أزمة الناقد السينمائي في عصر اللجان الإلكترونية
منار خالد
يقع الناقد السينمائي في عدة أزمات، تبدأ من طبيعة فهم عمله من الأساس، فوفقًا للتعريفات الأكاديمية، يذكر عبدالعزيز علوان على سبيل المثال، في كتابه “أعلام النقد الفني في التاريخ” أن الناقد هو من يقوم “بتوصيف العمل الفني وتحديد شخصياته، وإدخال الجمهور إلى دنيا العمل، من أجل تذوقه، وكشف مواطن الجمال فيه، ومساعدة الفنان ذاته في تطوره نحو المستقبل، وتحديد مكانة العمل الفني بالنسبة لإنتاج الفنان وتاريخ الفن في الإطارين الاجتماعي والإبداعي، اللذين ظهر فيهما العمل الفني، والتعريف بقيمة هذا العمل بالنسبة لمسيرة الحركة الفنية المحلية والعالمية”.
أي أن الناقد السينمائي يقوم بأدوار عدة مؤثرة في الحركة الفنية من خلال مهنته، تبدأ من التواصل مع الجمهور، من خلال محاولة قراءة العمل السينمائي، ثم فك وتحليل شفراته وعناصره، ثم بالتواصل والتشابك مع المجتمع ذاته، من خلال وضع العمل في سياق إنتاجاته الفنية وتاريخ عرضه، ثم التواصل والإفادة التي يحققها مع صناع الأفلام أنفسهم وما يقدمه لهم من مساعدة في تطوير ابداعاتهم اللاحقة.
تعتبر الفنون بصفة عامة، والسينما على بصفة خاصة، عملية إبداعية اتصالية قائمة على علاقة تبادلية بين المبدع والمتلقي، وتتكون تلك العملية من ثلاثة عناصر أساسية وهي: (مُرسل)، (رسالة/ العمل الفني)، (مرسل إليه).
ويحتل الناقد مرتبة هامة بداخلها، بل ويساهم في اكتمالها، فهو ذلك الوسيط الذي يتساوى في صفوف الجماهير أثناء المشاهدة أولًا، ثم بكتاباته، يكون معاونًا للجمهور وللمبدع في آن.
هذا التمهيد الذي يوضح دور الناقد، يظهر أنه لا عداء بين الناقد وصانع العمل مطلقًا، بل من المفترض أنه يساهم في تحقيق الكمال، وهذا بالطبع لشخص الناقد النزيه الموضوعي المحايد، دون الانسياق نحو المجاملات أو المصالح الشخصية، لذا فالنقد شأنه شأن أي مهنة أخرى، يمكن أن يشهد انحرافات شخصية، لكن النقد في ذاته، لم يكن في يوم من الأيام، عدوًا للمبدعين أو للجمهور كما يتم تصويره كثيرا.
الناقد عدو المبدع!
يذكر د. فؤاد زكريا في كتابه “آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة”، “أن النقد الموضوعي جزء لا يتجزأ من الحياة العقلية في البلاد ذات التقاليد العلمية الراسخة، أما في بلادنا -على مستوى الأشخاص- فهو لا يقل خطورة عن إعلان الحرب بين الدول، إنه يؤخذ على مظهر خصومة ودليل على العداء”.
وبالعودة للبحث في أصول الأشياء سنجد أن ليس كل من يمتلك رأيًا يسمى ناقدًا بالضرورة، فكثيرا ما نرى كتابات مشحونة بالسب والتوجهات والأيديولوجيات تفتقر الفهم السليم لماهية النقد، مما يُنتج صورة غير حقيقية عن أهميته ودوره في حِراك العملية الفنية.
فالنقد الفني يختلف عن حالة الانتقاد العامة، لأن إنتاج عمل نقدي متكامل يعتبر بمثابة إنتاج إبداعي يحكم سياقه منهج أو عدة مناهج، لذلك يحدث تقييم الفنون من منظور غير فني لغطًا كبيرًا سببه في الأساس، سوء فهم ماهية الفنون.
فالعمل الفني ما هو إلا طرح فرضية درامية في ظروف وتفاصيل نابعة من هم المبدع ذاته، وما على الناقد إلا أن يراها فنيا ويشرع في آلية الطرح الفني والتحليلي لا غيره.
على مدار تاريخ السينما بأكمله حدثت العديد من المشادات بين المبدع والناقد، ظهرت في البرامج الحوارية والكتابات التي تنشر في المجلات والصحف الفنية، باعتبار أن الناقد عدو هجومي في المقام الأول، ومع تطور الزمن والأدوات، تطورت تلك المشاجرات لتصبح علانية على مواقع التواصل الاجتماعي، بل ولم تعد تقتصر على كونها مشادات كلامية، بل أصابت أيضا صاحب رأي سواء أكان ناقدًا أم من الجمهور العادي.
اللجنة في مواجهة النقد
اختلفت آليات العصر وفقًا للتطور التكنولوجي والفكري والثقافي، ومنها أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي جزءًا أساسيًا من حياة الجميع، وجزءً لا يتجزأ أيضًا من مهنة النقد، حيث يتمتع كل ناقد سينمائي بصفحة خاصة أو حساب رسمي ينشر من خلاله آراءه سواء المنشورة على مواقع متخصصة، أو التي لم تنشر بعد، بهدف التواصل مع أكبر عدد ممكن من القراء.
وقد ظهر في الآونة الأخيرة ما يعرف بـ”اللجان الإلكترونية” أو Electronic Committees ويقصد بها مجموعة من الأشخاص يمتلكون حسابات، الرسمية منها والوهمية، ويمكن من خلالها ترويج منشور واحد ونشره في عدة صفحات تحت أسماء مختلفة، ومنها ولد شكل مغاير للرأي النقدي يتواجد على العديد من الصفحات المدفوعة بهدف الترويج للعمل السينمائي، وهذا لم يكن بجديد تماما، بل كان هناك في زمن ماضي ما يسمى بـ”شراء الأقلام،” ولكنها فقط آلية متجددة بطبيعة التطور الذي نحياه.
وعلى سبيل المثال لا الحصر لقي الفيلم الأخير للممثل المصري محمد هنيدي وهو فيلم “مرعي البريمو”، تحليلات نقدية هامة تؤكد عدم جودته من حيث ضعف عناصر الصورة والكتابة والأداء التمثيلي في مقابل انتشار “بوست” مكرر بين تلك الصفحات المذكورة، تؤكد مدى جودته، وتفوق عنصر الكوميديا فيه وعناصر الإخراج والكتابة، كصفحة (Gramaphone. Views. Its my world) وغيرها من الصفحات ذات الرواج الكبير، وأخرى أقل رواجا، لكنها تصدر ضمن خطة تصدير صورة مضادة لغالبية الآراء النقدية المنتشرة، من أجل التشكيك فيها من جهة، ومحاولة تسويق للفيلم وجلب الجمهور له من جهة أخرى.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أصبح عمل تلك اللجان الإلكترونية يرمي أيضا إلى غلق صفحات النقاد السينمائيين وحذف مقالات أصحاب الآراء التي يتخيل صناع العمل أنها تشكل خطرًا حقيقيًأ على الفيلم.
ومن تلك الظاهرة يتضح أن فهم بعض المبدعون لمهنة النقد عامة هو فهم خاطئ، حيث لا يوجد وعي كاف بأهمية دور النقد في التطوير، بل والتعامل معه بصفة عدائية مباشرة، تصل لحذف النقد تماما.
وسنذكر مثالًا ختاميًا بل وواقعة شخصية، حيث نشرت منشورًا عن أداء الممثل الشاب “عصام السقا”، إلا أنه تم حذف هذا المنشور مباشرة، وكانت الذريعة، أنني استخدمت صورة الممثل المرفقة بالمنشور من دون الحصول على حق نشرها، ومن هذا المثال تتضح طريقة عمل تلك اللجان أيا ما كانت تتبع ولصالح من تعمل، فهي تتخذ إجراءاتها وفقًا لنظام إلكتروني لا يعي، بل ينفذ الأوامر اتباعًا لــ “خوارزميات” موقع تواصل فيسبوك، وغيره.
يترتب على ذلك في كثير من المواقف وباختلاف الفروق الفردية بين ناقد وغيره بالطبع، اختفاء تدريجي لذلك الناقد الجاد، الذي يعمل على تأويل وتحليل متأنٍ، مقابل انتشار تلك الآراء المُرسلة، التي قد يكون لها قيمة وضرورة، إذا كانت تعكس رأيا نزيه غير مدفوع، لكن يبقى لرأي الناقد رونقه وأهميته أيضًا التي لا غنى عنها، بخاصة إذا كان يصدر وفقًا لمنهجية وأدلة وأدوات تقوم على منظور فني خالص، من بين المناهج النقدية.
فالعمل على إخفاء صوت الناقد، سيسبب خللًا في موازين الصناعة بأكملها، لأنها بذلك ستفقد أحد أهم أركان العملية الإبداعية، لأن بعض صناع الأعمال ولجانهم يعملون على ترهيبه وغلق فمه ومحو قلمه.