن فيلمه الأخير “فرانكوفونيا: مرثية لأوروبا” Francofonia، نموذج مثالي للسينما الخالصة التي تعتمد على الفنون التي تنفرد بها لغة السينما عن غيرها من الفنون، أي التصوير والمونتاج والميكساج أو العلاقة بين الصوت والصورة.
محور الفيلم هو متحف اللوفر في باريس، وهو ثاني فيلم يخرجه عن متحف كبير من معالم الدنيا، بعد فيلم “الفلك الروسى” Russian Ark الذي أخرجه عام 2002 عن متحف الأرميتاج في بطرسبورغ. سوكوروف هنا يعبر عن القرن العشرين كأوروبي، وليس كروسي فقط. ويرثى حال أوروبا التي شهدت في ذلك القرن حربين عالميتين قتل فيهما أكثر من 60 مليون إنسان.
يبدأ الفيلم وينتهي بسوكوروف نفسه وهو يتابع مع صديقه إريك سفينة ضخمة في عرض البحر تحمل لوحات وتماثيل وتتعرض لعاصفة شديدة، نعود إلى هذه السفينة عدة مرات خلال الفيلم. وبعد مشهد البداية نرى صورة تولستوي ميتاً على الفراش، وصورة تشيكوف ميتاً في التابوت. وقد ماتا مع مطلع القرن العشرين. وأكثر من مرة يهتف سوكوروف على شريط الصوت استيقظ يا تولستوي، استيقظ يا تشيكوف، معبراً عن الحاجة لوجودهما.
نرى الكثير من الأعمال الفنية والآثار التاريخية في متحف اللوفر، من أقدمها، تمثال عمره تسعة آلاف سنة عثر عليه في الأردن عام 1972 ثم الآثار المصرية القديمة، ومنها مومياء كاملة، ثم موناليزا دافنشي، وغيرها من روائع اللوحات الأوروبية. وأمام إحدى اللوحات التي تصور “ماريان” رمز فرنسا، تخرج ماريان من اللوحة وتتحرك في ردهات اللوفر طوال الفيلم مرددة شعار الثورة الفرنسية “الحرية-الإخاء-المساواة”. كما يتجسد بونابرت أمام إحدى اللوحات التي تصوره، ثم يتجول في المتحف، ويسخر منه سوكوروف، كما يسخر من كل الطغاة، فأمام كل لوحة يقول “هذا أنا” حتى أمام موناليزا.
“ماذا تكون فرنسا من دون اللوفر، وماذا تكون روسيا من دون الأرميتاج؟”.
يربط الفيلم بين تاريخ اللوفر وتاريخ القرن العشرين من خلال وثائق الحربين، ويستخدم مشاهد من الأفلام الروائية والجرائد السينمائية للتعبير عن هذا التاريخ كما عبّرت عنه السينما باعتبارها فن ذلك القرن. الجانب الدرامي في الفيلم يصور كيف أن الحرب رمز للهمجية بينما الفن رمز للحضارة من خلال العلاقة بين مدير متحف اللوفر جاك شاجار والضابط النازى الكونت فرانز وولف- ميترنيخ المسؤول عن حماية المتحف. هنا يمزج سوكوروف التمثيلي بالتسجيلي بالوثائقي في بناء ممتع ليصور كيف تعاون الرجلان في إنقاذ كنوز الفن رغم أنف النازية.
إنها علاقة تُعلى من شأن الإنسان ومن شأن الفن، كما يعلى الفيلم من شأن السينما، وربما يعكس نكوص سوكوروف عن ازدرائه للسينما التي يعد أحد كبار مبدعيها!