يوميات مهرجان فينيسيا الـ77 (1)

أمير العمري

لم يكن في حسباني أنني سأذهب مرة أخرى الى مهرجان فينيسيا السينمائي المهرجان الذي حضرته للمرة الأولى عام 1986 أي منذ 34 سنة. أمر لا يصدق كيف جرت السنون وذبل العمر. لكنه القدر. فقد كنت أظن أن هذا المهرجان السينمائي الكبير لن يقام هذا العام بعد تفشي الوباء القاتل خاصة بعد أن كانت إيطاليا قد قفزت لتحتل مكانا بارزا في عدد الإصابات وعدد الضحايا، قبل أن تتفوق عليها بريطانيا – حيث أقيم- وتفوقها عددا وضحايا. والحقيقة أنني كنت قد قمت بحجز الإقامة وتذكرة الطائرة مبكرا جدا أي منذ ما قبل ظهور كورونا، فعادة أقوم بترتيب الحجوزات بعد انتهاء الدورة مباشرة. وكنت أود أن يكون فينيسيا المحطة الأخيرة لي أرجع من خلالها مهرجانات السينما الأوروبية بعد 34 عاما، باعتبار فينيسيا كان المهرجان الأول الكبير الذي احضره.

ولكني كنت قد استعوضت الله على ما دفعته وقلت لنفسي إن الخسارة ليست أكبر مما سبق أن خسرته كثيرا ومازلت أخسره بمعدل سريع يوميا خاصة في ظل الانهيار الاقتصادي الحالي القائم في كل مكان. والبعض يرى أن الخسارة المالية مجرد سوء حظ. ربما. لا أعرف. أما المفاجأة فقد تمثلت في أن المهرجان العريق قرر أن يقيم دورته الـ 77 مهما كلف الأمر. لا من خلال الانترنت وما يسمونه الواقع الافتراضي بل على الأرض كما كان دائما، مع فرض بعض الإجراءات الملزمة للجميع.

جزيرة ليدو كما تبدو من الحافلة البحرية

شاء القدر إذن أن أقرر الذهاب الى فينيسيا رغم كل شي في أول خروج حقيقي لي من العزلة منذ انتشار الوباء، فهذه هي المرة الأولى التي أمر بتجربة السفر منذ عودتي في فبراير من مهرجان برلين الى لندن. هي عزلة لم أكن ابدا معتادا عليها، فأسفاري كثيرة بغض النظر عن مهرجانات السينما، فأنا أسافر عادة ما بين 8 9 مرات سنويا. ولكني اضطررت في الفترة الأخيرة للتقوقع في انتظار أن تتحسن الأجواء. لكنها تحسنت قليلا فقط. وإن ظلت المخاطر في عودة هجوم الفيروس قائمة ومتوقعة.

طائرة الخطوط البريطانية المتوجهة من لندن- هيثرو الى فينيسيا، كانت كعادتها في كل سنة، ممتلئة عن آخرها بالمسافرين. رفضت هذه الشركة وغيرها الالتزام بترك مقاعد شاغرة بين المقاعد المشغولة، فالتصق الجميع ببعضهم البعض. لكن الطريف أنهم أصروا على أننا أثناء خروجنا من الطائرة نبقي على مسافة مترين بين كل راكب وآخر وهي مهزلة بمعنى الكلمة، كما جعلونا نغادر الطائرة على دفعات!

قبل الافتتاح

في مطار ماركو بولو- فينيسيا، وجدت أنهم أغلقوا الطريق البديع الذي كان قد أنشيء حديثا جدا، من داخل المطار الى محطة القوارب البحرية التي تنقل المسافرين من المطار الى الجزر المختلفة التي ينزلون فيها. لماذا؟ الإجابة كلمة واحدة فقط: كورونا. وهي إجابة غير مقنعة، فلا أفهم العلاقة بين طريق مكهرب (ممرات كهربائية متحركة) منظم رائع ومتسع، وبين أن يرغمونك على الخروج الى الطريق القديم خارج المطار في العراء، تحت وهج الشمس. ربما لاعتقادهم أن الشمس تقتل الكورونا، أو أن الهواء يبعد الفيروس. طبعا الالتزام بالكمامة فرض واجب. والجميع يرتدونها مع استثناءات قليلة للغاية. سيكون هذا أول مهرجان سينمائي بالكمامات. ومازلت أود أن أعرف كيف سنتمكن من مشاهدة الأفلام بالكمامات على الوجوه طول الوقت!

المشكلة أن القوارب أو الحافلات البحرية ممتلئة عن آخرها، والصفوف ممتدة كما كانت العادة. أين هذه السياحة التي ماتت واختفت كما قيل وتردد طويلا وكذلك عن معاناة أهل المدينة من قلة العمل ووقف أحوالهم؟ ربما يكون المهرجان هو السبب في ذلك الانتعاش. لكن حتى طبقا لما هو معروف من عدم مجيء الأمريكان والصينيين والهنود والإيرانيين بل وغيرهم كثيرين أيضا من بلدان الشرق الأوسط وافريقيا، مازلت مندهشا من وجود مثل هذا الزحام في اليوم السابق على افتتاح المهرجان وهو عادة يوم هاديء. وانا عادة أفضل الحضور قبل يوم من بداية المهرجان للراحة والاستعداد ولكونه يكون عادة أكثر هدوءا من اليوم الأول الذي يشهد زحاما شديدا في العادة، في كل شيء.. في الطيران المطارات والقوارب والوقوف في صفوف للحصول على البطاقات التي تكفل مشاهدة العروض.. الخ

في محطة جزيرة الليدو المسماة (سانتا ماريا اليزابيثا) حيث انتهت الرحلة البحرية من المطار بالحافلة الصغيرة المائية، زحام ربما أكثر من العام الماضي. لا أعرف هل هؤلاء من المصطافين الذين يأتون من أنحاء إيطاليا الى هذه الجزيرة الساحرة نظرا لجمال وهدوء شواطئها، أم من “زبائن” المهرجان. لكن المعروف أن المهرجان قلص هذا العام من عدد الضيوف حتى يمكن أن يشغل قاعات العرض السينمائي بخمسين في المائة فقط من طاقتها. أي أنه بين كل مقعد وآخر سيكون هناك مقعد خال. كما أن باب الحجز للأفلام كان قد فتح قبل يومين وأصبحت القاعدة فتح الباب قبل 72 ساعة بالضبط من موعد عرض أي فيلم حتى يمكنك أن تحجز لك مقعدا لمشاهدة الفيلم عبر موقع خاص متصل بموقع المهرجان، والهدف من هذا، القضاء على الصفوف الطويلة سواء أمام شبابيك حجز التذاكر للجمهور العام، أو صفوف النقاد والصحفيين الذين يتزاحمون لمشاهدة العروض الخاصة التي تقام لهم قبل العرض العام للأفلام. وقد تمكنت بالفعل من حجز تذاكر العروض لليومين القادمين وجاري العمل على اليوم الثالث..

الفندق الذي اعتدت الإقامة فيه منذ عشرين سنة تقريبا، يشهد حركة، وتغييرات: لم يعد ممكنا أن يكون الإفطار مفتوحا بل عليك أن تطلب من النادل ما ترغب في تناوله وذلك لتجنب الاحتكاك مع الآخرين أو الاقتراب منهم أثناء قيام كل منهم بـ “لهف\” ما يمنه لهفه مما لذ وطاب.. وان كان الأمريكيون المعروفون بالنهم الشديد في تناول الطعام عموما والافطار خصوصا، غائبون بشكل كبير جدا هذا العام لأن أمريكا من الدول التي لا يسمح لمواطنيها بدخول إيطاليا حاليا الا في حالة وجود دعوات خاصة قد يوفرها المهرجان للبعص، ومن يأتي من الدول المسموح لها خارج المجموعة الأوروبية يجب ان يكون حاملا لشهادة تفيد خلوه من الفيروس لم يمض عليها أكثر من 72 ساعة، ثم عليه أن يخضع لتحليل بعد 3 أيام، ثم بعد 3 أيام أخرى. وهو عبء سيدفع أو دفع بالفعل، الكثيرين لإلغاء خططهم لحضور المهرجان. وبالتالي سيغيب عدد من الوجوه التي اعتدنا على رؤيتها منذ سنوات بعيدة ومنها على سبيل المثال الناقد الأسترالي المخضرم ديفيد ستراتون.

هل سيحضر نقاد مجلة فاريتي التي تصدر عادة طبعة يومية خاصة من المهرجان؟ لا أعرف. لابد ان مراسليهم في أوروبا سيكونون حاضرين أما من يأتون من الأراضي الأمريكية فلا أظن.

لم أحصل على البطاقة الصحفية بعد. سيكون هذا صباح غد. لدي وقت كاف. فالعرض الأول الذي أحضره اخترت أن يكون في التاسعة والربع صباحا. وسوف تتضح الرؤية بالتأكيد وإن كانت جولة سريعة في الليدو قد كشفت لي أن الجزيرة ممتلئة عن آخرها بالبشر.. في كل مكان: المقاهي والحانات والمطاعم والفنادق دون أي إجراءات احترازية والواضح انهم طالما يجلسون في الهواء الطلق على الأرصفة فلا حرج من خلع الكمامة. كما أننا لا يجب أن ننسى أن هذه هي إيطاليا وليست ألمانيا أو الدنمارك أو حتى بريطانيا.. حيث القانون هو القانون.

فندق اكسيلسيور الشهير في جزيرة ليدو

عندما بدأت أتردد على هذا المهرجان في الثمانينات، كان هناك عدد كبير من الصحفيين والنقاد العرب على رأسهم بالطبع، سمير فريد، وكان يأتي عبد أنور خليل وحسن شاه من مصر، وغسان عبد الخالق وقصي صالح درويش من باريس، وعبد الستار ناجي من الكويت، وطبعا عرفان رشيد من فلورنسا، ومحمد رضا (لا أعرف من اين بالضبط فمحمد يغير مكانه بشكل منتظم بدرجة تثير الاعجاب أحيانا، فهو لا يحب الاستقرار في بلد واحد، بل يظل ينتقل من هنا الى هناك. وفي وقت ما ظهرت أسماء جديدة كثيرة واختفى منها من اختفى، ولكن الكثيرين داوموا وواظبوا رغم غلاء الأسعار بدرجة مدهشة هنا خاصة في الليدو. وهو أمر جيد لأن هذه هي طبيعة الأمور، أن تحل الأجيال الجديدة محل الأجيال القديمة.

الآن رحل عن حياتنا معظم الأسماء التي ذكرتها، رحمهم الله جميعا فقد كانوا خير صحبة وأنا شخصيا أحتفظ لهم بذكريات كثيرة جميلة من زمن رائع، زمن حب السينما والاكتشافات الحقيقية.

سيكون حاضرا هنا دون شك عرفان رشيد، ومحمد رضا الذي أخبرني أمس أنه قادم. وغالبا أيضا انتشال التميمي مدير مهرجان الجونة، ولابد أنه سيسعى كعادته وراء اختيار أفلام جديدة لمهرجان الجونة الذي اتخذ قرارا شجاعا ايضا باقامة الدورة رغم الأوضاع القائمة في العالم.. من المؤسف بالطبع أن اخواننا في مصر لن يتمكنوا غالبا من الحضور بسبب بقاء مصر مع غالبية دول الشرق الأوسط في قائمة الدول المحظور دخول مواطنيها الى الاتحاد الأوروبي في الوقت الحالي.

في المهرجان 3 أفلام طويلة من فلسطين وتونس والمغرب وفيلم قصير من الجزائر. أتوقع حضور مخرجي هذه الأفلام بطرقهم الخاصة علما بأن مواطني تونس والجزائر والمغرب مسموح لهم بدخول الاتحاد الأوروب أما فلسطين فربما يكون الأخوان طرزان مخرجا فيلم “غزة حبي” قادمان من فرنسا أو يحملان جنسيات أجنبية. لا أعرف.

العروض الصحفية ستبدأ غدا صباحا قبل الافتتاح الرسمي في المساء. كيف سيكون أول مهرجان يقام في ظل الوباء. علينا أن ننتظر ونراقب، وبالمناسبة سيحضر غدا في الافتتاح ٨ مديرين لأكبر المهرجانات الأوروبية: كان وفينيسيا وبرلين وكارلو فيفاري ولوكارنو وروتردام وسان سباستيان ولندن، سيقفون على المنصة ويعبرون معا في كلماتهم عن تضامنهم مع السينمائيين حول العالم في هذه الفترة العصيبة ويؤكدون اصرارهم على الاستمرار في دعم صناعة السينما وفن السينما. فالحياة لا يجب أن تتوقف. ولعل الحكمة التي خرجت بها من مشوار اليوم هي أنك ليس من الحكمة أن تظل في حالة انتظار قد يطول الى الأبد. بعد أن أصبح من الواضح كما يؤكد العلماء، أننا يجب أن نتعايش مع الفيروس. وربما يجب أن نقتبس شعارا لنا من عنوان فيلم ستانلي كوبريك الشهير “كيف تعلمت أن أكف عن القلق وأحب القنبلة” How I Learned to Stop Worrying and Love the Bomb (1964) بعد أن نجعله: “لقد توقفت فعلا عن القلق وتعلمت أن أحب الفيروس”!

Visited 61 times, 1 visit(s) today