“مُولان” .. رحلة في أعماق الثقافة الصينيَّة

اعتمدتْ المخرجة “نيكي كارو” على فنيَّات كثيرة لتقوم بآخر تجارب شركة “ديزني” في تحويل تراثها من الأفلام المُتحرِّكة إلى أفلام دراميَّة واقعيَّة. فماذا فعلت؟ وكيف أبقتْ على القصَّة أو فلنُقلْ أعمدة القصَّة كما هي، وأدخلتْ عليها تغييرات أخرى؟

قصَّة مولان (ليو يي فاي) تلك الفتاة الصينيَّة التي تجد نفسها مُضطرَّةً إلى الإمساك بالسيف والذهاب إلى ميدان الحرب بدلاً عن أبيها الذي يعاني مرض رِجلِه. والسبب هجوم قبيلة الروران على أراضي الإمبراطوريَّة، وإرادتهم قتل الإمبراطور (الممثل الشهير جِت لي). ورحلة مولان مع الجيش مُتخفِّيةً في صورة شابّ لا شابَّة. هذا هو الجسد العام للقصّة الذي احتفظتْ به المُخرجة.

لكنَّها اعتمدتْ على تغيير شامل في بنية الفيلم المتحرِّك. أهمُّها الاستغناء تمامًا عن عنصر الغنائيَّة في الفيلم؛ فالفيلم ليس به أيَّة أغانٍ إلا أغنية في شارة النهاية. وهذا التغيير صبَّ في جانب جدِّيَّة الفيلم، وشكله الحقيقيّ المُحوَّل إليه. أيضًا قامتْ بتغيير في نوع الفيلم التصنيفيّ فلمْ يعُدْ فيلم كوميديا مغامرة. فقد حدَّتْ بشدَّة من دور الكوميديا وانتشارها في العمل، وأقامتْ مقامها حوارات عن المجتمع وخلفيَّاته، وعن قضيَّة الفيلم التي سيأتي الحديث عنها.

ومن الفنيَّات التي اعتمدت عليها أيضًا البدء بفصل تمهيديّ مُضاف عن مولان وهي طفلة صغيرة لتعرض استباقًا لنفسيَّة الطفلة المِقدامة الشجاعة، وكذلك لتُقدِّم فكرة “التشي” وهي الطاقة الكونيَّة المبثوثة في الكون حسب بعض المُعتقدات الصينيَّة، والتي يسعى الإنسان للاتحاد بها. ومن تمُنُّ عليه تلك الطاقة وتتسرَّب إلى داخله يصبح إنسانًا غير عاديّ في قدراته ومهاراته. وهذه الفكرة “الطاقة الكونيَّة” موجودة في غالب المعتقدات الشرقيَّة في صور شتَّى، وهي طاقة واعية مُدركة خالقة. استخدمتْ المخرجة كلّ هذه المعطيات أو المُشكِّلات لتصوغ بها إرساء استباقيًّا لشخصيَّة البطلة.

ومن الفنيَّات كذلك استخدامها أسلوب الراوي الذي تدخَّل ليعرِّفنا بأنَّه سيقصُّ قصَّة مختلفة عن القصص الكثيرة التي تتناول حياة مولان، وليزودنا ببعض المعلومات، ثم يظهر مرات قليلات في بناء الفيلم ليؤكد على معنى، أو ليفصل بين مرحلة ومرحلة من سير الدراما، أو لينصَّ على عِبرة أرادها الفيلم. وكذلك غيَّرتْ المخرجة من تناول قضيَّة المرأة في بناء الفيلم كلِّه من خلال خلق شخصيَّة جديدة في بناء الفيلم كالآتي.

استطاع الفيلم التطرُّق بترشُّد إلى قضيَّة دور المرأة وفاعليتها في المجتمع، وفكرة التحقُّق التي تسعى لها المرأة من خلال مزاوجة أو ثنائيَّة صنعتها المخرجة بين شخصيَّتَيْ مولان والساحرة. وهما على طرفَيْ نقيض: فالساحرة (جونج لي) امرأة تمتلك الكثير من المهارات التي من الممكن أن تنفع بها مجتمعها؛ لكنَّ المجتمع لفظها لكونها امرأةً، بل وصمها بصفة ولقب ساحرة. لتكون كمًّا مُهملاً في حياة هذا المُجتمع؛ ممَّا حدا بها إلى التوجُّه إلى الجانب الآخر جانب الأعداء الذي عَرَف قائدهم نقطة الضعف عندها، وغذَّاها ليكسبها في صفِّه وتكون لها عونًا في مجابهة قومها. وبالقطع أظهرت المُخرجة الجانب الطيب من الساحرة في أكثر من محاورة مع قائد القبيلة ومع مولان؛ لتُخرج الشخصيَّة من دائرة “الشرّ” إلى دائرة الضحيَّة المُجتمعيَّة. بل جعلت تلك الساحرة وسيلة إنقاذ مولان في نهاية الفيلم.

على النقيض تأتي شخصيَّة “مولان” التي صمَّمتها المخرجة لتكون نقيض الساحرة. فهي الفتاة التي تُواجه نفس آراء المجتمع التي تقف في سبيل ما تريد. والتي منها القاعدة المجتمعيَّة أنَّ الفتاة للبيت وحسب، حتى إنْ استطاعت أنْ تقدِّم شيئًا فوق هذا الدور، ومنها اكتسابها هي الأخرى لقُدرات “التشي”، وأنَّ الطاقة الكونيَّة تسري بين ثناياها لتكون أشجع وأفضل من المقاتلين الرجال ولا يكون لها حقّ في أنْ تحارب معهم. ومنها أيضًا تلك الضغوط التي تمارسها عائلتها عليها وملاحقتهم إيَّاها بقولة شرِّفينا بكونك ابنة طبيعيَّة. كلُّ هذه الضغوط نجدها عند مولان لكنَّها تأبى أنْ تسير سير الساحرة، وتأبى أنْ تفكِّر في نفسها فقط، وتأبى أنْ تخون عائلتها ووطنها في سبيل فكرة التحقُّق.

وعليه لمَّا دارت الدراما دورتها واستطاعت مولان إدراك فكرة “تحقُّق المرأة” استجلبتْ إعجاب الساحرة نفسها، التي كرَّرتْ مرَّتَيْن: “امرأة تقود جيشًا”. والتي رأتْ في مولان نجاحها الذي لمْ تستطع تحقيقه بنفسها، ممَّا دفعها أنْ ترى استحقاق مولان الانتصار لا تلك القبائل التي ساعدتها، ومن ثَمَّ ساعدتها على الانتصار، وأنقذتها بروحها لتحيا مولان التي نجحتْ، ولتموت الساحرة التي انحرفتْ في الطريق. ولعلَّنا نرى المخرجة قد أعادتْ مولان إلى بيتها وعائلتها رغم عرض الإمبراطور المُغري التي تلقَّتْه، لتُشرِّف عائلتها بالطريقة التي أرادوها، بعدما أدَّتْ دورها الذي أرادته.

ومِمَّا استطاعت المخرجة تضفيره لصُنع فيلم قويّ تلك الرحلة مع الثقافة الصينيَّة بجهتَيْها الماديَّة والمعنويَّة. ففي جهة الماديَّات رأينا بيوت الصين، رأينا ملابس الصينيَّين رجلاً ونساءً، وكيفيَّة تصفيفهم لشعورهم، وما يمتازون به من نظام تزيين للوجوه النساء. رأينا ما يزرعون، كذلك المدينة الإمبراطوريَّة بطرقاتها، وفُسحاتها الممتدَّة، وقاعاتها الشاسعة. ورأينا ملابس الإمبراطور، وملابس حاشيته، رأينا نظام الكَتَبَة المحيطين بالإمبراطور طوال الوقت لكتابة كلّ أمر يأمر به. كم جعلنا الفيلم أيضًا نطلِّع بنظرة خاطفة على تشكيلات الجيش، وملابسه.

أطلعنا على الحياة الاجتماعيَّة للمجتمع الصينيّ الذي يعمل بالزراعة والرعي، والذي يتمثَّل فيه دور الرجل في المشاركة في العمل وفي التصدِّي للحروب. ودور المرأة يتمثَّل في المشاركة في بعض العمل، وفي تربية الأسرة. ورأينا نظام الخاطبة التي تقرِّر مدى صلاحية كل فتاة للزواج، وأنَّ هذا القرار منها يشيع بين المجتمع ويعدُّ حُجَّةً تحتجّ به كلّ أسرة لابنتها، وقد تُعيَّر به أيضًا.

وأطلعنا على الحياة الدينيَّة وفكرة عبادة الأسلاف والأجداد، وتقديس بعض المخلوقات النادرة أو الأسطوريَّة مثل طائر العنقاء -الذي يُسمَّى الفينيق أيضًا-، وكيف يدعو الصينيّ للأسلاف ولهذه المخلوقات طالبًا العون والمساعدة. وكذلك فكرة الطاقة الكونيَّة “التشي” التي جعلها دعامة لتكوين شخصيَّة البطلة، وكذلك لتقديم تسويغات دراميَّة شتَّى طوال الفيلم.

وأطلعنا كذلك على ثقافة القوم من خلال الإشارة إلى أنَّ الإمبراطور عندهم هو ابن السماء، ولذلك حمايته والإخلاص له واجب حتميّ على كلّ فرد. وأطلعنا -بل اعتمد اعتمادًا كبيرًا في التبرير الدراميّ- على الأخلاق الرئيسيَّة في المجتمع الصينيّ ومنها الوفاء، الشجاعة، الصدق، والولاء للعائلة والإمبراطوريَّة، وكذلك خُلُق التضحية بالنفس لأجل العشيرة والمجموع.

فيلم مولان قدَّم تجربة شريط صوتيّ غنيّ مُتعدد المستويات والطبقات، والتجربة السمعيَّة فيه حقًّا ثريَّة. ولعلَّ هذه من ركائز إنتاجات ديزني عمومًا -مثال سلسلة قراصنة الكاريبيّ-. وجاءت التجربة البصريَّة متراوحة بين الجودة والعاديَّة -خاصَّةً في المؤثرات واحترافيتها، ودمجها مع حقيقيَّة الصورة-. لنخرج في النهاية بتجربة فيلم مغامرات عائليّ به الكثير من المحتوى عند التدقيق في النظر، ويمتاز بتجربة الفيلم المُسلِّي التي استطاعت المخرجة الاحتفاظ بها رغم كلّ شيء، مع بعض العِبَر التي اعتادت هذه النوعيَّة من الأفلام تقديمها مثل التي نسمعها في الفيلم تتردَّد: “أربعة جرامات من الممكن أنْ تحرِّك ألف رَطل”.

Visited 94 times, 1 visit(s) today