ملحمة نولان عن أوبنهايمر ضعيفة ولكن غير عادية

كان لدى أجهزة الاستخبارات السوفييتية في زمن الحرب اسم رمزي لمشروع مانهاتن، وهو خطة الولايات المتحدة لبناء قنبلة ذرية: إينورموز. وفيلم كريستوفر نولان الجديد حول هذا الموضوع هو بالتأكيد  Enormoz، وربما هو المشروع الأكثر ضخامة له حتى الآن: دراسة ضخمة لما بعد التفجير، وإجراء سردي لاضطراب ما بعد الصدمة يملأ الشاشة العملاقة بملايين الشظايا المؤلمة التي تمثل الأحلام والذكريات المحطمة للمشروع المسكون بالأشباح، للقوة الدافعة المعقدة، جي روبرت أوبنهايمر، الفيزيائي اللامع صاحب المزاج الفني الذي منح البشرية وسائل تدميرها.

الحدث الرئيسي هو العرض الأول المرعب: اختبار ترينيتي النووي في صحراء نيو مكسيكو في يوليو 1945، عندما قيل أن أوبنهايمر كان يتأمل مليا (وهو ما تردد لاحقًا على شاشة التلفزيون) في أبيات فيشنو من الكتاب المقدس الهندوسي، البهاغافاد غيتا: والآن أصبحت الموت، مدمر العوالم…”

هذا هو الانفجار الكبير، ولا يمكن لأحد أن يجعله أكبر أو وأشد وطأة من نولان. إنه يفعل ذلك دون تحويله ببساطة إلى عمل مثير – على الرغم من أن هذا الفيلم، رغم كل جرأته وطموحه، لا يحل أبدًا مشكلة انسداده: أي ملأ دراما بهذا الطول، بعذاب المبدع العبقري أوبنهايمر على حساب التغاضي عن عرض التجربة اليابانية وما وقع على سكان هيروشيما وناجازاكي.

يتحرك نولان ذهابًا وإيابًا عبر الزمن، على جانبي الانهيار التاريخي لعام 1945، مما يمنحنا بدايات أوبنهايمر كعالم شاب، وحيد وغير سعيد، مكهربًا بالتطورات الجديدة في ميكانيكا الكم، الشاب اليساري الذي لم يصبح أبدًا عضوًا في الحزب الشيوعي ولكن مناهضة الفاشية حفزت رغبته في تطوير القنبلة قبل أن يتمكن النازيون من ذلك، وقام بتوجيه مئات العلماء.

وفي وقت لاحق من الخمسينيات، هناك المسؤول المخيب للآمال والمساوم، الذي يلاحقه المكارثيون بسبب صلاته الشيوعية، والذي يشعر بالغثيان من شهرته التي لا معنى لها، ومن فشله في إنشاء مراقبة نووية دولية بعد الحرب، ومن فكرة واحدة مرفوضة، في حين استسلم النازيون قبل فترة طويلة وكذب ما تردد عن توصلهم الى هذا السلاح، وأن قصف اليابانيين المهزومين في هيروشيما وناغازاكي كان لمجرد إخافة الروس من خلال استعراض قوة جبار لسيادة الولايات المتحدة النووية.

سيليان ميرفي هو شبيه أوبنهايمر بشكل مخيف بقبعته وغليونه المميزين، وهو جيد جدًا في التقاط إحساسه بالعزلة والسجن العاطفي، مما يمنحنا نظرة أوبنهايمر مليون ياردة، ومقل العيون مثبتة في جمجمة هزيلة، ورؤية الأشياء والتنبؤ بالاشياء التي لا يمكنه التعامل معها.

مات ديمون هو اللفتنانت جنرال ليزلي جروفز الفظ، المدرب العسكري الغاضب لأوبنهايمر؛ وكينيث برانا هو بطله العلمي اللطيف ومعلمه نيلز بور.

روبرت داوني جونيور هو رئيس هيئة الطاقة الذرية المخادع لويس شتراوس. وتلعب فلورنس بيو دور حبيبته جان تاتلوك، التي حطم قلبها، بينما تلعب إيميلي بلانت دور زوجته كيتي، التي تتعرض أيضًا لمعاملة سيئة.

يقوم توم كونتي بدور ألبرت أينشتاين المنعزل بشكل مؤسف، ولا بد من القول إن نولان، سواء كان على حق أم على خطأ، يستخدم ممثلين غير يهود في دوري أوبنهايمر وأينشتاين، وهما اثنان من أشهر اليهود في التاريخ، وفي الواقع لا يحيط تمامًا بموضوع معاداة السامية التي واجهها أوبنهايمر باعتباره يهوديًا أمريكيًا علمانيًا مندمجًا.

هناك مشهد رهيب يظهر تجربة أوبنهايمر كطالب دراسات عليا غير سعيد في في جامعة كامبريدج. لقد عانى مما يصل إلى حد الانهيار النفسي، ووضع تفاحة مسمومة على مكتب مشرفه الغاضب باتريك بلاكيت (جيمس دارسي)، ولكن لحسن الحظ لم يلاحظها بلاكيت ولم يأكلها.

يدعو نولان بكل هدوء إلى رؤية هذا باعتباره حكاية عن جنة عدن المفقودة لفيزياء ما قبل الحرب الأكثر براءة، حيث يظهر أوبنهايمر كأفعى ببراءة آدم الحمقاء. وبالطبع هناك المفارقة الزاحفة في السيرة الذاتية: إلى أي مدى اقترب أوبنهايمر من قتل شخص ما.

يتم تقديم أنقى حمولة من الخوف في مشهد يتعامل معه نولان بحماسة صريحة. بعد التفجير الناجح لقنبلة هيروشيما، يظهر لنا أوبنهايمر في حالة صدمة، لكنه يدرك أيضًا أن عليه مخاطبة جمهور من الزملاء والمرؤوسين المبتهجين.

إنه يعلم أن من واجبه كقائد أن يهنئهم وأن يكون متفائلاً، متلعثماً ببعض الملاحظات السخيفة حول كيف أن اليابانيين “لم يعجبهم ذلك”، ثم يدرك مدى قسوة قوله هذا، قيبدا في الهلوسة والشعور بالرعب.

بالطبع، لم يشهد أوبنهايمر الاستخدام الفعلي لسلاحه، ولم ير أبدًا أي شيء يتحول إلى موت، وانه أصبح مدمرا للعوالم، ويتخذ نولان قرارًا بأن ينظر بعيدًا عنه أيضًا، ليبقى في الولايات المتحدة، ليبقى مع أوبنهايمر نفسه بكل ما أبداه من لا مبالاة مأساوية مفاجئة.

ربما تكون اللحظة الأكثر أهمية في الفيلم هي تلك التي تعالج عيبه: اللقاء الأسطوري بعد الحرب في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض بين أوبنهايمر والرئيس هاري ترومان (الذي يلعب دوره غاري أولدمان)، الرجل الذي اتخذ القرار النهائي بإسقاط القنبلة.

يُظهر نولان ومورفي كيف ينكمش أوبنهايمر أمامه على الأريكة، مثل طفل صغير خائف، يريد على ما يبدو شيئًا مثل الغفران من الرئيس ويتمتم بأنه يشعر أن “يديه ملطختان بالدماء”. ولكن ترومان، الذي يبدو غاضبًا ومرتبكًا، يقول له باقتضاب أن هذه هي مسؤوليته كرئيس يوجه له سؤالًا وثيق الصلة: “هل يعتقد أن اليابانيين يهتمون بمن صنع القنبلة؟ لا، بل إنهم يريدون معرفة من أسقطها”. وهذا صحيح: التركيز على أوبنهايمر أمر رائع في نفس الوقت وبجانب النقطة التاريخية الأكبر. في النهاية، يوضح لنا نولان كيف أن الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة لم تستطع أن تغفر لأوبنهايمر أنه جعلهم أسياد الكون، ولم تستطع أن تتسامح مع كونها مدينة لهذا المثقف الليبرالي. يضيع أوبنهايمر بشكل مؤثر في كتلة متلونة من اللمحات المكسورة: صنم البطل المضحي به في القرن الأمريكي.

Visited 4 times, 1 visit(s) today