مرايا “فهرنهايت 9/11” مايكل مور يحقّق في وقائع فاشية معلنة

“أمريكانا” مايكل مور أو التاريخ الشخصي لتصدّع الحلم الأمريكي

في نوع السينما اللاتخيلية (1)، أصبح اسم مايكل مور يعني هذه المعادلة الصعبة لإنجاز فيلمي كلّما التصق بالسينما كفن كان للحراك الإجتماعي والنشاط السياسي أقرب، وكلّما رجّح كفة الذاتية في طريقة معالجته كان طرحه المضاميني أكثر موضوعية ومحاديا للحقيقة التي يودّ تمريرها في خطابه. في شرط هذه المعادلة يحضر مايكل مور كمؤلف سينمائي ببصمة تعبيرية خاصة، ويغيب فيها في نفس الآن حين يبدو ناشطا سياسيا يجنّد السينما في بعدها الصحفي لا غير.

في حفل تتويجه بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان سنة 2004 عن فيلمه فهرنهايت 11 /9 الذي خرج للمشاهدة وسط ظرفية احتقان سياسي، ألحّ رئيس لجنة المهرجان الفرنسي آنذاك، المخرج الأمريكي كوينتين ترانتينو، على أن مبرّر الجائزة سينمائي بالدرجة الأولى.  إلحاح على المصداقية الفنية والإبداعية كهذا، كما يحاول أن ينفي تهمة البورباغندا التي ألصقت بمايكل مور بسبب موقفه العدائي الصريح من سياسة جورج بوش الإبن، يعرض من جهة أخرى هذه الحتمية النقدية التي تلاحق المخرج وأفلامه، والتي بحكم نوعها التسجيلي، وطرحها المضاميني التقدمي، لازالت عرضة لقراءة تكتفي بالتدوير الكلامي لما جاء في شريط الصورة، واستنساخا حرفيا لما ظل علقا في من الشريط الصوتي مع تطعيمهما بموقف الناقد السياسي. أفلام مايكل مور تجنّد في الدرس السياسي أكثر منه في الدرس السينمائي.

لكن حين نستبين ملامح التيمات العامة التي تعالجها سينما مايكل مور، وعلى رأسها هذا الزوج المركب بين مظهرات تصدّع الحلم الأمريكي وأوجه وحشية الرأسمالية الأمريكية، يصبح ما يُحمل على التهمة والتنقيص في حق المخرج استحقاق وشرف يمكن أن يحمله كسينمائي أمريكي من جهة، وكمخرج في نوع الفيلم التسجيلي من جهة ثانية. مايكل مور حقّق فعليا للسينما في عمومية هدفها التواصلي، حلمها الطوباوي كفن جماهيري يملك  قدرة تواصلية فعّالة وطاقة تأثيرية، يأخذها، في سياق هذا المخرج، رئيس الجمهورية الأقوى في العالم وحكام ولاياتها بكثير من عين الاعتبار وبدرجة لا يستهان بها من الحيطة والحذر. وبانخراطه المباشر في واقع ظرفيته الإجتماعية والسياسية، منحت سينماه التسجيلية للتاريخ هذه المادة التوثيقية التي كان يطمح الفيلم التسجيلي لتحقيقها منذ  بدايته،  لتكون  فيلموغرافيته  فعليا هذا المصدر الجديد لعلم التاريخ Une Nouvelle Source de L’Histoire(1898)، كما استشرف عنوان كتاب بولسلو ماتوزيوسكي Boleslaw Matuszewskiالذي يعدّ أول كتابة تنظيرية تحيط بالنوع التسجيلي في السينما.  

نشأ مايكل مور في أسرة تنتمي للطبقة الشغيلة حيث كان أبوه عاملا في مصنع للسيارات وكانت أمه مستخدمة كسكرتيرة. حين انفصل مبكّرا عن الدراسة في المرحلة الجامعية، انخرط في النشاط السياسي، حيث تجنّد كمحرّر في الصحافة اليسارية، معتمدا ذكاء الشارع ومبينا عن قدرة بليغة في جسّ نبضه والإحساس بهموم وتطلّعات أفراده. شخصية الكاميرا، التي اختارها مايكل مور لنفسه، تعكس إلى حدّ قريب هذه المؤهلات المتواجدة في سجلّه البيوغرافي، والتي إلى جانب خلفيته الأيديولوجية والسياسية، ساهمت مباشرة في تطوير خطّه الأسلوبي ومدت سينماه بلون خاص داخل نمطها الإنتاجي.

أبرز هذه الخاصيات تكمن في حرص المخرج على الظهور في صورة إنسان الشارع المتواضع والمشاكس في نفس الآن. هندامه يتشكل في غالب الأحيان من سروال جينز وقميص بغطاء واق للرأس hoodie، بكل الحمولة الرمزية التي يحمل في الثقافة الأمريكية، من التعبير عن بساطة وأريحية مرتديه إلى الإشارة التي تجعل من هذا الأخير مارقا اجتماعيا وكبش فداء إن لم يكن هدفا بوليسا صريحا، كما يحصل أحيانا في حالة الأقلية الأفرأمريكية. في لسانه ولكنته تتردّد العبارات النّابية التي تنقل السخط الإجتماعي، وتنقل كذلك هذه الشحنة من الاحتجاج على السلامة اللغوية الموظفة في الخطاب السياسي والأكاديمي، والتي أصبحت من ميزاتها حسب عالم الإجتماع الأمريكي مايك ديفيس  Mike Davisتجميد الأزمات  في خطاب عقلاني عقيم، عوض التطرق لتفكيكها والبحث في إمكانيات إيجاد حلول لها. عبر هذه الشخصية يعكس مايكل مور كذلك نموذج هذا الصحفي التلفزي الذي أصبح الإعلام المسيّس والموجه من طرف المؤسسات المالية والتجارية يستعيض عنه بالمراسل الرسمي الأنيق الذي يساوم أكثر من أن يواجه أو يعارض.

صنع شخص مايكل مور للسينما شخصية بطل مضاد تتماهى معه الجماهير حين يمنحها فسحة التعبير عن ذاتها في خطاب متنوع ومتعدد في وجهات النظر، يجد فيه اليميني كما اليساري أو اللامنتمي شيء من همّه واهتمامه. نجاحه في ذلك يعود لسياسته كمؤلف وازَن بين خطّ أسلوبي يساري على مستوى الطرح والمضمون بالدرجة الأولى، ونمط إنتاجي سينماتوغرافي يراهن على النموذج الهوليودي التعبيري في طريقة المعالجة. أسلوب يجعل من عنصر شكلاني كالإنعكاسية الذاتية لرجل الكاميرا، على طريقة الروسي تزيكا فرتوف، مكمّلا للشفافية الواقعية التي تخلق انطباع الواقع. برغم النجاح الذي حقّقه على مستوى الثقافة الشعبية، والأرقام العالية في مداخيل أفلامه التي لم يصل إليها أي فيلم أمريكي داخل النوع السينمائي الذي يتنج فيه، ظلّ مايكل مور ملتزما بهذه الإستراتيجية الأسلوبية السينمائية والتي مع الوقت منحت نفسها كذلك كاستراتيجية لتكوين وعي سياسي وتفعيله في نشاط حراكي وتقدّمي.

بناء على هذه المعطيات يصير الوعي بسينما مايكل مور من ناحية طرحها التيماتي هو الوعي بالسياسة الأمريكية من داخل تمثلها في ذهنية وطريقة تفاعل الإنسان الأمريكي معها بالدرجة الأولى، وفي حيّز تجربته الواقعية المباشرة دون تدخل لأي طرف خطابي تأويلي بين هذا الإنسان والمتلقي. شخص الكاميرا في سينما مايكل مور، عبر الانعكاسية الذاتية، هو انعكاس لهذا الفرد الأمريكي من الطبقة الشغيلة الأمريكية، وسينماه لا تراهن على الصراعات الحاصلة في الواقع السوسيوسياسي بطرفيها من الديموقراطيين والجمهورين، كما قد تبدو، ولكنها تراهن على هذا الشخص \الشخصية الأمريكية وهو يدرك، ويحتج، ويمارس الفعل وردّ الفعل تجاه هذا الصراع. أسلوبيته في التحقيق في الأزمات السياسية والاجتماعية تعتمد التهكّم، والمحاكاة السخرية وخطاب يجمع بين الجدّية والهزل ويرنو إلى التّرفيه.

كل هذه العناصر الموجودة في شخصية الكاميرا تعكس انتصار مايكل مور للشخص الأمريكي وليس لطرح أو خط أيديولوجي أو فكرة معينة؛ وتبرز خاصية هذا الأخير حين يتفاعل مع الإرهاصات السياسية من داخل ما تشكّل وظيفة السياسة في حياته الفردية والاجتماعية، وليس من مرجعية القناعات التي يحمل في رصيدها. في هذه الشخصية نجد في نفس الآن رجل الشارع، ومعلق السي إين إين والمشخِّص الهزلي في برنامج SNL. شخص الكاميرا مايكل مور هو نموذج لهذا الإنسان الأمريكي الذي لا يخدم السياسة أكثر مما يضعها تحت خدمته. 

اعتمادا على هذه الخاصيات التمييزية، أصبح مايكل مور يشكّل في السينما اللاتخيلية العالمية ما يشكّله البلوز أو البلوغراس في الموسيقى العالمية، أو ما يعنيه لقب “العم سام” في لغة التداول السياسية، أو إسم محمد علي في مجال الرياضة، أو الطريق السيار 66 في حقل الهندسة المدنية. صار وجها آخر للأميركانا Americanaأي إضافة سينمائية أخرى، بجانب جانر الويستيرن، لهذه المقتنيات المادية والأشخاص والأماكن والمفاهيم والحقب التاريخية التي يتمثلها الفهم الشعبي كأشياء خاصة بالولايات المتحدة الأمريكية وبشعبها.  على ضوء هذه الأمريكانا  قد نجد في فيلم مايكل مور فرصة درس أنثروبولوجي لمعاينة الإنسان الأمريكي مجرّدا من كل التّوصيفات الإيديولوجية التي تُسقط عليه، والتي غالبا ما تغيّبه في هذا التأويل المشرّط بالخطاب الجيوسياسي الدولي الذي يلغي إنسانيته، ويحوّله إلى مجرّد شخص وعاء مشحون بالأيديولوجية الرأسمالية ويتحرّك حسب إرادة وإملاءات سياسة البيت الأبيض.

لكن تحصيل هذه النتيجة قد يستعصي على مشاهد، بما فيه المشاهد الواعي الذي ينتمي لحقل الصناعة السينمائية الثالثة حين يُحكِّم زاوية نظر معرفية جوهرية essentialistتجاه الشخصية الأمريكية، ويتحكّمُ فيه منظور للسياسية لا يستقيم فيه الجمع بين الجدية والهزل. ليس من الغريب أن نجد المقاربة النقدية والتعليقية التي قد تستنفذ المستويات المضامينية في أفلام مايكل مور من خلال الخلفية الأيديولوجية للسياسة الأمريكية وتهمل جانب الإنسان في هذا المضمون، هي المقاربات العربية والتي تنطلق من تمثل العربي المختلف للسياسة ومن حساسيته المشرّطة تجاه سياسة الولايات المتحدة الأمريكية التي تؤثر سلبيا في محيطه الجغرافي.

على المستوى التعبيري تتطلّب سينما مايكل مور وعيا من نوع خاص يراعي هذا الخط الأسلوبي الذي تتقاطع فيه الصحافة والنشاط السياسي والترفيه. وهو ما يستدعي مقاربة تراعي التساكن بين هذه المستويات وطرائق تشابكها فيما بينها أحيانا وانفصالها عن بعضها أحيانا أخرى. فحصر مايكل مور في مستوى النشاط السياسي فقط، كشخصية شبيهة بداوود في بحث دائم عن جالوت جديد، لا يختلف في الإجحاف عن حصره في الجانب الترفيهي فقط. بهذا الطرح التيماتي وهذا التناغم الأسلوبي أسس مايكل مور ثقافة سينمائية ترحّب بكل منهج وتخاطب المشاهد في عقله وعواطفه.

تعدّد زوايا النّظر هذا واختلافها ينتج عن رؤية ورأي مايكل مور بالدرجة الأولى وعن نيته في خلق رأي تجاه ظاهرة أو حالة بعينها. عرض الوقائع والأشياء بهذا الشكل ينم عن تصوّر إبداعي نيتشوي في كنهه طالما يتعامل مع هذه الوقائع ليس كحقائق بل كتأويلات (2). وهو ما يجعل من فيلمه التسجيلي هذه المناسبة لتصحيح النظر بخصوص نوع سينمائي لازال يتحدّد في الحقل الإشكالي الذي تتضارب فيه معايير كالموضوعية والموضوعية النسبية والذاتية. ففي تقييم الفيلم التسجيلي لازالت تسود هذه المعيارية التي تعتمد الخلط المتداول بين الموضوعية والحقيقة، وتنطلق من القناعة الساذجة التي تقول بأن الكاميرا لا تكذب وتملك قدرة العكس الآلي للواقع، وأن مهمّة الفيلم التسجيلي بالدرجة الأولى هي ترصّد الحقيقة.  

سيرا على النهج الإبداعي لسينما المؤلف، تقدّم سينما مايكل مور نموذجا لهذا المؤلف التسجيلي الذي لا يدّعي تقصي الحقيقة أكثر مما يعرض مدى صلاحيتها في جدلية الذاتي والموضوعي داخل سياق سوسيوسياسي وثقافي معيّن. إنه كذلك المؤلف الذي لا يخفي بصمته التأليفية، إن لم يعكسها مباشرة في عمله صوتا وصورة، ومن خلال دراسته للأوضاع والحالات عبر بلاغة بصرية وأساليب شكلانية تجرّد الكاميرا والصياغة السينماتوغرافية من حيادها المثالي، وقد يلجأ أحيانا إلى تركيب مقاطع تبيانية عبر أداء الممثل أو بواسطة أنماط تخيلية أخرى كالتشخيص والأنيمايشن. تعبّر فيلموغرافية مايكل مور من هذا المنطلق على ميولات المخرج المؤلف في حقل الفيلم التسجيلي نحو الذاتية والإنعكاسية والصياغة الفيلمية التركيبية والشاعرية. في جمعه وتصفيفه وتركيبه لصورة البراهين والحجج التي تدعّم طرحه، يتجاوز هذا المخرج الملاحظة البريئة إلى هذه المعالجة الإبداعية للأحداث، يسقط فيها هاجس الموضوعية على حساب درجة معلنة من الشّخصنة personalization(3) تناسب الطرح العام للفيلم.      

حين يعتمد فيلم مايكل مور الأخير عنوان فهرنهايت 9/11 Fahrenheit 11/9 (2018)، يستدعي بإلحاح استحضار فيلم سابق، فإنه يقترح بطريقة غير مباشرة منهجية مقاربة تتجه نحو تخوم التقاطعات والحوارية بين ما شوهد من قبل وما نحن بصدد مشاهدته الآن مع مراعات الجانب الشاعري الناتج عن هذه التقطاعات في الأسلوب، أو بتعبير أدق في الأسلبة. لكن لسينما مايكل مور إملاءاتها الخاصة على النقد استنادا على ما أشرنا إليه أعلاه. وفيلم مثل فهرنهايت 11/9 رغم تفرّده الأسلوبي الذي يوجّه النقد نحو الدراسة النصية، لا يمكن حصر تفكيكه في أفق الدراسات السردية المهتمة بالحوارية والتناص، وتحليله حصريا تحت المجهر التنظيري لمكايل باختين أو جرارد جنيت أو جوليا كريستيفا، وإن كانت مقاربة كهذه ستنصفه أكثر. في نفس الآن لا يمكن إغفال هذا الجانب النصي، أو التناصي، وتحويل الفيلم إلى مناسبة أخرى لنقاش معرفي مشحون بالخلفيات والدوافع حول السياسة الأمريكية وأزمة الواقع الإجتماعي الأمريكي. فالتناغم الذي نشعره في فيلم مايكل مور بين مستويات الصحافة والنشاط السياسي والسينما، يعني كذلك الحرص على هذا التوازن في طريقة المقاربة الذي ترعى للمضمون مكانه وللتنويع الأسلوبي مكانته.

هذه المعادلة هي التي تحكم حركية الذهاب والإيّاب بين مستويات الطرح التيماتي وتنويعات التركيب الشاعري الذي يعتمد التناص في مقاربتنا لهذا الفيلم.

ماضي المستقبل

بعنوان “فهرنهايت 9/11″ يعلن مايكل مور عن نيته في إقحام المتلقي في مشاهدة جدلية تتفعّل عبر لعبة المرايا والإنعكاسات مع فيلمه فهرنهايت 11 /9 (2004) إن لم نقل كلّ أعماله السابقة. في هذه الإنعكاسات نجد مجالا لعدة تقاطعات. كلّ من الفيلمين تزامن تاريخ عرضيهما الأول مع فترة حملة إنتخابية أمريكية، الرئاسية بالنسبة للأول، والانتخابات النصفية بالنسبة للثاني، وسط ظرفية احتقان سياسي جعل كليهما يتجنّد في مهمة الدّعاية، المضمرة أحيانا والصريحة أحيانا أخرى، للمرشّحين الديموقراطيين مع برنامج واضح لهدم سياسة وساسة الحزب الجمهوري. وكلاهما يتداخل مع الآخر في زمنية تستفزّ الذاكرة وتحطّ المتلقّي في موقف التّساؤل عن وضعية الواقع الإجتماعي والسياسي في الولايات المتحدة، على ضوء الجدلية بين الهجمات الإرهابية على نيويورك وواشنطن، ووصول الرئيس دونالد ترامب لقبة البيت الأبيض يوم التاسع من تشرين الثاني خمسة عشر سنة بعد ذلك. في هذه الجدلية يُطرح السؤال المحرك في الفيلم حول ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001، إن كان يدخل في حالة السبب أم في حالة النتيجة، وإن كان حدث كهذا أو ما يشبهه في إنتظارنا مستقبلا؟

حدث مثل هجومات نيويورك، خصوصا بعد التحرّيات التي أدت لنتائج تدين عن قريب جهاز الإستخبارات الأمريكية، يمكن أن يحدث مرّة أخرى لأنه أسهل طريقة لشحن محرك سياسة التّخويف، التي يعتمدها لرئيس الخامس والأربعون منذ حملته الإنتخابية، بطاقة إضافية تضمن النتائج التي يتوخّاها، وبالشكل الذي  تحقّق للرئيس السابق جورج بوش الإبن. ما لا يدع مجالا للشكّ، هو أن شبح الفاشية المستقبلية في الولايات المتحدة الأمريكية أعلن عن نفسه حين فقدت هذه الأخيرة بوصلتها بشكل نهائي بعد أحداث نيويورك، وأصبحت مضطربة في جوهرها، وترتكب الكثير من الأخطاء، أولها خلط الإجراء الأمني بطواعية التخلي عن الحرّيات الفردية. بسبب هذا الإضطراب وهذه الأخطاء، وصل شخص مثل دونالد ترامب لقبّة البيت الأبيض لكي تواصل عبره الولايات المتحدة طريقها إلى ارتكاب مزيد من الأخطاء. أعراض هذا الإضطراب، والأوجه الأكثر قتامة للأخطاء القادمة هو مادة فهرنهايت 9/11.

يوهم الفيلم المشاهد المستأنس بمايكل مور أنه لا يحمل جديدا، وأنّه مجرّد توليف آخر يصاحبه صوت المخرج المعلّق وبنفس النبرة الإنتقادية المفعمة بروح  التهكم والسخرية. لكن في هذا الإيهام بالتكرار قد يطمئن هذا المتلقّي لمضمون مشاهدته، وعبر هذا القرب قد يفسح المجال المناسب لخطاب شديد اللّهجة لم يسبق لمايكل مور أن وجّه مثله في أعماله السابقة. فخطاب يعتمد الذاكرة هو خطاب إدانة ونقد بالدرجة الأولى، خصوصا في واقع أصبح فيه النسيان هو ردّ الفعل المناسب أمام الكوارث التي تنتج، وتتكرّر، عن تدابير سياسية لا تُدخل مصلحة المواطن في اعتباراتها. عوض التماهي مع جديد الصورة هناك هذا التصادم مرة ثانية مع الصورة القديمة، حيث نشاهد أطفال “كلومباين” يقتلون ثانية في “باركلاند”؛ وقد نعيد سماع نفس عبارات التّنديد، التي تردّدها أصوات المنتخبين والإعلاميين الذين جنّدتهم لوبيات صناعة وتجارة الأسلحة، لقتل لحظة الكارثة مباشرة في أزلية النسيان.

 نفس الكوارث تتكرّر عبر نفس الأعراض وأحيانا بنفس الطريقة والوثيرة وعبر نفس الفاعلين وإن بأقنعة مختلفة. جديد تسجيلي مايكل مور الأخير هو إعادة توليف الصور القديمة كعملية تفكيك لهذه الحصانة ضد درس الماضي، ليس فقط عبر التنقيب في مضمون الذاكرة وربط الأسباب بالمسببات ولكن كذلك في دراسة إمكانيات عودة هذه الأسباب بمسبّبات جديدة. في هذا التوليف تصير الذاكرة أداة تحمل وظيفة مزدوجة، حين تحلّل حالة النسيان المبرمج الذي أصبح شرطا ضروريا لوجود الأمريكي، وليس بالضرورة ناتج عن وعي تقدّمي إيجابي وإيمان قوي بالمستقبل، وإنما مجرّد رغبة فاترة في مواصلة العيش بأقل الخسائر الممكنة؛ وحين تكون كذلك المنظار الوحيد الذي يمكن أن نطلّ من خلاله على المستقبل واتخاذ المواقف اللازمة لتشكيله.

في فهرنهايت 9/11 يظهر مايكل مور مرّة أخرى في أحسن أدواره السينمائية كشخصية الكاميرا، ولكن بوجه لا يستر التخوف ونبرة لا تخفي التشاؤم.  في هذا الفيلم يفاجئ جمهوره بأسلوب جديد يزاوج بين التحقيق الصحفي التلفزي المعتاد والنشاط السياسي المنتظر لكن داخل خط إخراجي يحادي به جغرافية الفيلم اللاتخيلي كما رسم خريطتها التشيلي باثريسيو غوثمان والأرجنتيني فرناندو بينو سولاناس والسوري عمر أميرلاي.

من مرجعية هذا التقليد السينمائي والسينماتوغرافي، لا يكتفي مايكل مور بالتعرية المباشرة عن الفاعلين الرئيسيين في بنى التّدجين والتسلّط التي تحكم الواقع الذي يتطرّق له، بل يحرّض ويدعو مباشرة وبمنهجية  agit-propلاتخاذ موقف تجاههم، أينما وجدوا وبأي شكل يظهرون فيه. توظيفه الجدلي للذاكرة التوثيقية يقربّه أكثر من التقليد السينمائي التسجيلي الذي سنّه الفرنسي كريس ماركر رائد الفيلم المقالة. من داخل مقاصد وإمكانيات هذا التقليد، يرمّم مايكل مور هو الآخر ذاكرة الماضي بغرض تأسيس ذاكرة للمستقبل، ويؤرخ لما هو قادم وينتظرُ الأمريكيين دون أن ينتظرَه ُ الأمريكيون.

في هذا الفيلم يجنّد مايكل مور الفيلم التسجيلي بإمكانياته التواصلية الأكثر فعّالية حين يبرز الجانب التوثيقي الذي يخدم رؤيته النقدية من خلال العناصر المرتبطة بالسينما التخيّلية. نعيد مشاهدة أدولف هيتلر في صورة مستهلكة في الذاكرة التوثيقية وهو يلقي خطابا أمام حشد من الجماهير، لكن ما نسمع هو صوت دونالد ترامب يردّد تنظيراته الشعبوية عن إحياء عظمة أمريكا، وضرورة التخلّص، في سبيل هذا الهدف المقدّس، من مصاصي الدماء من المهاجرين النازحين من الحدود الجنوبية، والإرهابيين المنحدرين من الشرق الأوسط وشرق إفريقيا. في الصورة نشاهد نشأة النازية وجنينية محاكم التفتيش باسم العرقية والمحارق وكل الدمار الذي لحق العالم، بينما من خلال الصوت تتحدّد لنا ملامح هوية اليهود الجدد اللذين سننتقل عبرهم لمرحلة نازية أخرى.

عبر هذا التركيب يشاهد أمريكي اليوم وجه رئيسه الجديد في الملامح الحقيقية التي رسمتها الإيديولوجية التي استند عليها في حملته الإنتخابية واوصلته للبيت الأبيض، في الوقت الذي يستمع فيه الألماني القديم لصدى خطاب زعيمه في مدى الزمنية الطوباوية المستقبلية التي كان يبشّر بها. بتقنيات سينماتوغرافية، بدائية ومبتذلة كالدبلجة dubbingأنطق مايكل مور السينما الصامتة ولوّن فوتوغرامتها ليجعل المستقبل يحضر كشاهد على الماضي ويجعل هذا الأخير يكتسي من الحاضر فوريته وأفقه الغامض. في حيّز هذه الزّمنية الإحتمالية تأخذ الوثيقة طابع الإستشراف ويتماهى الحدث مع التبؤ ليخلص المشاهد إلى فكرة عن الترامبية  Trumpism(4) كوجه آخر للنازية القديمة، وتحقيق آني للجديدة منها.

في هذه النقطة بالذات يبدي مايكل مور تركيزه على إيصال فكرة مهمِّة لشريحة من الجمهور الأمريكي، وهي أن إعادة بناء أمريكا حسب النموذج الخمسيني، التي تحفظ للرجل الأبيض امتيازاته الفوقية، يتحتّم قطعا المساس بمقوماتها الديموقراطية ويفضي إلى نتائج مثيلة لما حصل في ألمانيا النازية. لتمرير هذه الفكرة، توَجَّه المخرج مباشرة إلى عقد مقابلات في متوالية تقارن بين ألمانيا عصر الأنوار والتقدم الصناعي وموسيقى فاغنر وسينما فريتز لانغ، وأمريكا الدستور الديموقراطي والتعددية العرقية والإنجازات العلمية والفنّية. في هذه المتوالية يشتغل صوت المخرج المعلق كهذا الضمير الذي يحذر من خطر انفلات الإستثناء من القاعدة، ووقوع الولايات المتحدة هي الأخرى في خطأ ألمانيا ما قبل النازية حين استبعد شعبها، المستنير بقيم الحداثة، احتمال ظهور الفاشية بين ظهرانيها. يعيد مايكل مور ما سبق وصرّح به ليلة الإنتخابات الأمريكية الرئاسية، في مسرحية مصورة فبركها بعجالة بعنوان “مايكل مور في أرض ترامب” Michael Moor in Trumpland(2016).

يحاكي مايكل مور أسلوب التعبئة الذي ينتقده في الفاشية، وصيغته الجديدة في نسق خطاب دونالد ترامب التبسيطي، حين يلجأ بشكل مقصود لأبسط المستويات السينماتوغرافية على مستوى الصياغة، كالتوليف عبر التوازي وتدوير الصورة بتعليق صوتي يشرحها أحيانا ويكتفي بتكرار مضمونها أحيانا أخرى. بساطة مثل هذه على مستوى الصياغة لا يوازيها لذى المتلقي في درجة الإدراك والإستيعاب إلا إحساس الرعب الذي تخلقه على مستوى الشّعور. في أسلوب يعتمد تقنية مزج رقمية جد متداولة مثل mash-up، تُفكِّك البروباغندا ذاتها عبر خطاب انعكاسي.

في لعبة المرايا بين لقطات مسترسلة لحادث حريق مقر البرلمان الألماني “الرايخستاغ”، الذي قدم الذريعة الأخيرة لصعود وسطوة النازية، ولقطات تابثة لقصاصات من جريدة نيويورك تايمز تعلّق على هجومات الحادي عشر من أيلول، تسقط الفواصل الزمنية حين يصف تعليق اليوم حادث الأمس وتظهر صورة هذا الأخير كمضمون لحدث مستقبلي. في فهرنهايت 9/11 تنطق السينما الصامتة وتتلوّن لتعرض صورة تستفزّ وتستفهم عن درجة الوهم من الحقيقة في هذه القناعة، المستهلكة والمستساغة، والتي تتردّد في المدارس والإعلام، وتقول بالجزم إن ما حصل في ألمانيا النازية لن يحصل مرة أخرى في التاريخ. إنها الصورة التي تعطي بعدا تجسيديا وأيقونوغرافيا لقناعة  واقتناع الفيلسوف ثيودور أدورنو بأن النازية لم تنتهي بعد وستتناسخ في المجتمع الأمريكي.

لعبة تبادل الأقنعة في مسرح سياسي جديد

“كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟” السؤال الذي سبق لمايكل مور وأن طرحه في تسجيلي “سيكو” مندّدا بالسلوك الأناني والجشع الرأسمالي الذي يقصي ملايين الأمريكيين من حق التأمين والتطبيب، يطرحه بنفس الصيغة في فيلمه الأخير. في هذا المجال الممتد بين ماضي السؤال وحاضره تكمن زمنية تطوّرَ فيها هذا السلوك الأناني والأناتي الرأسمالي عبر مظاهر ومراحل تنوالها بالتحليل في فيلم Capitalism: a Love story(2009)، إلى هذا السّلوك العنصري الذي يقصي الآخر المختلف باسم العرقية والقومية. إعادة طرح السؤال تعني كذلك معالجة جديدة للتيمة الرئيسية التي تعبر المتن الفيلموغرافي لسينما مايكل مور بطريقة مختلفة، تتجاوز منطق الثبات واستقطاب الأطراف بتحديد السلبي فيها من الإيجابي، إلى دينامية التداخل بين هذه الأطراف وانعكاسها في بعضها البعض عبر لعبة تبادل الأقنعة.

ظرفية فهرنهايت 9/11 هي ظرفية التباس وارتياب. فمن الصعب الإشارة بأصبع الإتهام إلى طرف دون آخر في واقع العولمة والرأسمالية المفرطة، وفي ظل صعود طبقة اجتماعية جديدة واكتمال تشكّلها وعيويا كالطبقة المبدعة (5). كل هذه العناصر مجتمعة ساهمت في تشكيل مواطن يعيش في الجانب السالب للحياة، حيث يفقد يوميا امتيازاته الواحدة تلوى الأخرى، ويعاني من عدم الأمان والتهميش وانسداد الآفاق. إنه المواطن الذي خاطبه ترامب مباشرة بالسردية التي يحبّ أن يسمع. ضخت هذه العناصر أنهارا من الغضب صبّت في بحر الشعبوية الذي ركبه الرئيس كما غيره من قادة العالم الذين بدا معهم في وضعيات مصافحة وتقبيل وعناق. دونالد ترامب كما غيره من نماذج الزعامة هذه، وجد في النداء بإحياء عظمة الماضي العلاج المؤقت لمشاكل الظرف الراهن، وقدّم البديل الثقافي المرتبط بالهوية والقومية كحل للمشكل الإقتصادي. في المشهد التأسيسي للفيلم نعاين عملية تعدين تمثال شمعي للرئيس الأمريكي، لنحضر صناعة أيقونة الزعامة السياسية في واقع العالم الجديد، وفي نفس الآن نتتبّع الأيادي المجهولة الهوية التي تصنع التمثال، ونقرأ فيها مجازا سينمائيا مرسلا يجسّد كل العوامل التي أشرنا إليها أعلاه.

دون تحويل الفيلم إلى درس أكاديمي عبر المسافة يشرح نظرية موراي روثباند عن الرأسمالية المفرطة وتبعاتها على المستوى السوسيوسياسي، أو يخوض في آراء نعام تشومسكي عن ثقافة الخوف ودورها في تسويق القرارات السياسية، يحطّ مايكل مور المشاهد مباشرة في صلب المشكل حين يطرح بصوته المعلّق سؤالا حول هويّة من عبّد الطريق لدونالد ترامب. سؤال ذو طبيعة بلاغية لأنه يتضمن فكرة عن إجابته كما يوحي السياق المشهدي الذي جاء فيه. يستمرّ مايكل مور على نفس الخطية الشاعرية الإنحيازية التي تقترض من السينما التخيّلية، ويلجأ هذه المرة إلى السينماتوغرافية الرقمية ليركّب مشهدا يبدو فيه دونالد ترامب وهو يمشي على رصيف في الشارع الخامس في مدينة نيويورك، عاصمة أمبراطوريته المقاولاتية، فوق سجاد أحمر يفرشه، وبتناسق مع خطواته، رجلين يقبض كلاهما بطرف من طرفيه المقابلين. استعارة سينماتوغرافية تقوم بوظيفتها المبدئية حين تسلط الضوء، ودون مراوغات استقرائية، عن الهوية الأليغورية للرجلين. هناك الحزب الجمهوري من جهة، والحزب الديموقراطي من جهة مقابلة. الحزبان اللذان يتحكّمان في مسرح الولايات المتحدة السياسي ويكسبان ثقة الجماهير الأمريكية في تمثيلهما.

يعرض المخرج الوجوه الجديدة للحزب الجمهوري في نسخته الترامبية والتي تجتمع في هدف التسريع في وثيرة التخلص من الدولة عبر عملية الخوصصة لقطاعاتها الأكثر حيوية كالتعليم والأمن والضمان الإجتماعي. في نفس الآن، وفي سابقة فاجأت متتبِّع أعماله، يعرّي على الوجه الجديد للحزب الديموقراطي حين عوّض تحالفاته القديمة مع النقابات والأفروأمريكيين والطبقة المتوسطة، بتحالفات جديدة مع وول ستريت والأبناك وأعضاء الحركات الإجتماعية الجديدة وعلى رأسها الحركة النسوية، كحق يراد به باطل كما نردد في ثقافتنا العربية. الحزبان معا دخلا في لعبة تبادل للأقنعة فوق خشبة مسرح السياسة الأمريكية ليخلِّفا وضعا من الإرتياب وعدم الثقة. يوازي الفيلم بين لحظتين يبين فيهما كيف سقط الحزب الجمهوري بسبب جشع أعضاءه في شرك الترامبية، وكيف خذل الحزب الديموقراطي، الذي ناصره المخرج كثيرا، آلاف  الأمريكيين  حين  ضحى بمرشح قوي مثل بورني سانديرس، بقاعدة  إنتخابية شبابية وجدت فيه الصوت التقدمي الذي أسكته برجوازيو الحزب كننانسي بولوسي وإعلاميوه كدونا برازيل، وأخرى عمالية، توجّهت مباشرة للتصويت على دونالد ترامب  حين لم تجد نفسها داخل برنامج الحزب الذي صنّم حملته الإنتخابية  في فكرة ثابتة idée fixeهي “المرأة الرئيسة” وراهن على شريحة الطبقة الإبداعية المقوقعة على ذاتها نرجسيا.

في رسم صورة واضحة للمسرح السياسي الجديد يعود مايكل مور لهذا المكان الذي يعرفه هو جيّدا وأصبح يعرفه كل من يعرف مايكل مور. إنها مدينة فلينت بولاية ميشغين، مسقط رأسه ونقطة بداية الحدث في كل أفلامه التسجيلية. المدينة المهجورة والشبح التي تعرفنا عليها في “أنا وراجر” (1989)، تعود للواجهة عبر أزمة مياه الشرب الملوثة التي شغلت الرأي العام الأمريكي لفترة مهمة من حكم الرئيس السابق باراك أوباما. عن هذه الكارثة يقول مايكل مور بصوته المعلق: ” لم يكن باستطاعة اي تنظيم ارهابي ثلويت مياه مدينة أمريكية بأكملها إلى أن أتى الحزب الجمهوري بولاية مشيغن وفعل ذلك.”  

تصرّف حاكم ولاية ميشغين الجمهوري ريك سانديرس، الذي سمح بتعرّض مواطني المدينة، هو نموذج للجمهوري الذي يفعّل طوباوية الرأسمالية المفرطة في إجراء سياسي حين صرّح بأنه سيتعامل مع ولايته كمقاولة. أمام هذا الوضع كان ردّ فعل الحزب الديموقراطي عبر رئيسه الأكثر شعبية والذي “أيقنته” الجماهير، باراك أوباما، عبارة عن حيلة مسرحية يبدو فيها وكأنه يحتسي كوب ماء من مياه المدينة.

في وضعية مدينة فلينت يجد مايكل مور الحالة المصغرة للكارثة الكبرى التي سيجرّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كل الولايات المتحدة إليها، ومسرح وضعها المستقبلي. يتجسّد أليغوريا في فلينت شبح النظام الفاشي الذي ينتظر البلد في آخر طريق شعبوية دونالد ترامب، وقاعدته اليمينية المتطرفة. في شوارعها الشبه مهجورة، وجد البانتغون الأمريكي فضاء مناسبا للتدريبات العسكرية على حرب المدن، الشيء الذي يرى فيه قاطنتها من الأقلية الأفرأمريكية القدر الذي ينتظرهم وينتظر كل الجيوب الفقيرة في المدن الأمريكية، خصوصا في ظرفية أمنية عُسكر فيها الجهاز الأمني على نموذج الأجهزة البوليسية والأمنية في الأنظمة الديكتاتورية الثالثية.

عبر مدينة فلينت، وثّق مايكل مور لكل أعراض الرأسمالية المرضية التي تعانيها الولايات المتحدة الأمريكية وساهمت في مضاعفتها إقليميا ودوليا. فهرنهايت 9/11 يؤرّخ كذلك لهذه الحالة الجديدة المرتبطة بواقع العولمة والنيوليبرالية الإقتصادية، وهي  الإتجاه المعاكس للظواهر، حيث تعدي سلوكات الأنظمة الإستبدادية الثالثية حكام وسياسيي العالم الديموقراطي، وكذلك هشاشة هذا الأخير وقابلية لتبني التجربة الشمولية، بداية بتوسع دائرة الفقر واتساع الهوة الطبقية، وعسكرة الجهاز الأمني، ونهاية برئيس يحمل مواصفات الحكام الشموليين الذين نجدهم في الواقع العربي وتغنى بهم روايات أمريكا اللاتينية. 

تغيير ترتيب الترقيم التاريخي من 9/11إلى 11/9هو في الأساس وهم التّغيير في مسرح سياسي تلاشت فيه الحدود والعلامات الفارقة بين طرف وآخر. حتى السلطة الرابعة التي كانت تقوم بدور صمام الأمان الذي يحفظ التوازن المطلوب بين إرادة المنتخِبين وإدارة المنتخَبين، لم تنجو من تقريع مايكل مور حين فضح تورُّط جريدة نيويورك تايمز في مساندة المرشحة هيلاري كلينتون في الإنتخابات، ودعمها عبر تخريجات تتهكّم من المرشح برني سانديرس، بحكم تقدّمه في السّن، ولا تعير أي اهتمام لبرنامجه التقدمي.

في مقال نشرته هذه اليومية المؤسّسة وصانعة الرأي عن فهرنهايت 11/9، وجد الناقد غلين كيني في طريقة معالجة مايكل مور لأزمة المياه الملوثة في فلينت نموذجا لبراعة هذا الأخير في التدبير الفني الملتزم لأزمات الواقع الإجتماعي والسياسي الأمريكي.  في نفس المقال قيّم معالجة قضية سرقة ورقة الترشيح الديموقراطي من بيرني سانديرس كعزف حزين داخل غنائية فيلمية مبتذلة. في رأيه، مايكل مور مخرج أمريكي يتمتع دون غيره بقدرات على خلق الإثارة والتهريج ومفاجأة الجمهور من داخل انتظاراته. رأي من هذا القبيل يحطّ الموضوعية الإعلامية التي ترفعها اليومية كشعار محطّ  تساؤل. في الوقت الذي يصف مايكل مور بما يميّزه كمخرج أمريكي، يسقط عليه الصفة الأكثر تمييزا لخصمه وهي الشعبوية.  

لكن تقييم غلين كيني لا يزيغ عن الصواب وإن انحاز به سياق الفيلم في اتجاه نية القتل الرمزي المبيَّتة. مايكل مور فعلا مهرج حين يقترن التهريج بأسلوب نقدي فعال ومضمون النتائج. دوائر النقد والدراسات السينمائية تؤكد ذلك حين تحفظ له موقعه كمؤلف يستعمل نوع الفيلم التسجيلي كوسيلة ترفيه دون أن يجرّده من جوهر الملاحظة وتحليل الظواهر. من داخل هذه الميزة، استطاع هذا النمط الفيلمي الأقل أن استرجاع موضعه في الشاشة، بعد أن ضاع لفترة طويلة في الهوة العميقة التي حُفرت بين المجلات المتلفزة، والفيلم التخيلي المشحون إيديلوجيا، خصوصا أيام الحرب الباردة، حيث تم إهماله إنتاجا وعرضا.

واقع الإرتياب، شاعرية الإلتباس

في فهرنهايت 9/11 يعرض مايكل مور موضوعاته ويرسم ملامح شخصياته من جانب الإلتباس والغموض أكثر منها من جانب اليقين، أو رسم خط واضح بين الأطراف المتضاربة. حالة الفوضى والإرتياب التي يتّصف بها واقع الولايات المتحدة الجديد، تنتقل لأجواء الفيلم نفسه في شكل هذه البنية المبهمة التي يصعب فيها الفصل بين السلبي من الإيجابي. الرئيس باراك أوباما، وفي ظرف دقائق معدودة، يتحول من هذا الرئيس المشبّه بالمسيح في وجدان قاطنة فلينت من الأقلية الأفروأمريكية إلى مجرّد سياسي لا يختلف عن حاكم الولاية حين اكتفى بتدبير الأزمة عوض متابعة الأطراف المسؤولة فيها.

أثناء عرضه للقطات تجمع الرئيس السابق بحاكم الولاية في جلسات ودّية، أدرج المخرج حوارات مع بعض الضحايا تغنى بتعابير خيبة الأمل. أتبعها بالتعليق على لقطة ثابتة للوحة حائطية مكبّرة لرأس “الزعيم الشعبي” مرسومة على جدار مصنع مهجور، وبصوته المعلّق وجّه انتباه المشاهد لجانب الشبابيك المهشمة على الجدار، والتي تشغر في الرسم جانب الدماغ الأيسر في رأس الرئيس. توليف هذه العناصر، الصوتية والمشهدية، داخل نسق أسلوبي شاعري يعتمد التّركيب الداخلي، كما يقودنا نحو إستنتاجات قد تصبّ في اقتراح الدرس الأخلاقي المتعلِّق بغياب ما تبقى من الضمير الإنساني في العمل السياسي، قد يقودنا كذلك نحو صورة المصير الذي كان سينتظر الرئيس السّابق لو تعامل مع أزمة فلينت بالصرامة القانونية المطلوبة.

لقطة الرسم بازدواجيتها الأيقونولجية بين حقل السينما والفنون التشكيلية، تتعالق مع صورة مشابهة في الأرشيف التوثيقي، هي صورة الرئيس جون فيتجيرالد كينيدي حين هشّم رصاص الغدر رأسه، والذي كان يحمل مشروعا إصلاحيا شبيها في جدريته وتجديده بمشروع الرئيس السابق باراك أوباما، مع انتماء كل منهما لأقلية غير مرغوب فيها، دينية بالنسبة للأول، وعرقية بالنسبة للثاني.  في الوقت الذي يحتفظ التعليق والحوار بخاصية الخطاب المباشر داخل آنية الظرفية السوسيوسياسية، ترتقي الصورة في المتوالية إلى مستوى الإيحاء الشاعري الذي يرمز أكثر مما يُبدي ويدلّ، ويموقع الفيلم في زمنية الأليغورية المفتوحة.

صبغة الإلتباس في فهرنهايت 9/11 تتجاوز الشخوص والمواضيع لتمس البنية التأليفية نفسها. لم يتردّد مايكل مور كشخص الكاميرا في توجيه أصبع الإتهام لذاته. نشاهده بجانب صهر دونالد ترامب ومستشاره جريد كوشنر، ونسمع لتصريح صحفي لهذا الأخير يشيد بمجهوداته في التحسيس بقضية حق التّطبيب. نسمع كذلك صوت دونالد ترامب نفسه يدعي أنه حضر وجبة فطور مع المخرج، الشيء الذي أنكره هذا الأخير. لكن في إسهاب اليميني المتطرف ستيف بانون في التعبير عن إعجابه بسينما مايكل مور يضعنا هذا الأخير في حيّز إشكالي يتماهى فيه السلبي بالإيجابي والعكس بالعكس. فيه نقف على هذا الجانب من الحقيقة والمصداقية الذي نجحت سينما مايكل مور في بلوغه، وهو اهتمام المخرج الأول والأخير بالإنسان الأمريكي مجرّدا من كل إيديولوجية وانتماء. هذا الإنسان تتماهى معه كل الأطراف رغم تضاربها في وجهات النظر، وفي الخلفية الإيديولوجية والسياسية المحركة لها.

 أسلوب الإلتباس الذي انتهجه مايكل مور في هذا الفيلم يخدم طبيعة طرحه العام حول مستقبل الولايات المتحدة المعتّم والغامض الأبعاد كذلك. أمام هذه الصورة المغبشة يميل المخرج إلى خطاب الأمل الذي يزاوج بين الطوباوية الحلمية والطوباوية الواقعية. في هذه اللحظات الفيلمية يشغر الحوار وصور الأرشيف التلفزي مساحة أكثر، ويخفت صوت المعلّق بسلطته التأليفية فاسحا المجال للشخوص والأحداث الواقعيين لترجمة هذا الزواج الطوباوي على مستوى الحراك السياسي الواقعي. نستمع للنقد اللاذع الذي يوجهّه الديموقراطيون الجدد والثوار لسدنة حزبهم النخبويين. نتعرّف على وجوه جديدة كمرشحة نيويورك الشابة لمجلس الشيوخ أليكساندرا أوزاريو كورتيز أو مرشحة مشيغين رشيدة طالب (والتي فازت بمقعد في الإنتخابات النصفية التي كانت تجري أثناء تحرير هذا المقال).

توازيا مع الحوارات نشاهد كذلك إضرابات الشغّيلة في قطاع التعليم الأساسي، والتي صمدت لمساومات السلطات حتى حققت مطالبها، بما فيها مطالب المشتغلين في قطاع النظافة المدرسية. نعيد مشاهدة وقائع احتجاجات تلاميذ باركلاند الناجين من الإعتداء المدرسي المسلح، والتي إلى حدود تاريخ خروج الفيلم، لم يخفت بعد لهيبها الإعلامي. إنها اللحظات الفيلمية التي بدى فيها المخرج أكثر هدوؤا وتركيزا، ودون تردّد في قتل شخصيته التأليفية إن تطلبت الإستراتيجية التلقينية ذلك.

نعاين هذا في مجرى حديثه مع تلاميذ ثانوية باركلاند، حين اشاد، وبنوع من الأبيسية  بدور جيله في تكوين الوعي السياسي والحراكي لذى الأجيال الصاعدة، مشيدا بطريقة غير مباشرة  بدور السينما وأفلامه بالخصوص التي لا تخفى بصمتها في تشكيل هذا الوعي وترسيخه. تردّ عليه تلميذة بأنها مدينة في وعيها السياسي أكثر لوسائل التواصل الإجتماعي. كردّ فعل أمام هذا التعليق، يبتسم المخرج ويلتزم الصمت، مراعيا سلطته التأليفية والرمزية. ردّ من مايكل مور على التلميذة سيرجّح الكفة لصالح طرحه لو كان في مضمونه مناصرا لرأيها.  بردّة الفعل هذه، والمستبعدة جدا لو تعلّق الأمر برئيس دولة أو حاكم ولاية، يُسطّر مايكل مور على الدور القوي لوسائل التواصل الإجتماعي في الحراك والتّغيير السياسي، وفي نفس الآن يقدم حيّزا تخمينيا حول مستقبل السينما، والفيلم التسجيلي بالخصوص، في واقع سيطرة وسائط التواصل الإجتماعي، والتي بإمكانها تحويل كل ناشط سياسي، وكل مواطن عموما، إلى مشروع “مايكل مور” آخر ومحتمل وبنفس التوقيع والوقع كذلك.

 لكن، وفي هذا السياق، نجد نفس الهواتف الذكية التي غيّرت في مجرى الإنتخابات ووضعت مرشحين جدد وغير متوقّعين في الحلبة، هي نفسها التي توثّق لأنواع السلوكات العنصرية الإقصائية، وتسجّل عبارات الشتم والسبّ للأجانب والسود والمهاجرين. في الجزء الأخير من الفيلم، أستند مايكل مور على صورة الهواتف الرقمية بإطارها الخاص، الذي دخل مؤخرا كإضافة إلى قاموس الصورة السينمائية الأيقونلوجي والأيقونوغرافي مثل صورة الفيديو التلفزية والصورة السينمائية الرقمية والشريطية. بإقحامه لهذه الصورة يوزع مايكل مور ويشرذم الآلية التأليفية لفهرنهايت 9/11 عبر تعدد وتنوّع مصادر الصور الهاتفية المستعملة.  ينقل مايكل مور الواقع الأيقونولوجي الجديد المتميز بالتوثيق الذاتي، الذي صار جهازا دفاعيا في واقع اجتماعي يخيّم عليه شبح الفاشية والعنف المادي والرمزي.

عبر هذه القماشة السينماتوغرافية الرقمية يضع المخرج المشاهد مباشرة في أزمة الوضع الراهن ليتساءل ويخمّن إن كانت الحالة المرضية للديموقراطية الأمريكية قد استفحلت جدا ووصلت للباب المسدود، وانفلتت الأمور من عقالها بدون أي مؤشر نحو التحسن والعلاج، أم أن الحل موجود وفي ملك الجميع كما تطمح التجربة الديموقراطية مبدئيا وتطبيقيا. أمام وضع بهذا التأزم يتدخلّ الصوت التأليفي المعلق، على مشهد بانورامي لمعالم العاصمة الأمريكية، ليقترح خيارين ربما هما المتبقيين: إما التنازل والإستكانة والقبول بالوضع كما هو، أو الغضب والقيام بشيء مختلف كالذي يلمّح له بالثورة الفرنسية. كما انفلتت الفاشية من عقالها كذلك تخصبت إمكانية “الثورة” بفضل الثورة التكنولوجية.

حواريات

مايكل مور ليس متشائما وليس متفائلا في نفس الآن. هو واقعي حسب طاقة وطريقة إجراء الفيلم التسجيلي الموجه لجمهور منمّط بقوالب سينما هوليود عامة، ومعني بشكل خاص برسالة هذا الفيلم التأجيجية والمكلّفة الثّمن. هذا الجانب المنمّط على مستوى التعبيرية السينماتوغرافية، وعلى مستوى المحتوى الخطابي المباشر في الطرح غيّب جانبا مهما في البعد التأليفي لفهرنهايت 9/11 كبعد الحوارية والتعالقات التي حاكها هذا الفيلم داخل النسيج الثقافي والفني، وظلّت محتشمة الظهور.

يظل المستوى الشاعري في هذا الفيلم رهين حفريات استقرائية تستدعي مشاهدة واعية تتجاوز المضمون الواقعي في سياق طرحه السوسيوسياسي. كنموذج لهذا، نستحضر اللقطات المسترسلة للفوتوغرافيات التي يبدو فيها الرئيس دونالد ترامب مع ابنته إيفانكا كوشنر في وضعيات مشحونة بالبعد الشبقي، وتلمّح لعلاقة ملتبسة بين الأب وابنته تنبني على الشهوانية أكثر منها على الرابط الأسري. بالنسبة لمشاهد متعوّد على تخريجات ترامب الشبقية، والمفرطة في لغتها الساقطة في الكثير من الأحيان، مثل التي وصف فيها ابنته لمظيف إذاعي ك” قطعة مؤخرة جذابة”، سيجد لهذا المقطع من الفيلم سياقا في البعد الجنسي العدواني الذي يقترن بالجانب السلوكي للرئيس الأمريكي، وتزكّيه تهم الإغتصاب الموجهة له.  وهو ما سيحقّق نوعا من الإرتواء التدليلي  saturation الذي قد يغيّب البعد الإيحائي الحواري كإحدى المستويات الممكنة لقراءة هذه الفوتوغرافيات.

هذا البعد قد نعثر عليه في الأسطورة الإغرقية في علاقة الملك أغاممنون مع ابنته إليكترا، ومع كل الإستقراءات السيكولوجية المرتبطة بسلوك الإستبداد وعقدة العظمة والنفاخ بالنسبة للأول، والميولات الجنسية نحو الأب بالنسبة للثانية، أي ما يسجّل في القاموس السيكولوجي باصطلاح عقدة إليكترا. كما قد نعثر على هذا البعد الإيحائي الحواري في هامش إستقراء حواري على المستوى الأدبي. في هذا الإطار تستحضر متوالية الفوتوغرافيات بقوة وإصرار قصيدة “دادي” Daddyللشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث.

تلتقي الشاعرة سيلفيا بلاث مع المؤلف السينمائي مايكل مور في كون كليهما دشّن لموجة فنية تأخذ المتلّقي بالكثير من عين الإعتبار، قياسا مع نصية الكتابة أو عوالم المؤلف، مطوّرة تعبيريتها وأسلوبها بناء على مقصودية التواصل مع هذا الأخير وانطلاقا من واقعيته السوسيولسانية. في موجة الشعر الإعترافي كما في الفيلم التسجيلي الترفيهي يتصدّر المتلقي المكان الرئيس، ليجد في شعرية الأولى وأيقونولوجية الثانية، ذاته وهمومه وتطلّعاته ومن داخل لغته اليومية الخاصة. في حيز هذا التقاطع المبدئي نجد في قصيدة “دادي” محور هذه العلاقة الصراعية بين أب يحمل كلّ التوصيفات الأبيسية للتسلّط، والتي لا يصعب معاينتها في شخصية الرئيس الأب دونالد ترامب، وابنة، شخص الشاعرة، نسمع في صوتها الصوت الغائب لإبنة الرئيس إيفانكا كوشنير.

تتكثّف الحوارية بين القصيدة وفهرنهايت 9/11 بداية من عنوانها “دادي”، ككلمة تعني “أبي” بشحنة من الدلال في التداول الكلامي العام، وتنحاز حسب إحدى سياقاتها إلى معنى الفاعل الجنسي الذكوري الإيجابي، داخل القاموس الشبقي الأمريكي وفي تمثله الذكوري الشوفيني. وضعيات الفوتوغرايات، وتعليق مايكل مور الذي يلوّح لباثولوجية الرئيس الأب ويقترح زاوية التحليل النفسي لقراءة هذه الفوتوغرايات، يفتح هامشا عريضا لصورة بونوغرافية ذهنية خارج الإطار، تشكلّها العناصر السياقية للكلمة؛ كون كلمة “دادي” معروفة في السياق ككلمة تُردّد أثناء العملية الجنسية، وكون هذا الأب الرئيس يتمتّع بسوابق سلوكية عنفية وتشييئية مرتبطة بالجنس والمرأة.

يتوسع أفق الحوارية بين قصيدة بلاث وفيلم مور أكثر بناء على المعطيات الموجودة في نصية الفيلم والمقترنة بعملية عَقْدِ المقارنات بينه وبين الزعيم النازي أدولف هيتلر. هذه المقارنات تجد صداها كذلك في القصيدة حين نجد صوت الشاعرة ينطق مرّة أخرى عن شخصية بنت الرئيس ويدوّر مجازيا ما يرتبط بيوغرافيا بواقع هذه الأخيرة، كتحولها المعتقدي من المسيحية إلى اليهودية. في قصيدة “دادي” نقرأ الأبيات التالية:

ظننت انّك صرت كل ألماني  ولغتك الفاحشة                                                           ودويّ هذا المحرك يقتادني كيهودية                                                 نحو داشاو، اوزفيتش، وبيلسن   بدأت أتكلم كيهودية                                                          أظن ربما إنّي يهودية.. (6)

ترسم هذه الأبيات ملامح الرئيس الفاشية التي رسمها مايكل مور أيقونغرافيا في فهرنهايت 9/11، فاتحة هذه الحوارية على تخمين مستقبلي لتصوّر ثورة داخلية في بيت الرئيس، من قبيل ثورة شخصية – شخص بلاث الشاعرة على مؤسستها الأبيسية كما تخلص إليه القصيدة في الختام.

حوارية فهرنهايت 9/11 التي تجد مجالها في فضاء الشعر في الأدب تمتد إلى السينما نفسها. في اللقطة الأخيرة في الفيلم، نشاهد شخصا يمشي في الشارع دون مبلاة بالنيران المضرمة في جسده. رمزية الحريق الذاتي تقودنا في اتجاه مجال حواري مزدوج بين الصورة الواقعية الخبرية والصورة السينمائية. نستحضر من سجّل الواقعية والحدث التاريخي، شخص التونسي محمد البوعزيزي الذي كانت النيران التي التهمت جسده الشرارة الأولى للربيع العربي. كما نستحضر من سجل الرمزية والأليغورية الشاعرية، شخصية دومينيكو من فيلم “حنين” Nostalgiaلرائد السينما الشعرية أندري تاركوفسكي.

سواء استند انحياز اللقطة على واقعية الحدث التاريخي، أو متعاليات السينما الشعرية، يتركنا أمام استنتاجات تدخل في هامش الفيلم اللاتخيلي في الرؤية والإجراء. قد نقرأ فيها أن المواطن الأمريكي، كما يحمل معه مشروع انتحاره الخاص، يحمل كذلك أمل التغيير وإمكانية الثورة. كما نقرأ فيها هذه الإمكانية التي يحملها الفيلم اللاتخيلي كمجال خصب بين الواقعية والشعرية.

تعالقات فهرنهايت 9/11 الحوارية قد تأخذ شكلها الأكثر علانية ومباشرة حين تستند على التاريخ وتوظفه كذاكرة للمستقبل من داخل تقليد الفيلم التسجيلي كما سنّه في النّظرية والإجراء المؤلف السينمائي الفرنسي ورائد الفيلم المقالة كريس ماركر. يعتمد فيلم مور كذلك المادة التاريخية في بعدها المستقبلي ويؤرخ لأشياء تتحقّق في المجال الإفتراضي للمستقبل. هو كذلك ذاكرة للأشياء التي لم تأت بعد، كما يقول عنوان ينتمي لسجل كريس ماركر الفيلموغرافي.  

نعيش من خلال الفيلم في زمنية، يتساقب فيها الحاضر والماضي والمستقبل، عبر هذه المتوالية الحوارية بين المخرج والمسن اليهودي (99 سنة)، وكان إحدى ضحايا الهلوكوست. في لقطة مكّبرة يبدو هذا المسن وهو يذرف دموعه، على الخلفية الصوتية لبكاء طفل يتكلّم الإسبانية بلكنة أمريكا الوسطى، فُصل عن والديه في الحدود الجنوبية بسبب إجراءات دونالد ترامب اللاإنسانية بخصوص الهجرة. في لقطة كهذه تكتنز وتتكثف كل المستويات الإحالية والتعبيرية المباشرة والاستقرائية في الفيلم. فيها ينزل كل الثقل التدليلي  والترمزي الذي يمكن أن يطمح له أي مخرج سينمائي يود تدوير موضوعة فيلمية تقرن الترامبية بالنازية.

هذا المشهد حتما سيخلّد فهرنهايت 9/11 في خانة سينما الضمير الإنساني، ويجعله يدخل في لعبة المرايا، ليس فقط مع فيلموغرافية المخرج وصداها الحراكي السوسيوسياسي، بل مع هذه السينما الإنسانية الملتزمة كسينما الإنجليزي كين لوش، والأخوين دردين البلجيكيين على سبيل المثال لا الحصر.  سينما التي لا تضحي بالشاعرية على حساب الهدف الالتزامي الحراكي ولا تلغي النشاط السياسي في الغموض التركيبي التأليفي، وتظهر بطلها بمخاويفه وآماله، وبإصراره على ممارسة حقه في العيش بكل ثمن. أي في إنسانيته الكاملة.

أوستن، نوفمبر 2018

هوامش

  • 1-  نفضل عدم ترجمة هذا المصطلحnon fiction film  بالفيلم اللا روائي أو اللادرامي، لكون عنصر السردية موجودةكذلك في الفيلم التسجيلي، والصراع الدرامي هو الآخر يرتبط بهذا العنصر ولا علاقة لهما بمادة المضمون الحكائي إن كانت نستند على الواقع أو الخيال، وكذلك بغض النظر عن أسلوب معالجة هذه المادة، كان يعتمد “التمثيلية” أو يشكّل صراعه من معطيات موجودة في الواقع.
  • 2- في مقولة نيتشه الشهيرة “ليس هناك حقائق، كل ما يوجد فقط هي التأويلات” نجد صدى فلسفيا يدعم الخطاب النظري حول نوع الفيلم التسجيلي فيما يخص طرح الموضوعية والحقيقة.
  • 3- تناولت جين تشابمان Jane Chapman هذا المصطلح بالتفصيل في مؤلفها الرفيع “قضايا في الفيلم  التسجلي المعاصر” Issues In Contemporary Documentary(2009). تشير الدارسة السينمائية أن عنصر الشخصنة هو أكثر ما يميز المؤلف السينمائي في هذا النوع.
  • 4- اضيف هذا المصطلح مؤخرا للقاموس الإنجليزي بدلالة كل هذه السلوك، والتعليقات الصادرة عن الرئيس دونالد ترامب. تستعمله الصحافة كذلك للدلالة  على هذه التدبيرات السياسية الجديدة التي تلغي القوانين الموجودة، وتدخل في المصلحة القومية للولايات المتحدة الأمريكية حسب رؤية هذا الرئيس.
  • 5- الطبقة المبدعة  Creative Classهو الإصطلاح الذي وضعه عالم الإجتماع الأمريكي ريتشارد فلوريدا في كتابه The Rise Of The Creative Class (2012) لينعت شريحة إجتماعية جديدة تتكون من المحترفين والتقنيين، أغلبها من الشباب، تتميز بامتلاكها للخبرة الإدارية المخصصة والمقننة مع مهارات عالية في التكنولوجية الرقمية، وهو ما يؤهلها للفرص الجديدة التي يمنحها سوق الشغل المقنن بهذه التكنولوجية. كما لاحظ ريتشارد فلوريدا، تتمتع هذه الشريحة بروح التعددية وبأفكار ليبرالية لكنها في نفس الآن بحكم فردانيتها الإختيارية،  تنفصل عن المجتمع،  وتفتقر إلى روح التضامن مع الفئات المهمّشة والمقصية فيه.

I thought every German was you.  

And the language obscene

An engine, an engine

Chuffing me off like a Jew.

A Jew to Dachau, Auschwitz, Belsen.  

I began to talk like a Jew.

I think I may well be a Jew.

Visited 74 times, 1 visit(s) today