“أثر الأشباح”..  سوريون في المهجر.. أو ماذا نفعل تحت سماء غريبة؟

“أحاول رسم بلادٍ…

لها برلمانٌ من الياسمين.

وشعبٌ رقيق من الياسمين

تنام حمائمها فوق رأسي

وتبكي مآذنها في عيوني”

بعد أن جلس يتأمل حال العرب لخمسين عامًا، لم يكن يتخيل الشاعر السوري نزار قباني، أن هذه الأبيات التي سطّرها في عام رحيله ضمن قصيدة “متى يعلنون وفاة العرب”، ستصبح أبلغ تعبير عن هزائمنا وانكساراتنا.

هذه المرثية التي كانت بمثابة تأبين للذات والعام لا يمكننا فصلها عما يجري حولنا، فلا يكاد يمر الوقت حتى تستحوذ مأساة إنسانية على أخرى، فمنها ما نُسي بفعل الزمن ومنها ما وصل لطريق مسدود، تمامًا كقضية سوريا، والتي على ما يبدو أنها سقطت سهوًا من ذاكرة العالم، لكنها لم تغادر يومًا عقل “حميد”، ذلك الشاب المُعذب والمسكون بذكريات الماضي وجروحه.

في فيلمه الروائي الطويل الأول “أثر الأشباح” (Ghost Trail)، والمشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان الجونة السينمائي في نسخته السابعة، يطرح المخرج جوناثان ميليه، أسئلته حول ثنائية العدالة والانتقام، هل القوانين والمحاكم قادرة على إخماد نيران المقهورين، أم أن القصاص الفردي من الجلادين هو الخلاص الوحيد؟ وهل لابد وأن يأتي الانتقام مصحوبًا بالدماء والقتل أم أن هناك سبيلاً آخر يلم فتات ما تبقى من إنسانيتنا المبعثرة؟ كلها رهانات ومعادلات أخلاقية تمزق روح “حميد”، تمامًا كما مزقت الحرب السورية أوصال جسده المنهك.

من خلال سيناريو (مستوحى من أحداث حقيقية) كتبه ميليه بالاشتراك مع فلورنس روشا، يغوص “أثر الأشباح” داخل أعماق أحد الناجين من الحرب السورية كاشفًا عن حجم الألم المكبوت الذي تعرض له هذا الشاب. فمع اللقطات الأولى من الفيلم، يضعنا ميليه أمام شخصية حميد (آدم بيسا)، الذي نجا من موت محقق في سجن “صيدنايا” بريف دمشق، ليجد نفسه أمام آخر أشد قسوة بعدما ألقاه مجموعة من الجنود السوريين في الصحراء هو ومجموعة أخرى من المعتقلين يشقون طريقهم نحو المجهول.

ينتقل السرد سريعًا إلى ما بعد هذه الافتتاحية بعامين، لنكتشف أن حميد لا يزال على قيد الحياة بعد أن خاض رحلة مريرة – نعلمها ولا نراها – قادته في النهاية إلى مدينة ستراسبورغ الفرنسية. حياة عادية شبه هادئة يعيشها حميد داخل هذه المدينة الرمادية – كما يصفها أحد الأبطال، جلسات مع موظف حكومي يساعده في الحصول على الإقامة في فرنسا، بينما يحاول كسب رزقه كعامل بناء رفقة مجموعة من المهاجرين الأفارقة، وبعد انتهاء دوامه يتجول هائمًا بين مجموعات من اللاجئين السوريين بحثًا عن قريبه الذي فُقد في الحرب، لكنها محاولات تتكلل بالفشل في كل مرة.

خلال محاولاته تلك، تتشكل صداقة حذرة بين حميد وشابة سورية تحاول مساعدته تُدعى يارا (هالة رجب)، كانت تدرس الطب في سوريا ثم أصبحت تدير متجر خياطة في ستراسبورغ.

هذا المستوى من الحذر في علاقة الشابين هو نتاج لحالة الرعب التي عاشها السوريين خلال سنوات الحرب، لدرجة قد تدفعهم للتشكيك في كل من حولهم حتى على بُعد آلاف الكيلومترات عن الوطن. فمن خلال محادثات حميد ويارا نشعر بهذا المستوى من عدم الثقة والانفصال، وهو مستوى آخر من العزلة يهيمن على بعض مجتمعات المهجر التي لا تزال تعيش في صدمة الماضي. وهذا ما نكتشفه من حوار يارا عندما تخبر حميد “حتى هنا يتعين علينا أن نكون متشككين. فأنت لا تعرف أبدًا من يقف في أي جانب”.

ربما تكون هذه الجملة هي مفتاح حالة الغموض المسيطرة على حميد، فليس كل سوري يفر إلى أوروبا بريئا. فسرعان ما ندرك أن ما يبحث عنه حميد ليس قريبه كما يَدعي، ولكنه مجرم حرب سيء السمعة يُدعى حرفاز (توفيق برهوم)، فر إلى أوروبا تحت اسم مستعار (سامي حنا)، لكنه غيّر اسمه مجددًا إلى (حسن الرماح)، وذاب وسط المجتمع الأوروبي بعدما ترك لحميد خريطة من الندوب تملأ ظهره، ناهيك عن الجروح النفسية التي قد لا تلتئم أبدًا.

يتضح أن حميد، هو جزء من شبكة مقرها في ألمانيا، كل مهمتها تتبع مجرمي الحرب الفارين من سوريا وتقديمهم للعدالة. لكنهم يشككون في صحة معلومات حميد بأن من يطارده في فرنسا هو رجلهم المنشود، خاصة وأن حميد لا يملك سوى صورة له غير واضحة المعالم، بجانب أن رأس حميد ظل مغطىً بالأكياس طوال جلسات التعذيب التي كان يُشرف عليها حرفاز، ما يعني أن كلاً من السجين والسجّان لن يستطيعان التعرف على بعضهما.

أحد عناصر قوة النص السينمائي، هو عدم انشغال ميليه باستدعاء الماضي فيما يخص علاقة حميد وحرفاز في المعتقل، فكل ما ارتكبه هذا الجلاد من شرور يبدو حاضرًا على وجه حميد دون أن ينطق بكلمة واحدة. كما أن المخرج الفرنسي لا ينخرط كثيرًا في تأطير مشاهده بلقطات المطاردات السريعة كحال هذه النوعية من الأفلام، بل يحاول أن يبقي الصراع هادئًا على الشاشة لكنه متأجج داخل نفس حميد، ليخلق واقعًا أكثر رعبًا عما كان عليه داخل سجن صيدنايا أو كما يُطلق عليه “المسلخ البشري”.

نكتشف من خلال رحلة حميد، أنه كان في السابق أستاذًا للأدب في جامعة حلب، وهو ما يعززه أبيات الشعر المتناثرة لنزار قباني وصالح دياب على طول الفيلم. ينعم بحياة هادئة رفقة شعره وزوجته وابنته، قبل أن تسرق منه الحرب هذه اللحظات الرقيقة ولم تترك له سوى أشلاء ذكريات عن أسرته، التي قُتلت في إحدى الغارات أثناء تواجده في السجن، وأم ثكلى تعيش في مخيم البقاع بلبنان.

في أحد مشاهد الفيلم، نرى حميد يستأجر بدلة من أحد مقاهي الإنترنت قبل أن يخوض في حديث دافئ مؤلم مع والدته، والتي يوهمها بأن حياته المهنية والعاطفية تسير على ما يرام في برلين، وهو ما كانت تحلم به دومًا، بأن يحاول الابن المضي في حياة جديدة وتخطى آلام الماضي كي تكافئ نفسها بالصبر على شقاء الحياة داخل المخيم.

إن حالة اضطراب ما بعد الصدمة التي يمر بها حميد، تصيبه بحالة من الشلل والجمود المهني والعاطفي تجعله يصد محاولات يارا للتقرب منه. “أتمنى لو تقابلنا في حياة أخرى”، هكذا تخبره يارا. ولكن كل يوم يقضيه حميد في مطاردة جلاده يقربه خطوة من العدالة، ويبعده آلاف الخطوات عن المضي قدمًا في حياته. وهذا نلاحظه بأحد المشاهد عندما ينجح أحد الأصدقاء بتأمين وظيفة له بأحد الجامعات، فيطلب منه حميد أن يتطلع إلى وجهه “هل هذا شخص يستطيع تدريس الأشكال الشعرية الآن”.

في النصف الأول من الفيلم، وبعد أن ينجح حميد بمساعدة يارا في تتبع حرفاز، الذي يتواجد في أحد الجامعات المحلية لتحضير الدراسات العليا في الكيمياء، نقابل للمرة الأولى رجلاً أنيقًا منكبًا على دراسة الكتب والمراجع، لكننا نتابعه دومًا من منظور حميد إما من الخلف أو من زوايا بعيدة. ورغم تكرار وطول زمن هذه المشاهد على الشاشة، والتي بالطبع تزيد من حدة التوتر وتمنحنا الوقت لتأمل هذا الوحش الوديع، إلا أننا نتناسى ثقل إيقاعها مع لقاءهما وجهًا لوجه في النصف الثاني من الفيلم.

إن أداء توفيق برهوم في دور حرفاز مثير للاهتمام بصورة كبيرة، فهو يتأرجح ما بين الدفء والرعب الكامن خلف وجهه، في صورة أقرب لأداء جاسبر يوليل في فيلم “Hannibal Rising“. وهذا ما يتضح في مشهد المطعم اللافت للانتباه والمصمم بعناية شديدة، إنه شخص لا ينضح بالشر الصريح بل مزيج من الضعف وخيبة الأمل والندم والغضب المكبوت، وهذا يتضح في أبسط أفعاله كطريقة مضغه للطعام وقبضة يده المرتعشة.

في هذا المشهد الذي تم صياغته بذكاء شديد، يخبر حرفاز حميد بأن “جميع السوريين في أوروبا يتحدثون عن الوطن، والموت، والمشاكل. لا يمكنك أن تبدأ حياة جديدة إذا كنت تضيع وقتك في التفكير في الماضي”. بالتأكيد نتفق مع وجهة نظره، وإن كان من الصعب تقبل هذه النصيحة الثمينة من مجرم حرب، ولكن ما فشل حرفاز في إدراكه هو أنه عندما تُنتزع منك حياتك يصبح الحديث عن الأمل دربًا من الوقاحة والخيال.

إن تطور العلاقة ما بين حميد وحرفاز، في المشاهد اللاحقة، ما هي إلا صورة مصغرة عن الانهيار الإنساني والأخلاقي الذي تخلفه الحروب، والتي كانت سببًا في تحول شخص كـ حرفاز من نموذج ناجح ظن أن بلده ستستفيد من علمه، إلى وحش بشري، وكادت أن تدفع بالآخر نحو حافة الجنون.

إن الرهان الأخلاقي الذي وضعه ميليه على ذلك البطل الهش، ربما سيكون بمثابة مكافأة للجمهور في نهاية الفيلم، لكنه يبقي القوس مفتوحًا أمام العديد من الأسئلة المعلقة حول ما آلت إليه مسارات حميد في النهاية. إن أشعار قباني ودياب ومفرداتهم العذبة الرقيقة والمتأرجحة حول أحلام الوطن والغربة تطارده وتحاصره طوال الفيلم – تمامًا كما تفعل أشباح الماضي – كي تذكره بما كان عليه يومًا ما وما الذي يجب أن يكونه الآن.

في الدقائق الأخيرة من الفيلم، يطلب حرفاز من حميد مرافقته في لحظة محفوفة بالقلق تدفعنا للتفكير بأن حرفاز قد كشف هوية حميد ويدفعه باتجاه كمين. ولكن ما أن وصلا إلى حديقة الجامعة، أخرج حارفز علبة مليئة بـ “الغريبة”، وأخبره أنه ذهب لألمانيا خصيصًا كي يحصل على ما أسماه “طعم الوطن”، ثم جلسا الاثنان ليستمتعا بطعامهما محاطين بالزهور وأصوات الطيور ونسمات الهواء العابرة.

إنها لحظة ساحرة ومؤلمة ومزعجة، تذكرنا بأمنية يارا وكم كانت تحلم لو أن الزمن منحها فرصة للقاء حميد في حياة أخرى. وهذا ما ينطبق على هذا المشهد أيضًا، ربما لو عاد الماضي بهذين الرجلين المُتعَبين لكانا يتناولان هذه الحلوى في ريف دمشق أو حلب. إن نظراتهما المتبادلة المليئة بالحنين إلى وطنهم، تحيلنا مباشرة إلى أبيات صالح دياب التي رددها حميد ليارا في بداية تعارفهما “ماذا نفعل تحت سماء غريبة.. غير أن نصغي إلى النسيان”.

Visited 22 times, 1 visit(s) today