“أرض الأحلام”.. تستطيع أن تقول “لا”

فاتن خمامة في "أرض الأحلام" فاتن خمامة في "أرض الأحلام"

فيلم “أرض الأحلام” (1993) هو الفيلم الوحيد الذي أخرجه داوود عبد السيد، دون أن يكتبه، لأنه قصة وسيناريو وحوار هاني فوزي، أحد أفضل أبناء جيله في الكتابة للسينما.

الفيلم يكتسب أيضا أهمية خاصة، لأنه آخر فيلم تقدمه فاتن حمامة للسينما، ولذلك كان حدثا فنيا حتى قبل عرضه، فالنجمة الكبيرة لم تكن تتحمس إلا لعمل استثنائي تجد فيها نفسها، وتستطيع أن تقدم جديدا من خلاله، وكان عملها مع داوود عبد السيد تأكيدا للإعتراف بالجديد الذي يقدمه هذا الجيل، حيث عملت فاتن من قبل مع خيري بشارة في فيلم هام ومميز هو “يوم مر ويوم حلو” من كتابة فايز غالي.

من الجميل حقا في فيلم “أرض الأحلام” أن النتيجة جاءت جيدة ومثمرة بالنسبة لأطرافها الثلاثة: فاتن قدمت شخصية جديدة تماما، تناسب عمرها، وتمنحها فرصة تجسيد نموذجا مختلفا لامرأة لم تعش حياتها، ولكن ظرفا خاصا يجعلها تولد من جديد، بعد هذا العمر الطويل، يوم واحد سيغير حياة نرجس، بطلة الفيلم، الى الأبد.

ومؤلف الفيلم هاني فوزي ( صاحب أفلام”بحب السينما” و”الريس عمر حرب” ) قدم عملا متماسكا ينتمي الى عالمه، بنفس الدرجة التي ينتمي فيها الفيلم الى عالم داوود عبد السيد، فالاثنان يشتركان في العمل على شخصيات تنتقل من خانة الامتثال، الى خانة الوعي فمحاولة التحرر، والاثنان يشتركان في جرأة اكتشاف علاقة الفرد بمجتمعه وبيئته، او بمعنى أدق، اكتشاف ما يضعه المجتمع من قيود حول الفرد، لكي يصبح ترسا في آلة ضخمة، والاثنان منحازان بالتأكيد الى حق الفرد في أن يختار وأن يقرر، فالحرية ثمينة، وتستحق المحاولة، ودفع الثمن.

لذلك جاء فيلم “أرض الأحلام”، الذي لم يكتبه داوود، منتميا أيضا الى ملامح عالمه السينما، وبشكل مدهش، فالبطلة نرجس، مثل أبطال داوود، تنتقل من خلال التجربة من خانة المراقب الى خانة المتورط والفاعل، وهي أيضا تبدو مثقلة بقيود داخلية، حيث تحاول إرضاء الآخرين، وتحديدا أولادها، بدلا من إرضاء نفسها، ورحلتها ليست في جوهرها إلا رحلة تحرر من هذه القيود، ونرجس أيضا تبدو في البداية عاجزة تماما عن استخدام إرادتها، وخائفة ومرعوبة الى حد المرض، ولكن التجربة ستجعلها تختبر قدرتها وإرادتها لأول مرة، بل وستقول “لا” لأول مرة في المشهد الأخير من الفيلم.

نرجس إذن ليست إلا تنوعية جديدة حول شخصيات داوود، وحول أسئلته المتكررة عن العجز والقدرة، والمراقبة والمشاركة، والقيود والتحرر، وحول سؤاله الأهم والأعمق عما يفعله المجتمع بنا، وعن “محاولتنا” أن نكون أنفسنا، بدلا من أن نكون نسخا من الآخرين.

مأزق الإمتثال

قلق نرجس واضطرابها وفزعها من السفر، وخوفها من تضييع مستقبل أولادها، بتفويت فرصة سفرهم الى  أمريكا أرض الأحلام، كل ذلك ترجمة لما يفعله فينا الامتثال بدون تفكير على الحياة التي عشناها، وهو موقف يمكن نقله بسهولة من الفرد الى المجتمع كله، والمفارقة الذكية في الفيلم أن هذه السيدة المفترض أن تسافر مهاجرة الى أرض توصف بأرض الأحلام، هي سيدة بلا أحلام على الإطلاق، وكما تقول نرجس لصديقاتها إنها لم تكن تمتلك يوما أية أحلام، حتى فيما يتعلق بموصفات زوجها، فبينما حلمت إحدى الصديقات بزوج وكيل وزارة، وأخرى لديها ذكريات عن شاب كان يغازلها بأغنيات فريد الأطرش، فإن نرجس امرأة بلا أحلام، جاء العريس فتزوجت وأنجبت، ومرت الأعوام وهي تعمل فقط من أجل اسرته وأولادها، واليوم عليها أن تهاجر الى أمريكا بدعوة من ابنها ماهر، ثم ترسل بدورها دعوات هجرة الى ابنها الطبيب مجدي، والى ابنتها المذيعة آمال.

المرأة التي تضطرب في كل مرة، فتصدم بسيارتها العربات المركونة بجوارها، تبدو كائنا خاملا مراقبا، على العكس من أمها عفيفة هانم، التي اختارت بإرادتها أن تقضي بقية حياتها في دار للمسنين، والتي تمنح ابنتها مجوهراتها، وتطلب منها ألا تتنازل عن المجوهرات لأولادها، عفيفة هانم تعلم أن ابنتها نرجس لا تستطيع أن تحتفظ بشيء لنفسها.

نرجس عاقلة، لا ترفض أمرا، ولا تستطيع أن تقول “لا” أبدا، هكذا تصفها أمها عفيفة هانم، التي ترى أن نرجس لا تشبهها في أي شيء، وبينما يفترض أن يبدو الإمتثال سببا لرضا نرحس وسعادتها، فإن عفيفة تتشكك في أن ابنتها سعيدة، لننتقل من هذا التشكك مباشرة الى لقطات اصطدام سيارة نرجس بسيارات مركونة، فكأن اضطرابها وقلقها، وليس سعادتها، هو عنوان حياتها، وهو حقا حصاد امتثالها الطويل.

العجز والقدرة

وبينما نجد تناقضا بين الشيخ حسني وابنه يوسف في العجز والقدرة، والقيود والتحرر، فإن تناقضا مماثلا نراه  بين سلوك نرجس، وبين سلوك أمها: الأخيرة بالطبع أكبر سنا، وأقدم من حيث الأجيال، ولكن عفيفة تبدو أكثر ثقة وانطلاقا، وأكثر قدرة على الإختيار، نراها مع صديق عجوز في دار المسنين، ثم نراهما معا وهما يضحكان في دار السينما، وعندما تلتقي عفيفة مع الساحر رؤوف تنبهر بألعابه السحرية، وتشاركه فيها بسعادة، ولا ننسى أن عفيفة هانم متمردة حتى على تعليمات دار المسنين، وأنها تقوم بتهريب المأكولات والمياه الغازية، وترفض أحيانا تعليمات الأطباء، الأم أكثر قوة وتحررا من ابنتها، وهي مفارقة تؤكد من جديد أن البيئة تؤثر على حياتنا، ولكننا نحن أصحاب القرار في الإمتثال أو التمرد، نحن من نوافق على القيود، ونحن أصحاب القرار في الخضوع أو الرفض.

فاتن حمامة ويحيى الفخراني.. أداء منسجم

في لقاءات نرجس مع ابنها وابنتها، يمكننا ان نلاحظ انعكاس الأدوار، فالأبن والابنة هما من يلقيان التعليمات، ونرجس مجرد طفلة خائفة ومرتبكة، تذهب معهما الى السفارة الأمريكية، وكأنها ذاهبة الي مدرستها في أول يوم، وتستمع الى دروس تعلم اللغة الإنجليزية، وكأنها تذاكر الواجب المنزلي، ويطلب منها ابنها أن تنام لتستيقظ  مبكرا في السادسة صباحا، حتى يصطحبها الى المطار، فنتذكر تعليمات الآباء بالنوم مبكرا، والإستيقاظ مبكرا، وحتى مشهد الإحتفال بعيد ميلادها، كان أقرب الى تأدية الواجب، حيث يجب عليها أن تأكل التورتة بسرعة، لتنام مبكرا، استعدادا لتعليمات جديدة في الصباح.

جدة تعيش حياتها، وأحفاد مسيطرون أقرب الى الآباء، ونرجس طفلة مرتبكة يراد لها أن تذهب الى عالم جديد لا تعرفه، وأن تترك ذكريات قليلة قديمة في مصر الجديدة، وأن تنسى صديقات قليلات تستمع معهن الى الموسيقي، والى أصوات الماضي، ولأن نرجس تمارضت في مرة سابقة، وهربت من الهجرة والسفر، فإنها لا تريد أن تخذل أولادها، هجرتها ليست من أجل نفسها، ولكن لكي تفتح الطريق لهجرة شرعية ل مجدي وآمال، والأخيرة  مذيعة ناجحة ومشهورة في عملها، ولكنها تشعر بالملل، ولذلك ستهاجر، إنها على طرف النقيض من سكون أمها واعتيادها على حياتها الرتيبة.

يوم واحد فقط من حياة نرجس سيغيرها، يفترض أن يكون يوم الإمتثال الأخير، والتضحية الكبرى للأولاد بالهجرة بناء على طلبهم، ولكنه يتحول الى يوم اكتشاف الذات والعالم، ويوما للتحرر من أثقال الماضي، بفضل تجربة عجيبة، بدأت بضياع جواز السفر وفيه تذاكر الرحلة، وانتهت برفض نرجس السفر، رغم عثورها على الجواز والتذاكر.

عالم الساحر

رؤوف الساحر الذي لا يفيق من الخمر، هو أيضا نقيض شخصية نرجس على طول الخط، فبينما تعطل نرجس قدراتها وخيالها وأحلامها، فإن رؤوف، كما نراه في عروضه، يقدر على ما لا يستطيعه الآخرون، ويمكنه أن يقنعك بما هو ليس موجودا من الأساس، يمكنه أن يحطم ويهشم، ثم يستعيد ما حطمه، وهو شخصية تعيش بالخمر واقعا موازيا سعيدا، يذكرنا بما يعيشه الشيخ حسني من خلال الحشيش، ومن أذكى إشارات الفيلم أن تذهب نرجس الى دار العرض للبحث عن أمها، فتجدها تشاهد الشيخ حسني، ومغامرته بالموتوسيكل في فيلم “الكيت كات”، فكأن الشيخ حسني قد صار أيقونة للتحرر واختبار القدرة، وكأنه صار عنوانا على الحلم، وعلى السعادة، وعلى الحياة الموازية التي تخفف من قسوة حياتنا الواقعية.

نرجس، التي لم تكن تتخيل أن يسهر الناس حتى الصباح، ستشاهد رجلا لا ينام تقريبا، يعيش حياته في الليل، وستكتشف من خلاله حياة حرة تماما، لا تفسدها إلا وحدته، وفي مشهد آخر هام، يأخذها رؤوف الى عالم المنجمين والسحرة، وهذا المشهد بالذات في إضاءته ( سمير بهزان) يبدو كما لو كان حلما خالصا، خارج الزمان والمكان.
رغم أن أقوال المنجمين تبدو أقرب الى الخيال واللعب، إلا أنها تنقل نرجس الى عالم آخر، هذه المشاهد تقول لها إن العالم أكثر اتساعا بكثير من مصر الجديدة، ومن جلسات الصديقات، بل إنه أكثر اتساعا من أمريكا أرض الآحلام، هذه هي الأحلام نفسها، وهؤلاء هم من يصنعونها، من يحلمون بالمعرفة الشاملة، هذا هو العالم الموازي الذي نسنطيع أن نخلقه لو أردنا.

 الأحلام قيمة في حد ذاتها، بصرف النظر عما إذا كانت ستتحقق أم لا، والمحاولة هدف في حد ذاته، مهما كانت النتائج، الأحلام لا تسكن وطنا أو أرضا أو مكانا، الأحلام والقدرات غير العادية في داخلنا نحن، وهي إحدى الأفكار الأساسية في عالم داوود عبد السيد الفسيح.

تتعلم نرجس من روؤف معنى خلق القدرة واكتشافها، ومعنى أن يبهر الفرد الجماعة، لا أن يمتثل لها، ومعنى أن تقوم بترويض الآلم، وترويض الوحدة، ويراها هو كائنا جديرا بالمساعدة، وخصوصا بعد أن أوهمهما بأنه عثر على جواز سفرها، لو تأملت قليلة لاكتشفت أن رؤوف منح نرجس، بدون قصد، رحلة الى عالم الأحلام الحقيقي، بدلا من رحلتها الى أمريكا أرض الأحلام، رحلة الى ذاتها، والى اكتشاف نفسها وقدرتها على الفعل.

قبل هذه الرحلة الحقيقية لم تكن نرجس تتصور أن تخوض مغامرة شاقة تحت المطر لكي تحضر النقود الى المستشفى التى يعالج فيها رؤوف، وقبل الرحلة لم تكن تتخيل أن يسهر بشر حتى الصباح، بل إنها هي نفسها ستسهر حتى الصباح، وقبل الرحلة لم تكن تعرف ماذا يحدث في أقسام البوليس؟.

الحياة عندها لم تكن تزيد عما يطلبه الأولاد، عالمها كان محدودا، وفي يوم واحد فقط اتسع عالمها فجأة، في بداية التجربة لم تكن ترى من العالم إلا جواز سفر فيه تذاكر للذهاب الى أمريكا، ومع نهايتها، لم تعد تهتم بجواز السفر، بعد أن سافرت الى عالم المغامرة والإكتشاف، وبعد أن عرفت أنها قادرة على الرفض، وأنها تستطيع أن تقول “لا”.

معنى الهرجة

الإكتشاف الحقيقي في الفيلم البديع هو اكتشافك لنفسك ولأحلامك ولقدرتك، الحياة ليست انتقالات في الأماكن بحثا عن فرص للعمل، ولكن الحياة هي أن تعرف كيف تعيش ولو من ثقب إبرة، ستشاهد نرجس في بيت المسنين عجائز يرقصون ويغنون، يختار الفيلم أغنية “ليالي العمر معدودة” ل شادية لتصاحب حفلتهم، ربما لكي يذكرنا بألا نضيع حياتنا مقديدين وخائفين، ليتهم اختاروا أغنية أخرى مبهجة، لأنها أنسب بكثير لمعنى المشهد، حيث يقاوم العجائز الزمن بالونس وبالغناء وبالرقص، رغم ظروفهم وهمومهم، كل واحد منهم يرى الآخر شابا رغم خطوط الزمن، وآثار التجاعيد فوق الوجوه.

خيال رؤوف يوازن ويعادل واقعية نرجس، وحريته المطلقة تذكر نرجس بحريتها التي منحتها لأولادها، طفلة تتعثر في حياتها، ويضطرب حتى نطقها، تضطر الى مراجعة نفسها، وبدلا من أن يصبح سفرها هو عنوان حياتها الجديدة، يصبح عدم السفر هو عنوان الميلاد الجديد، ويكون هذا الميلاد هو أول أيام حياتها الحرة المختلفة، لقد هاجرت نرجس من حالة الى حالة، بدلا من أن تهاجر من بلد الى بلد، ليست هجرة مكان ، ولكنها هجرة اكتشاف وتحقق.

في “أرض الأحلام”، كما في أفلام داوود، ليست المشكلة في قدرات البشر، فهي عنده “قدرات غير عادية”، وهذا عنوان أحد أفلامه، ولكن المشكلة الأساسية في أن يقوم البشر بتعطيل قدراتهم خوفا وأو عجزا وإيثارا للقيام بدور المراقب أو الملاحظ الذي يسير بجوار الحائط.

المشكلة في أن يمتثل الناس لقوة قاهرة، حتى بمنطق العاطفة مثل علاقة نرجس مع أولادها،، فيعطلوا قدرتهم على الفعل أو المشاركة، المشكلة في نحيا الحياة  وفق شروط الآخرين بدلا من أن نعيشها وفقا لاختياراتنا، .

المشكلة في أن نعتقد أن الحياة مجرد واقع يومي والسلام، وليست خيالا وابتكارا وابداعا واختلافا، ورؤوف في إحدى ابتكاراته، لن ينفق أمواله لعلاج مرضه، ولكنه يريد أن يمنحه بعد موته لأصحاب القدرات  غير العادية في سيرك العجوزة.

ليس في الفيلم قصة حب تقليدية بين رجل وامرأة، ولكن فيه علاقة صداقة واحتياج، وعلاقة حب للحياة نفسها، بوصفها جوهرة ثمينة تستحق أن نكتشفها وأن نتعلم كيف نراها بآفاقها الواسعة، وان نتعلم أيضا من الناس ومن التجارب.

يظهر القمر كعلامة بصرية متكررة في مشاهد الفيلم، يبدو مرتبطا بعالم رؤوف، وعالم المنجمين وضاربي الودع الباحثين عما وراء المعرفة، ونرى القمر أيضا منعكسا على مياه الأمطار، عندما يسقط رؤوف على الأرض بعد أن أسرف فى تناول الخمور.

 القمر كعلامة بصرية هو العالم البعيد الواسع، وهو الخيال الذي نعيش به، ونستلهمه، ونبحث خلفه عن عوالم أخرى، لن تراه نرجس إلا عندما تخرج من شقتها، وإلا عندما تنفتح أمامها أبواب العالم الحقيقي، بلقائها مع الساحر رؤوف، لن يتغير فستانها من الأسود والرمادي الى اللون البرتقالي الدافيء، إلا عندما تكتسب الثقة بانضمام رؤوف إليها، للمساعدة في البحث عن جواز السفر المفقود، ربما كان من الأفضل أن تستمر بالفستان البرتقالي بدلا من العودة الى اللون الأسود في نهاية الفيلم، البرتقالي وربما الأحمر هما الجديران بها بعد أن عرفت واكتشفت وتحررت.

في رحلة حياتها، فقدت نرجس ما هو أهم بكثير من جواز السفر والتذاكر، لقد فقدت نفسها التي منحتها لأسرتها وأولادها، لذلك لن تعتبر جواز السفر والتذكرتين بنفس الأهمية بعد أن اكتشفت أنها أضاعت حياتها نفسها.

إلغاء السفر بسبب فقد الجواز يبدو عملا اضطراريا وجوبيا، ولكن إلغاء السفر رغم اكتشاف وجود الجواز هو فعل إرادة واختيار ووعي وميلاد جديد، وضحكة نرجس ورؤوف معا في نهاية الفيلم تذكرنا بضحكة الشيخ حسني وابنه يوسف في نهاية فيلم “الكيت كات”، ضحكات سخرية من تناقضات الحياة، ولكنها ايضا ضحكات سعادة وانتصار باكتشاف القدرة على المحاولة والمقاومة، وبالتحول من خانة المراقب الى فئة المشارك الذي يرفض الهروب من الحياة، يحاول دون أي اعتبار للنهايات، وكأنه ولد ليحاول حتى النهاية، بدلا من أن يكون شاهدا على عجزه، وبدلا من أن يكون حارسا لقيوده، سواء تلك القيود الظاهرة، أو القيودالمختفية في أعماقه.

أداء متفوق

دور نرجس من أفضل أدوار فاتن حمامة في السينما، هي محور الحكاية، الفيلم عن شخصيتها، والتجربة تجسد بورتريها لهذه الشخصية، تفصيلات ممتازة جعلتنا أمام نموذج إنساني من لحم ودم، فاتن هي التي اقترحت لثغة الشخصية في حرف الراء، ووافق داوود على ذلك، فبدت الشخصية متعثرة حتى في كلامها، والتعثير يصيبها بالعصبية، مما يترجم بركانا داخليا تشعر به الى حركة ظاهرية واضحة، فاتن نفسها كانت تعاني من اللثغة في حرف الراء عند دخولها معهد الفنون المسرحية، وتولّى زكى طليمات  تدريبها على الإلقاء، لكى تتخلص من هذه المشكلة، وقد أدركت بالتأكيد أن اللثغة تعبر عن قيود تعاني منها نرجس، لذلك جاء اقتراحها ذكيا، وفي مكانه تماما.

هناك نقطة لامعة أخرى في أداء فاتن وفي رؤية داوود لهذا الأداء، وأعنى بذلك أن تثير الشخصية وتصرفاتها الضحك، ولكن عليها أن تثير في نفس الوقت التعاطف وربما الرثاء، إنها حالة تقارب ضحكاتنا على تعثر طفل في المشي، يسقط على الأرض فنضحك من اضطرابه، ولكننا نتمنى أن نسرع لكي نساعده على الوقوف والمشي الصحيح، وهي أيضا نفس حالتنا ونحن نشاهد محاولات الشيخ حسني لقهر عجزه في فيلم “الكيت كات”، ومشهد محاولته في قيادة الموتوسيكل سيتكرر  في فيلم “أرض الأحلام” في مشهد دار العرض التي تشاهد فيها عفيفة هانم الأفلام مع صديقها العجوز، وهو اختيار دال يربط بين حالة نرجس وحالة حسني، وبين فكرة الكيت كات في مقاومة العجز لدى الشيخ حسني، وفكرة “أرض الأحلام” في اكتشاف القدرة لدى السيدة نرجس.

داود عبد السيد

وكان اختيار يحيى الفخراني بحضوره، وبقدرته على الأداء الكوميدي، وبقدراته عموما كممثل،اختيارا موفقا تماما، لا يجب أن يثير الضحك أيضا على طول الخط، ولكن يجب أن نتعاطف معه، وأن ننبهر بقدراته وهو يقدم عروضه كساحر، كان واضحا أيضا أنه على نفس الموجة في الأداء مع فاتن حمامة، لو لعب الدور ممثل أضعف أو أقل لانهار الفيلم كله، بل ويجب أن يمتلك رؤوف جاذبية الإنسان المختلف، إلا ما وجدت فيه نرجس وسيلة لتغيير حياتها، وقد حقق أداء الفخراني كل ذلك بامتياز.

أمينة رزق ومحمد توفيق في دوري السيدة عفيفة وصديقها العجوز كانا أيضا في مكانهما،  لقد أثبتا  بأدائهما المفعم بالحياة أن القدرة في الروح وليست في الجسد فقط، بينما كان هشام سليم وعلا رامي أقرب الى ضيوف الشرف في الحكاية، يجب فعلا لأأن يكونا كذلك، لأن الفيلم عن أمهما، البطولة لها بعد سنوات طويلة كانت فيها مجرد عنصر مساعد لاستمرار حياتهما.

وما بين منزل نرجس الكلاسيكي، ومنزل رؤوف الحديث، جسدت لمسات مهندس المناظر أنسي أبو سيف عالمين مختلفين الى درجة التناقض، كما منح أنسي وإضاءة سمير بهزان الناعمة والضبابية، مكان لقاء المنجمين ، مظهر عالم ثالث أكثر خيالا وجموحا، بينما اختار راجح داوود جملة موسيقية تمتليء بالحيوية والبهجة لتصاحب رحلة نرجس في يوم واحد من البداية للنهاية، لم ير في الرحلة شيئا صعبا أو مأساويا، حتى عندما تكون نرجس في مأزق أو مشكلة، كنا نسمع نفس الجملة، ثقته كاملة في أنها ستنتصر حتما، بل إن مجرد خروجها للمغامرة بمثابة انتصار لها، مهما كانت نتائج الرحلة، ومهما كانت صعوبة التجربة، ربما كان تغيير الآلة من الأوكورديون الى الساكس هو التغيير الوحيد المعبر عن هذه الصعوبة، فكأنه تغيير في لون التجربة، وليس في أهمية نغمة الرحلة والمحاولة،، ولا في الحفاوة بفكرة أن تخوض نرجس التجربة حتى النهاية.

اللقطات هنا أقصر في مشاهد كثيرة مما اعتدنا في أفلام داوود، لذلك كان دور المونتير أحمد متولي مهما في مشاهد بعينها، مثل بناء مشهد اصطدام سيارة نرجس مع السيارات الأخرى، ومثل الفوتومونتاج السلس لنبؤات المنجمين والمنجمات لمستقبل نرجس، ومثل لقطات حفل المسنين بمصاحبة أغنية “ليالي العمر معدودة”، لكن داوود احتفظ  أيضا بلقطات طويلة مستمرة لمشاهد هامة بما في ذلك بعض الألعاب السحرية، تأكيدا لبراعة رؤوف، ومشهد الرصيف الأخير بين نرجس ورؤوف على الرصيف، وهو المشهد الذي يمثل حصاد الرحلة كلها.

يمكن اعتبار الحكاية كلها انتقالا من عدم وضوح الصورة “الفلو” الذي تظهر عليه صورة نرجس في أول الفيلم، الى وضوح الصورة في أول أيام السنة الجديدة، عندما تجلس نلرجس سعيدة على الرصيف مع رؤوف، ثم يضحكان معا على هذه الفرصة الصعبة وغير السارة التي غيرت حياتهما.

الإنتقال أيضا سيكون من الباروكة التي تخفي شعر نرجس في أول الفيلم، الى الفستان البرتقالي الذي يناسب حياتها الجديدة.

 ليست مجرد تفاصيل بسيطة، ولكنها في صميم معنى التحول والتحرر والتغيير والإكتشاف الحقيقي للذات وللعالم.

يضع الفيلم بطلته أمام تنوير وقدرة، ثم يتركها، الآن عليها هي أن تقود  سيارتها بدون أن تصدم أحدا، صارت  أخيرا على الطريق الصحيح، فاختارت وستختار. نحن، المراقبين للحياة، ونستطيع أيضا أن نعيش الحياة، ونستطيع أن نقول “لا” لو أردنا، ويمكننا أن نمتلك أحلاما دون أن نذهب الى أرض الأحلام.

Visited 121 times, 1 visit(s) today