مجدي أحمد علي: عين على الفن وأخرى على الشباك

المخرج مجدي أحمد علي المخرج مجدي أحمد علي

ينتمي المخرج مجدي أحمد علي إلى جيل من السينمائيين المصريين جاء بعد جيل “الواقعية الجديدة”- كما أطلق عليها الناقد سمير فريد للتفرقة بينها وبين “الواقعية الأولى” أي واقعية كمال سليم وصلاح أبو سيف وبركات وتوفيق صالح. ويضم هذا الجيل الذي بدأ ينجز أفلامه في التسعينيات، أيضا رضوان الكاشف وأسامة فوزي، ويمكن اعتباره امتدادا لجيل عاطف الطيب ومحمد خان وداود عبد السيد وخيري بشارة.

وبينما كان رضوان الكاشف يبحث عن أسلوب يقع بين الواقع والخيال حققه في فيلمه الثالث والأخير “عرق البلح”، واختار أسامة فوزي ما يمكن تسميته “الواقعية الرمزية”، اتجه مجدي أحمد علي إلى الواقعية التي تكتسي بمسحة قوية من الميلودراما، وبالتالي فهو أقرب هؤلاء المخرجين الثلاثة إلى التراث القديم للفيلم المصري. يحاول أن يصنع فيلما “شعبيا” لكنه في الوقت نفسه يريد من خلال الميلودراما التي تميز هذا النوع من الأفلام، أن يطرح موضوعا اجتماعيا “كبيرا” يشغل الرأي العام، يشتبك من خلاله مع الجدل الدائر في المجتمع.

هذه الحيرة الفنية، جعلت مجدي يتأرجح في أفلامه باستمرار من ناحية الأسلوب، فعندما يعثر على سيناريو جيد متماسك، يأتي فيلمه قويا مؤثرا، أما إذا أغوته جاذبية الفكرة بغض النظر عن متانة السيناريو، فيأتي الفيلم مفككا، مضطربا، مشوشا، يعاني من الكثير من الثقوب.

مجدي في أول أفلامه “يا دنيا يا غرامي” (1996) مثلا، كان يستند إلى سيناريو جيد كتبه حلمي هلال وراجعه رأفت الميهي بخبرته الطويلة في مجال كتابة السيناريو كونه أيضا المنتج الذي غامر بإنتاج الفيلم. وقد أتت المغامرة بثمارها، فنجح الفيلم على المستوى الجماهيري والفني كونه جمع بنجاح، بين قوة الموضوع الاجتماعي وتماسك العمل الفني. هذا النجاح تكرر وإن على مستوى آخر، في فيلم “خلطة فوزية” (2009) الذي أخرجه عن سيناريو هناء عطية. وعندما أراد مجدي أن يجرب أسلوبا حداثيا غير تقليدي، أكثر تعقيدا في فيلم “البطل” (1997)، أخفق، وأدرك بالتالي أن هذا التحليق الطموح فوق “سينما الشباك” يمكن أن يؤدي إلى السقوط، و لذا سرعان ما ارتد الى الميلودراما المباشرة المليئة بالمبالغات العاطفية في فيلم “أسرار البنات” (2001) استنادا على فكرة تتصف بما يعتبره مجدي “الجرأة الاجتماعية”.

وعندما استند مجدي إلى أصل أدبي جيد في رواية “عصافير النيل” لابراهيم أصلان أخرج عام 2010 عملا ربما يكون أفضل أعماله، لكن مرة أخرى، عندما أصبح الخطاب الاجتماعي-السياسي هو العامل الأكثر جاذبية، انجذب مجدي إلى عمل روائي للصحفي ابراهيم عيسى هو “مولانا”، يبدو موجها نحو هدف واحد من البداية إلى النهاية، رغم وجود مناطق مضيئة فيه بالطبع، فالأسلوب كما أشرت، يتأرجح دائما، فهناك مشاهد جيدة وشخصيات ومواقف موظفة جيدا جدا، وهناك مواقف وشخصيات أخرى مضطربة تصبح عبئا على العمل.

هذا المدخل يقتضي بعد ذلك مناقشة الأفلام نفسها.

 أخرج مجدي أحمد علي هذا الفيلم عن سيناريو صديق طفولته وأحد الأعضاء البارزين فيما عرف بـ “شلة المنيل” وهو محمد حلمي هلال. ويعتمد الفيلم ظاهريا على الزوايا والأركان السائدة في تيار السينما الواقعية الجديدة التي تأسست في مصر مع بروز جيل السبعينيات من المخرجين والكتاب المصريين، وهو تيار يستفيد كثيرا من التراث الجيد الإيجابي في السينما المصرية ويطوره، فهو يستخدم نجوم التمثيل، ولكنه في الوقت نفسه، يعتمد على ميزانية محدودة ويتخلص من التصوير في الاستديوهات، مفضلا التصوير في الأماكن الطبيعية.

ولا يطمح مجدي في فيلمه الى تحطيم وحدتي الزمان والمكان والتحليق بعيدا في آفاق السرد الحر، ولا السباحة في عالم التأملات الذهنية المجردة. فمجدي بطبيعته لا يميل إلى هذا النوع من السينما “الطليعية” أو التي تنحو نحوالتجريب، فقد جربها مرة في “البطل” ولم ينجح، لكنه مع ذلك، يتجاوز هنا الكثير من القوالب السائدة المألوفة، فسيناريو الفيلم لا يقوم على البطل كمحور للأحداث، ولا يروي قصة محكمة البناء تتصاعد فيها الأحداث الى ذروة درامية مصنوعة تنتهي نهاية صارخة كما في الأفلام المصرية التقليدية. لكنه يعتمد على شخصيات متعددة (حوالي ثماني شخصيات) يمنح كلا منها مساحة مناسبة، ينسج العلاقات فيما بينها في سلاسة ووضوح، ويستخدم الاختلافات بينها بذكاء، لكي يضيف شيئا جديدا يثري بناء الفيلم ويؤكد الأفكار التي يسوقها عن الواقع وعن البشر الذين يعيشون هذا الواقع ويتعايشون معا رغم التناقضات.

تعتمد دراما “يا دنيا يا غرامي” شكل الدائرة ذات المنعرجات الكثيرة، لكنها ليست دائرة مغلقة تردنا إلى حيث بدأنا، بل تؤدي إلى نهاية مفتوحة تتركنا وأمامنا مساحة للتأمل في مجريات الواقع الذي يعرضه لنا الفيلم، مع لمسة واضحة من الشفافية الشاعرية. ويمكن القول إن الفيلم ينتمي مذهبيا الى الواقعية الشعرية بما يغلف شخوصه من مسحة حزن نبيل وأسى عميق. ولا تأتي هذه النبرة الشاعرية نتاجا لأقدار عاتية لا نملك التحكم فيها، بل من إدراكنا إدراكا واعياً، لتعقيدات الواقع من خلال تشابك العلاقات وتقاطع مصائر الشخصيات في الفيلم.

هناك ثلاث فتيات من الشريحة الفقيرة من سكان حي شعبي من أحياء القاهرة، يعملن في مهن بسيطة، مصنع، محل للزهور، شركة تجارية، وقد تجاوزن جميعهن سن الزواج، لكن الأمل لا يفارقهن أبدا في الاستقرار وتحقيق السعادة. تبذل كل منهن ما تستطيع من أجل اقتطاع هذه السعادة طبقا لمفهومها البسيط الذي يتلخص في الزواج والبيت وإنجاب الأطفال، أي أن هذا المفهوم لا ينشد بالضرورة تغيير الواقع أو هدمه أو التمرد عليه، بل التعايش معه كما هو مع محاولة تحقيق الحد الأدنى من البقاء فيه كما فعلت جداتهن وأمهاتهن. لكن هذا المطلب المتواضع ينهزم باستمرار أمام المتغيرات الضارية الجارية في الواقع بحيث يصبح تحقيق هذا المطلب المشروع أملا قد يستغرق العمر كله.

بطلات الفيلم الثلاث في حيرة من أمرهن، فهن لا يفتقدن الى الذكاء ولا الى الفطنة وطيبة القلب، والأهم بالطبع، الجمال، فما العيب إذن في كل من “بطة” و “سكينة” و “نوال”؟ هذا هو السؤال الذي يرددونه طوال الوقت في محاولة للعثور على إجابة له ربما تبدو مستحيلة في سياق تعقيدات الواقع.

هناك أيضا الأرملة التي تقدم بها العمر وإن كانت لا تزال تتمتع بمسحة من جمال لا تخطؤه العين. هذه المرأة تنتمي الى عالم مختلف تماما، فهي تنحدر من أسرة محمد علي الأرستقراطية، تملك البيت والمال والحسب والنسب لكنها أيضا وحيدة في مهب الريح، تشتهي طبقا من الفول الذي يأكله الفقراء على عربات اليد في الأحياء الشعبية، لكنها لا تجرؤ على مشاركتهم هذه “الوليمة”.

هذه الشخصية نراها من خلال العلاقة التي تنشأ بين بطة والشاب الصعلوك الذي تحبه ويعمل كل يوم في مهنة مؤقتة وينتهي معظم الوقت الى البطالة ويلجأ بالتالي الى التحايل على العيش عن طريق الاحتيال على الذين يعرف جيدا أنهم يحصلون على المال عن طرق غير مشروعة، مؤكدا لهم ولنفسه أنه لا يسرقهم وإنما يقترض الى حين ميسرة. وهو يريد أن يتزوج “بطة” التي تنتظره منذ خمسة عشر عاما.

أما “سكينة” فكانت قد ارتبطت بعلاقة حب مع شقيق “بطة”، وأقامت معه علاقة جنسية كاملة أثناء فترة الخطوبة مع قناعتها الكاملة أنهما سيصبحان زوجين (في الحلال) لكن الفتى سرعان ما تنكر لها وانضم الى الجماعة الإسلامية وبدأ يحاصر شقيقته رافضا زواجها من الشاب الذي تريد الزواج منه مهددا ومتوعدا كليهما ببئس المصير. ومن ناحية أخرى يحاول هو اقناع “سكينة” بالتحجب شرطا لكي يتزوجها، لكنها ترفض!

سكينة تبذل جهدا كبيرا لمداراة ألمها النفسي، فتقبل العرض الذي يتقدم به زميل لها في الشركة التي تعمل بها. لكنها تصر على إبلاغه بالحقيقة، حقيقة فقدها العذرية، وتكون هنا تحديدا نهاية العلاقة الوليدة. ويصبح مطلوبا منها أن تكذب لكي تستطيع الحياة في مجتمع لا يرحم أمثالها. هل توافق وترتكب الكذبة الأكبر، أي إجراء عملية تعيد إليها العذرية شكليا؟

أما نوال فهي مطاردة أولا من قبل الشاب الجامعي العاطل المحبط الذي تصل به إحباطاته الى حد الهلوسة، لكنه عاجز عن الفعل وعن الخروج من دائرة إحباطاته المتراكمة، لا يفعل سوى أن يدير شريطا لأغنية “يا دنيا يا غرامي” لمحمد عبد الوهاب، ويطلقه على مسامعها كل صباح. وعند المواجهة يهرب وينزوي يقرض إحباطاته إلى أن يصل إلى الجنون.

وثانيا تجد نوال نفسها متورطة في علاقة غير متوازنة مع صاحب محل الزهور الثري الذي تعمل فيه، لكنه متزوج من ثرية عربية (غير مصرية) وواضح أنها زيجة مصلحة من أجل المال، فحياته كما يرويها لنوال سلسلة من المغامرات في الداخل والخارج، من اجل تحقيق الاستقرار الوهمي، وكما سبق أن باع نفسه لامرأة يونانية كي يحصل منها على بعض المال ويرحل الى النمسا ثم فرنسا، لقد باع نفسه لسيدة تملك المال لكنه يحلم الآن بالحب والزواج ممن يحب. فهل تقبل نوال أن تتزوجه زواجا عرفيا وتقبل بدور الزوجة الثانية في السر، طالما أنه سيدفع لها مهرا ضخما ويكتب لها مسكنا فاخرا وينتشها بالتالي من الدائرة المغلقة بالفقر والوحدة والتقدم في العمر التي تعيشه داخلها؟

يتركنا الفيلم وعشرات التساؤلات تظل قائمة حول ما يحدث في الواقع وكيف يمكن الخروج من دائرته المغلقة. تساؤلات حول قيمة العمل الشريف، وحول مفهوم الزواج، ومغزى العلاقة بين الرجل والمرأة، وبين الفرد والمجتمع في لحظة تحول حادة، عن مغزى الشرف ومعنى الحب، مع تعبير بديع عن القدرة على الاستمتاع بالحياة رغم كل شئ، ومتعة التواصل بين البشر بغض النظر عن فروق الطبقة والأصل والحسب والنسب.

ما يميز الفيلم أولا: قدرة مجدي على التعامل مع المكان، سواء في المشاهد التي تدور في شوارع القاهرة وحواري الحي الشعبي، أو في البيت الذي تقيم فيه معظم الشخصيات الرئيسية، وهو مسكن حقيقي في حي الدراسة الشعبي في القاهرة، مع انتقالاته السلسلة بالكاميرا من الداخل الى الخارج وبالعكس، ولقطاته الحارة المدهشة فوق سلالم المنزل- أو في أزقة الحي الضيقة كما في مشهد المطاردة بين الشرطة وهشام سليم. كما ينجح في خلق إيقاع متماسك في المشاهد الداخلية في مسكن السيدة الأرستقراطية وفي المشاهد الداخلية في مسكن “بطة” أمام والدها المقعد المشلول ووالدتها الطيبة المسنة.

 ثانيا: سيطرته الكبيرة على أداء الممثلين جميعا، ودفع العلاقات بينهم على نحو متجانس ونجاحه في إضفاء جو من المرح على الفيلم يعكس انسجام طاقم الممثلين أثناء العمل.

ثالثا: يبتعد مجدي عن النمطية ويتجنب الوقوع في إغواء الاستخدام المكثف للتعليقات اللفظية المضحكة، دون أن يفتقد بالطبع روح المرح والمواقف الضاحكة التي تنبع من ضرورات المشهد ومن طبيعة الشخصيات.

رابعا: الاستخدام المحكم للموسيقى التصويرية التي تنحصر في “ميلودي” واحد يتردد في تنويعات مختلفة عبر مقاطع الفيلم، يكثف لحظات التعاسة، وينطلق في لحظات النشاط، من دون إفراط أو إقحام على المشهد نفسه.

خامسا: التميز الكبير في الإخراج الذي يظهر في مشاهد عديدة منها مشهد حفل الزفاف، الذي يستخدم الراقصة والفرقة والمجاميع الحقيقية من أهل الحي، دون سقوط في النمطية أو المبالغة ودون أن يستطرد في التركيز على الراقصة. كما يجسد العلاقة الحميمية بين بطلاته تجسيدا رائعا في مشهد الحمام الذي يسبق عرس “بطة” ويجيد تنويع اللقطات في مشهد المواجهة بين سكينة وخطيبها السابق “المتطرف” فبينما تظهر هي على خلفية خضراء، يظهر هو من الناحية المقابلة على خلفية ترابية كئيبة.

ولم يكن يمكن للفيلم أن يأتي على ما جاء عليه من سلاسة وجمال سوى بفضل عين ثاقبة وواعية بتضاريس العلاقة بين الظل والضوء وبين الديكور والفراغ، بين الشخصية والمكان، وهي هنا عين مدير التصوير محسن نصر، الذي يقتحم في هذا الفيلم مناطق جديدة تعتبر تحديا بالنسبة الى أي مدير تصوير: سواء الديكورات الطبيعية الضيقة التي تمتليء بقطع الأثاث الكثيرة، أم في التصوير الخارجي المفتوح في الشوارع المزدحمة والمناطق الشعبية التي تمتلئ بالبشر. وقد ساهم الفنان التشكيلي عادل السيوي مساهمة واضحة في التعامل مع الديكور الواقعي معيدا تنسيقه، متحكما في ألوانه ودرجاته بفضل حسه التشكيلي الرفيع، دون أن يحيل الواقع إلى لوحات.

إذا ما انتقلنا إلى فيلم “خلطة فوزية” سنجده متميزا كثيرا بلغته رغم أنه مصنوع في إطار السينما السائدة، فمجدي يطور في إطار ما هو سائد، وهنا تحديدا يلعب، بقدر ما تسمح به شروط السوق، في المساحة الواقعة بين السينما الشعبية والسينما الفنية، وتفرض عليه طبيعة موضوعات أفلامه أحيانا الخضوع للنمطية في أداء الممثلين وبعض القوالب التي يقصد من وراءها عادة، الإضحاك أو التخفيف من ثقل الدراما. ولعل أهم ما يميز هذا الفيلم- ليس واقعيته في رسم ملامح الشخصية الرئيسية وما يقع لها في حياتها الصاخبة التي تتميز بالجمع بين أزواجها السابقين كل أسبوع، والاعتناء بهم، والاهتمام بأولادها منهم، بل بتعبيره عن الواقع من خلال لغته الخاصة، ورؤية للواقع قد لا تحاكي الواقع نفسه بالضرورة.


لدينا الشخصية الرئيسية،  فوزية، هذه المرأة من قاع المجتمع، التي تقطن حيا هامشيا فقيرا وإن كان يتمتع بجمال خاص كونه يقع في بقعة ساحرة تطل مباشرة على النيل، وهي تتزوج رجلا وراء الآخر، دائما في لحظة احتياج إنساني وهوما يرجع إلى شعورها الدائم بـ”انعدام الأمان” والرغبة في العثور على “الحماية”، لكنها تكتشف دائما أن الرجل الذي تتشبث بالبقاء في ظله، يخذلها، ويفصح عن شخصية ضعيفة، فهي تجد نفسها أقوى كثيرا منه.

فوزية تبرع في إعداد وجبة خاصة تثير الشهية وتحقق الشعور بالمتعة يطلقون عليها خلطة فوزية أو “خلطة السعادة”، وهي تنجح في ترويج منتجها وتطويره والعناية في الوقت نفسه، بالأطفال الكثيرين الذين أنجبتهم من أزواجها الأربعة الذين تتلاشى أحلامها معهم بالحصول على “الستر” واحدا وراء الآخر، سواء نتيجة خيانتهم لها، أو عدم عثورها على السعادة المنشودة.

ومع ذلك، يجتمع عند فوزية أزواجها الأربعة كل أسبوع لتناول تلك الأكلة المفضلة، والاطمئنان على أبنائهم، إلى أن تلتقي بشاب يصغرها سنا، هو السائق “حودة” الذي سرعان ما يصبح زوجها الخامس ويبدو أن زواجها منه سيستمر هذه المرة.

الخيط الرئيسي في جوهر الفيلم يكمن في حكاية هؤلاء الناس الذين يعيشون على الهامش، تتجاور مصائرهم وتتشابك، ورغم المعاناة ومشقة العيش، إلا أنهم يمتلكون القدرة على الإحساس بالسعادة، فهم يعرفون كيف يحزنون ويتضامنون معا في المصائب. ربما يخالفون القانون أحيانا، لكن هذا ناتج عن الشعور بالظلم الاجتماعي. ويجعل الفيلم من فكرة تضامن السكان من أجل بناء حمام عام يليق بإنسانيتهم ويحول دون تلصص الآخرين عليهم بما في ذلك ممارسة الاحتياج الجسدي الطبيعي بين الزوج والزوجة (كما نرى في مشهد غير مسبوق في السنيما المصرية بين فوزية وحودة) ليصبح هذا الحمام المنشود هنا رمزا للرغبة في التحرر، اعتمادا على المبادرة الفردية دون تدخل من الدولة، بل إن السلطات تريد هدم الحمام بعد أن يكتمل بناؤه، بدعوى أنه بنُي على أرض مملوكة للدولة.


يتميز السيناريو بأجوائه الخاصة الحميمية التي تشع منها عشرات الإسقاطات على ما يجري في الواقع ولكن من خلال رؤية ما “سحرية”، تلمس المألوف مما يجري يوميا في حياة المهمشين، جنبا إلى جنب مع لحظات تأمل في مسار الحياة التي تفضي إلى الموت. فالموت حاضر في الفيلم بقوة. “سيد” السباك، الزوج الرابع السابق لفوزية يرغب في الزواج من صديقتها “نوسة” (غادة عبد الرازق) وفوزية التي تقيم وزنا كبيرا للصداقة والعِشرة والجيرة بل والتضامن بين النساء، ترحب وتساعد وتذهب بنفسها لكي تشتري للعريس ملابس الزفاف، وتقدم النصائح لصديقتها أيضا في كيفية استمالة الزوج وكسب وده، لكن سيد يلقى نهايته بالموت في موقف عبثي تماما ليلة زفافه عندما يصاب برصاصة طائشة.
والموت الذي يجاور الحياة ويبدو لصيقا بها حاضر أيضا من خلال شخصية الراقصة العجوز (نجوى فؤاد) التي تتشبث بالحياة وتتطلع إلى علاقة عاطفية مع البقال، في الوقت الذي اشترت فيه قبرها، بل وأخذت ترقد فيه لكي ترى ما إذا كان حجمه سيناسب حجم جسدها، الى أن تموت بعد قليل، دون أن نشعر بالطابع المأساوي لموتها، بقدر بل نشعر بحتمية مسار الأشياء. ويتجسد الموت أيضا في تلك الميتة العبثية لإبن فوزية المعاق الذي يلقى نهايته عندما تصدمه سيارة وهو يعبر الطريق بعربة المعاقين.


ومن أجمل مشاهد الفيلم وأكثرها جرأة، المشهد الذي يدور بعد العودة من دفن الإبن، حيث تجلس فوزية في صمت بينما يتناول الجميع الطعام، يضحكون ويتبادلون الحكايات، ومع تصاعد شعورها بالحزن تقلب المائدة وتطرد الجميع وتنفجر فيهم غاضبة بعد أن ظلت تكتم مشاعرها منذ أن تلقت خبر وفاة ابنها. وفي طقس يعود إلى بداية العلاقة بين الإنسان والكون، تتجه نحو شجرة في الفضاء، ترفع رأسها إلى أعلى وتناجي الله، وتتساءل لماذا كُتب عليها أن تفقد ابنها على هذا النحو!


يميل مجدي إلى فرض رؤية تفاؤلية تشع بالمرح، كما يهتم بالكثير من الحكايات الفرعية الكثيرة: السباك الذي كان يراقب والده وهو طفل صغير كعامل للعرض السينمائي وولعه بالأفلام والخيال السينمائي وأفلام رشدي أباظة، السائق الرومانسي الذي يعرف كيف يقدم الورد لامرأة حتى لو كانت فوزية، لايزال يتذكر كيف كان يشم رائحة الفانيليا في فتاة صغيرة كان متيما بها قبل عشر سنوات، والراقصة التي تتطلع الى الحب والحياة رغم أنها تستعد لاستقبال الموت.
يجتهد مجدي كثيرا في اختيار أماكن التصوير فيصور مشهد تذكر “حودة” وهو صغير فتاة الفانيليا، على ظهر قارب مع فوزية، ويجعل المشهد ينتهي بفوزية ترقص في حركة دائرية، وعلى خلفية موسيقية بحيث تساهم الموسيقى والحركة والحوار الشاعري البسيط ونظرات الحزن في عيني الممثل فتحي عبد الوهاب في إضفاء طابع غنائي خاص على المشهد.

ويستخدم حركة الكاميرا الحرة في المشهد الذي يدور بين فوزية والراقصة العجوز، ويصل بالمشهد إلى لحظة شاعرية خاصة تمزج بين الحسي والروحي، وبين الماضي والحاضر، بين الجسد الذي كان (في ذاكرتنا لنجوى فؤاد) والقادم الذي لا محالة منه أي الضمور الجسدي ثم الموت.
وتتصاعد الشاعرية المشبعة بحزن كامن في المشهد الذي تروي فيه نجوى فؤاد، على خلفية لأغنية قديمة، موت طفلها الوحيد وهو بعد رضيع، وكيف ظل الحليب ينساب من ثديها.. وفي لحظة تسليم جميل بالقدر تستطرد قائلة “الحمد لله اللي ساب لي الفردة اللي ناحية القلب” مما يفهم منه أنها مرت بتجربة إزالة صدرها الأيمن بعد إصابتها بالسرطان.
ويصور مجدي الكثير من مظاهر الاحتفال الجماعي بالحياة: الأفراح وموائد الرحمن التي تقام في شهر رمضان، وصور الإفطار الجماعي على الرصيف، واللقاءات الأسبوعية حول مائدة فوزية، كما يمزج بين الفرح والحزن، والسعادة والشقاء، والمأساة والجرأة أو حب الاستطلاع، مما يجعل أهل الحي لا يتوانون عن اختلاس النظر إلى حودة وفوزية وهما يمارسان الجنس داخل الحمام. ومجدي يجيد بشكل خاص تصوير هذا النوع من المشاهد الشعبية.

ولا شك أن الفيلم بطابعه الخاص، فيلم لا تغيبت عنه اللمسة الأنثوية بسبب سيناريو هناء عطية، بمعنى اهتمامه الكبير بمشاعر المرأة وتناقضات العلاقة بين النساء في الأحياء الشعبية وهي سمة ميزت أيضا فيلم مجدي الأول “يا دنيا يا غرامي”. ورغم تعامل الفيلم مع شخصياته بحب ونعومة شديدة إلا أنه لا يتجاوز عن رصد الملامح السلبية فيهم: السرقة والاحتيال والكذب والطمع وإهمال الأبناء والتورط في الخيانات أو الشروع فيها. إنها تناقضات الشخصيات التي تعيش على الهامش.
ويهتم مجدي كثيرا بشريط الصوت الذي يجعله يعلق من خلال الأغاني الرومانسية التي تنتمي إلى الماضي، على الكثير من الأحداث، أو إبراز السمات المختلفة للشخصيات (لحن أغنية أهواك مثلا) أو تجسيد التناقض الكامن في الواقع، ويستخدم الأُغاني الشائعة التي تعكس الذوق السائد (أغاني الأفراح المتدنية)، كما يصل أيضا إلى التعليق المباشر من خلال الصورة في اللقطة التي نرى فيها صورة الرئيس مبارك أعلى خرائب الحي العشوائي فيما اللافتة المكتوبة تقول: “معا نصنع المستقبل”!


يبدو أسلوب إخراج المشهد الافتتاحي في الفيلم الذي نعود فيه من خلال الـ “فوتومونتاج” إلى زواج فوزية وطلاقها عدة مرات، مشهدا كاريكاتوريا، ولاشك أنه صُنع هكذا بقصد الاضحاك، والتمهيد لدخولنا إلى “الحكاية”. ويقترب الحوار في الكثير من المشاهد من مناطق محظورة على صعيد الإيحاءات الجنسية خاصة في الحوارات التي تدور بين النساء (بين فوزية ونوسة مثلا) وهي تتمتع بالمصداقية والحرارة والجرأة معا.
ربما يعاني الفيلم من غياب مساحات كافية للتنفس، للصمت، للتأمل، فتراكمت المشاهد واللقطات وغلب الحوار الطويل على البعض منها، وهو ما دفع مجدي لتنويع زاويا الصورة (كأن يلجأ للتصوير من زاوية عالية دون ضرورة درامية للتغلب على طول الحوارات).

وربما يكون من عيوب الفيلم أيضا وجود أكثر من نهاية لأحداثه: يكمل أهل المنطقة بناء الحمام بعد أن تضامنوا في شراء قطعة الأرض أو حصلوا عليها بالتبرع من صاحبها.. وأكملوا وضع بلاطه ومحتوياته، وأصبح لديهم أخيرا حمام يصون خصوصيتهم.. تتحرك الكاميرا خارج الحمام من اليمين إلى اليسار، في الفضاء الخارجي ملقية نظرة وداع على المنظر العام للنيل الجميل الحاضر بقوة في الخلفية، ونتخيل أن الفيلم بهذا قد بلغ نهايته الطبيعية من دون حاجة إلى شرح أو تعليق، ولكن مجدي يختار العودة إلى شخصيات الفيلم: الأزواج السابقين وفوزية معهم وتبدأ كل شخصية في الحديث كما لو كانوا يلقون “مونولوجات” فردية على خشبة مسرح، ثم يعيد إلينا لقطة ظهور عزت أبو عوف وهو يلوح بالوردة الحمراء ويضحك في سعادة.. ويختتم الفيلم على لقطة للجميع أمام مرآة الحمام وهم يضحكون بينما تظهر صورتهم مشوهة على سطح المرآة، وهو تأثير كان الفيلم في غنى عنه.

جاءت الأفكار الكبيرة في السينما المصرية من الأدب، أي من عالم الرواية. وهناك تأثير كبير لأعمال طه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وإحسان عبد القدوس وفتحي غانم ويحيى حقي ولطيفة الزيات ويوسف السباعي، وكثيرين غيرهم، على الفيلم المصري، سواء في مضمونه الاجتماعي ودلالاته النقدية، أو في أشكاله السردية، حتى يخال المرء أحيانا أن نجيب محفوظ كان يكتب وعينه على السينما، أي أنه كان يتأثر كثيرا في كتابة رواياته، في مرحلة ما من مسيرته الأدبية في الستينيات على وجه التحديد، بالسيناريو السينمائي، خاصة وأنه مارس كتابة السيناريو منذ منتصف الخمسينيات حينما ارتبط مع المخرج الكبير الراحل صلاح أبو سيف من بداياته الأولى في أواخر الأربعينيات، حتى المرحلة الأهم في حياة أبو سيف التي تميزت بأفلامه الواقعية في الخمسينيات والستينيات.
ومع فيلم “عصافير لنيل” (2010) يعود مجدي أحمد علي للمرة الأولى إلى الأدب، وإلى رواية ابراهيم أصلان الذي سبق أن قدم للسينما رواية “مالك الحزين” التي استمد منها داود عبد السيد فيلمه “الكيت كات”. وكان مجدي يأمل من وراء ذلك، أن يقدم رؤيته السينمائية للرواية التي تتلاقى مع رؤية المؤلف في الفلسفة العامة للعمل ودلالاته الفكرية.

للوهلة الأولى نلمح علاقة ما بين فيلم “عصافير النيل”، والفيلم السابق لمجدي أي “خلطة فوزية”، هذه العلاقة يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

أولا: يدور الفيلمان حول شخصية فردية، ريفية أو شبه ريفية، تعيش على هامش المجتمع، في الأحياء العشوائية القريبة من نهر النيل بكل ما يجسده النيل من استمرارية في حياة المصريين، كما لو كان في امتداده الذي يبدو موغلا في أعماق التاريخ، شاهدا على ما يقع فوق ضفتيه من أحداث. الشخصية الأساسية في الفيلم الأول هي “فوزية”، وفي الفيلم الثاني “عبد الرحيم”، وكلاهما يعاني من الإحساس بانعدام الأمان، والشعور بالرهبة من المدينة، والرغبة في إقامة علاقة جسدية مع الآخر، لعلها يمكن أن توفر نوعا من “الأمان” والدفء المفقود. هذا الشعور، بكل ما يعتريه من اندفاع، بل وتهور أحيانا، يمكن أن يقود الشخصية إلى الصدام مع الواقع.

ثانيا: الحضور القوي للموت في مجاورته للحياة. ولكن على الرغم من قسوة الموت، ورغم الإحساس الشجي بالحزن الذي يغلف الشخصيات في الفيلمين، إلا أن الرغبة في الاحتفال بالحياة هي رغبة دائمة ممتدة، قادرة على التجدد عند بطلي الفيلمين، كما تحمل للمشاهدين الأمل، على الرغم من الموت الكامن بكل ما يخلفه من أثر كئيب في النفس البشرية. فمجدي يميل دائما إلى التفاؤل ونقل الأمل في مستقبل أفضل بل وحياة أفضل للمشاهدين. وهو يعبر بحساسية خاصة، عن التناقض بين الحياة بكل عنفوانها، والموت كنهاية للجسد، وهو تناقض يبدو “بسيطا” على المستوى الظاهري، إلا أنه شديد التعقيد على المستوى الأعمق.

ثالثا: الحبيب الأكثر تأثيرا يظل في الفيلمين هو الأقرب إلى الشخصية الرئيسية، لكنه يبتعد عنها بالفقدان: في “خلطة فوزية” يتمثل هذا الحبيب الغائب أو المفقود في شخصية السباك (عزت أبو عوف) أحد أزواج فوزية السابقين، لكنه كان قد توفي فجأة، ويظل شبحه يتراءى لها طوال الوقت، فقد كان الأقرب إلى عقلها وربما إلى قلبها أيضا، رغم خياناته الصغيرة لها. وفي “عصافير النيل” تظل شخصية “بسيمة” هي الشخصية الآسرة، التي لا تفارق خيال البطل، فهي المرأة الأولى التي التقاها في القاهرة وتعرف عليها وأنس لها، ثم هجرته بسبب تردده في حسم موقفه تجاهها: هل يشترك مع أهل الحارة في اعتبارها امرأة “منحرفة” بالمعايير الأخلاقية السائدة، أم يستمع إلى نداء قلبه الذي يقول له إنها المرأة النظيفة الجميلة التي يمكنها أن تعيش له فقط؟

رابعا: التقلب بين الرجال بحثا عن الشريك الكامل المكتمل الذي يمكنه أن يستوعب طاقة وحيوية وعنفوان البطلة في “خلطة فوزية”، مقابل بحث البطل الدائم عن المتعة الأبدية مع المرأة، وهو ما يجعله ينتقل من واحدة إلى أخرى في “عصافير النيل”، مما يعكس أيضا فكرة النهم إلى الاستمتاع بالحياة، والتي تتجسد عن طريق الجنس، الجنس بغرض الارتواء، والإشباع النفسي، والتعويض عن الإحساس الدائم بالخسارة عند البطل في “عصافير النيل”، ولعل هذا يتجسد كأفضل ما يكون، في المشهد الذي يصور ما بعد مضاجعته عاهرة داخل مصعد، عندما يضبطه الجيران متلبسا في أحضان تلك المرأة، سكرانا، يغط في النوم، بل ويرفض أيضا أن ينهض ليمضي في حالة سبيله، وهو الفعل- الفضائحي الذي يكلفه وظيفته.

رغم هذه التشابهات إلا أن هناك أيضا فروقا جوهرية بين الفيلمين بحكم الفرق بين المرأة والرجل في مجتمعاتنا المحافظة بطبيعتها في النظر إلى المرأة التي لا يمكنها التعبير ببساطة عن مشاعرها أو الظهور بالمظهر الذي تحبه. في “عصافير النيل” مثلا نرى كيف يعترض أحد المتشددين الأصوليين طريق “بسيمة” وينهيها عن تناول الطعام علانية في الطريق العام، بدعوى أن هذا “حرام”.

وفي الفيلم الكثير من المشاهد البديعة التي تتميز بالحس الرفيع، والشفافية الموحية، مثل مشهد اللقاء في بداية الفيلم بين بسيمة وعبد الرحيم، ثم مشهد اصطياد العصفور بسنارة صيد السمك وما يوحي به، ثم مشهد عبد الرحيم بعد إعفائه من العمل كساعي بريد عقب فضيحة “المصعد” وهو يعود إلى قريته التي كان قد جاء منها إلى القاهرة، وهناك يجلس في ظل شجرة، يناجي نفسه بينما الأفق يبدو متسعا أمامه، وهو من المشاهد التي تتيح للمتفرج مساحة للتأمل والتفكير والمتعة.

وينجح مجدي في كثير من المشاهد، في التعبير عن التناقض بين الريف والمدينة، عن فكرة تجاور الموت والحياة، وفكرة البحث الدائم عن الحب ولو من خلال الجنس، والجنس كرغبة تعكس القلق وانعدام الشعور بالأمان الاجتماعي، كما أن هذه الرغبة هي تجسيد على صعيد آخر، للفكرة الشائعة عند الريفيين عن “نساء المدينة” الشهيات اللاتي يقدمن أنفسهن بسهولة. ومن أكثر العلاقات في الفيلم تجسيدا للتناقض بين الشاب الريفي ونساء المدينة، على نحو يذكرنا بفيلم “شباب امرأة”، العلاقة بين “أشجان” الأرملة الأربعينية، والشاب الريفي عبد الرحيم، المندفع الذي لا يهدأ له بال في بحثه القلق عن السكينة من خلال الجنس.

“أشجان” تعرف كيف تغويه بعد أن تدرك أنه النموذج المستعد للوقوع في يدها بسهولة، لكنها تستدرجه وتوقع به لمصلحتها هي وطبقا لشروطها. إنها نموذج لامرأة المدينة، التي تعرف كيف تتحكم في الشاب الريفي المتدفق العاطفة، وتدفعه للسير إلى الوجهة التي تريدها، فتجعله يتزوجها رغم أن لديها ثلاثة أبناء، ثم هي التي تقرر فيما بعد، أن تنهي زواجها منه بالطلاق عندما تجد أن زواجهما يتعارض مع مصالحها المادية المباشرة، فقد تفقد بسببه منحة التقاعد التي ورثتها عن زوجها الراحل. وكأنما هي صاحبة الكلمة والقرار. وهو ما يدفعه للعودة إليها بعد وقوع الطلاق، لكي يغتصبها، يريد أن يقول إنه كريفي خشن، لا يقبل أ، تلتقطه امرأة على هذا النحو، ثم تلقي به وقتما تشاء، وكأنه يريد أن يحقق معها لحظة النشوة التي انقطعت، بالمفهوم الحسي المباشر، كما أنها، بسبب قوة شخصيتها، تظل في خياله المرأة الأكثر إثارة من الناحية الجسدية، وهو ما يؤكده لنا الراوي من خلال التعليق الصوتي الذي يأتينا من خارج الصورة.

هذه المشاهد بين أشجان وعبد الرحيم، من أكثر مشاهد الفيلم إحكاما وتعبيرا وسيطرة من ناحية الإخراج: تقطيع المشهد لاستخلاص أكبر شحنة تأثير درامية ممكنة، التحكم في الإيقاع: إيقاع الممثلين، وحركة الكاميرا، والسيطرة على الأداء، واختيار زوايا التصوير، والتعامل الحذر مع الموسيقى، وتوظيف تقنية “الفوتومونتاج”.

تلقي الرؤية الأدبية بظلالها على فيلم عصافير النيل”، تمنحه الكثير من قيمته، وفلسفته ورؤيته وتوحي أيضا على نحو ما، بصوره الأخاذة التي يلتقطها مدير التصوير رمسيس مرزوق، الذي يعرف كيف ينتقل من النهار إلى الليل، ومن الليل إلى النهار، وكيف يستخدم ببراعة المصادر الطبيعية للضوء. ورغم ذلك، يعاني الفيلم من الترهل في الإيقاع، عند الكثير من المحاور، مما يكاد ينسف الفيلم لولا أن مجدي يتمكن بحرفيته العالية، من شد المتفرج مجددا إلى الشاشة.
والمشكلة أن سيناريو الفيلم استسلم كثيرا لسطوة الأدب، والرغبة في التعبير عن الكثير من الأفكار الأدبية الكامنة في الرواية، مما أدى إلى بعض الاضطراب في مسار السرد. ويمكن القول هنا: إن ليس كل ما يتردد في العمل الأدبي من “أفكار”، يصلح بالضرورة لضمه إلى سياق الفيلم ما لم تتم معالجته بطريقة لا تفقده قيمته البصرية وعلاقته “الخارجية” مع الصور واللقطات والمشاهد الأخرى في الفيلم، كما لا تفقده علاقته “الداخلية” بالفكرة الأساسية التي تدور حولها الدراما. فوحدة الحدث (أو الفكرة) في هذا النوع من الأفلام شرط أساسي لنجاحه، مع مشروعية تطعيمه بالطبع، بكل ما يثري الحدث ويغذي الفكرة الرئيسية من أفكار أخرى، لا تجرنا بعيدا عن السياق الرئيسي.

إلا أن الفيلم كثيرا ما ينحرف خارج الفكرة الرئيسية، إلى أفكار فرعية لا تضيف جديدا، بل تساهم في تشويش الاستقبال عند المتفرج: من هذه الأفكار مثلا: فكرة التطرف الديني وتأثيره على الشارع، والتي يعالجها الفيلم بطريقة ساذجة كثيرا حتى لو كان هذا ما ورد في رواية ابراهيم اصلان، فالجماعات الدينية المتطرفة لم تكن تعترض الفتيات بسبب تناولهن مأكولات في الطريق العام، ولا تضرب الرجال ضربا مبرحا لأنهم لا يتوجهون لصلاة الفجر في المسجد، بل كانت تركز اهتمامها على أمور أكثر خطورة!

في الوقت نفسه، هناك ابتسار كبير في تقديم الشقيقين، أي ابني البهي ونرجس وهما: سلامة وابراهيم، والمفترض أن أحدهما، وهو ابراهيم، يتجه يسارا (لا أعرف إلى أين تحديدا.. فالفيلم لا يقول لنا شيئا عن نشاطه ولا حتى عن مواقفه الفكرية مما يحدث، بل هو صامت معظم الوقت، وعندما يتكلم فهو يلقي بتعليقات عامة وسطحية)، في حين يختفي الابن الثاني من الفيلم تماما لكي يعود قرب النهاية، ونفهم أنه مرتبط باليمين الديني، وأنه يمكن حتى أن يشي بشقيقه للشرطة، مما يصيب أمه بصدمة توقعها مريضة إلى أن تغادر الحياة. هذا الموضوع كان من الأفضل تجنب النفاذ إليه لأنه حتى من الناحية الزمانية، يبدو غريبا على أحداث يفترض أن تقع في الستينيات من القرن الماضي، في حين لم تصبح ظاهرة التطرف بارزة على هذا النحو قبل التسعينيات.

وتحديد الزمن هنا أمر شديد الأهمية، حتى مع المشروعية التامة بالطبع، للانتقال بين الأزمنة، واعتماد أسلوب التداخل في السرد، الذي يقوم على الانتقال من الماضي إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى الماضي القريب. والمقصود، تحديد الزمن “الحاضر” الأساسي في الفيلم، الذي تدور الأحداث من حوله، ذهابا نكوصا.

وفي الفيلم استطرادات لا يندمج مغزاها في السياق بل ربما تكون كفكرة أدبية في الرواية جذابة، مثل السيارة من موديل فيات 128 (عرفت في الستينيات) التي يمتلكها “سيد عثمان”، نموذج الرجل الذي يعرف كيف يراكم المال حتى من الحرام (هناك مشهد في له في بداية الفيلم وهو يلتقط قطعة نقدية سقطت من أحدهم أثناء الصلاة في المسجد!)، ثم يدور على نساء الحي يشكو من هذا الحفيد، أو تلك الابنة الصغيرة، التي نرها تقوم بتفريغ عجلات السيارة باستمرار دون أي هدف، وهو ما يستهلك زمنا طويلا من الفيلم، دون أن يضيف جديدا.

لا أظن أن قراءة رواية ابراهيم أصلان “عصافير النيل”، شرط أساسي قبل مشاهدة الفيلم، إلا في حالة واحدة فقط، إذا كان الناقد سيقوم بإعداد “دراسة مقارنة” بين الفيلم والرواية، لكننا نكتفي هنا باتخاذ موقف المتفرج الذي لم يقرأ ولا يشترط أن يقرأ، ولكن رغم ذلك، من الواضح أن “الإخلاص” لكل ما ورد في الرواية يمكن أن يكون قد أدى إلى بعض التشتت في البناء، وبالتالي الهبوط في الإيقاع العام للفيلم. فالمشكلة أن مجدي الذي كتب السيناريو بنفسه، مولع بتجسيد الكثير من الأفكار والمواقف التي تتفق مع أفكاره في الرواية، لكنه يرغب أيضا في التحرر في أسلوب السرد والتخلص من الحبكة التقليدية. وهنا قد يقع بعض الاضطراب.

هناك الكثير من العناصر الفنية الجيدة في الفيلم الذي يستند إلى نسيج أفقي من الشخصيات والأحداث، تلتقي وتفترق معا، وكذلك في تجسيد فكرة مرور الزمن التي تبدو على ملامح الشخصيات وتنعكس كأفضل ما يكون، على نرجس مع تقدمها في السن، وزوجها البهي، الذي يصل إلى مرحلة الهلوسة التامة قبيل موته، كما أن الأطفال يكبرون، وعبد الرحيم يصاب بالمرض (غالبا سرطان الرئة) وتبدو عليه آثار الزمن والمرض، وكذلك بسيمة، وإن لم تفقد سحرها. إلا أن هذا البناء يظل رغم ذلك، يعاني من الطموح الزائد، فقد انتهج مجدي خطة لفيلمه أفقدته الكثير من حرارته، وكان يمكنه ببساطة، أن يعدل بناء السيناريو ويقومه، ويتحكم أكثر في طول المشاهد، بل ويستبعد البعض منها على طاولة المونتاج دون أن يؤثر هذا على أفكاره وعلى تماسك شخصياته الرئيسية.

كمثال على ذلك، لدينا المشهد الطويل الذي نرى فيه مرشح البرلمان “الدرديري” (الذي يقوم بدوره عزت أبو عوف) الذي يخدع الناس في دائرته، ويبدو كما لو كان شاذا أو محتالا، لا نفهم كيف دخل إلى الفيلم وكيف خرج منه، وماذا يلخص، وما مغزى دوره، هل هو انتقاد السلطة، أي سلطة، هل هي السلطة في زمن السادات، أي أيام الانفتاح الاقتصادي كما يبدو من خلال تلك الأغنية التي نستمع إليها في الخلفية.

وهناك المشهد الذي يخصصه مجدي أحمد علي للبهي أفندي، موظف البريد المتواضع المستوى، حياتيا وتعليميا، وهو يندفع فجأة، ويهتف وسط أهل منزله، بمونولوج هاملت الشهير في مسرحية شكسبير، وباللغة الانجليزية (أكون أو لا أكون)، في حين يتابع الجمهور المشهد الطويل (حوالي 5 دقائق) عن طريق الترجمة المطبوعة. وهذا المشهد تحديدا أعتبره خارج السياق وكان من الأفضل استبعاده من الفيلم، خاصة أن ما نشاهده على خلفية هذا المونولوج الشكسبيري، لا علاقة لها بما يقوله “البهي”، بل هي لقطات لعبد الرحيم في غزواته النسائية التي لا تتوقف!

يستخدم مجدي في فيلمه ثلاثة أصوات للراوي: صوت الراوي المحايد الذي يبدو مطلعا على كل ما يحدث للشخصيات، وهو هنا صوت المؤلف، وهذه وسيلة أدبية قديمة معروفة، أضفت طابعا أدبيا تقليديا على الفيلم، كما يستخدم صوت عبد الرحيم نفسه، الذي يروي ويعلق على بعض المواقف والأحداث من وجهة نظره، ثم بدرجة أقل، صوت بسيمة، التي تروي وتعلق على بعض ما يخصها من خارج الصورة.

هذه الوجهات المختلفة، لم تكن ضرورية، فبوسع الجمهور أن يدرك من أين تأتي التداعيات. ربما قصد من استخدام الراوي التقليدي المحايد، أن تبدو بعض أحداث الفيلم كما لو كانت تنتمي إلى الماضي البعيد، في حين أن بالفيلم ما يناقض هذه الفكرة “عن الماضي البعيد” ويجعلنا نرتد كثيرا إلى “الماضي البسيط أي القريب” جدا!

ويستخدم مجدي ببراعة القطع على شريط الصوت قبل الانتقال الذي يحدث في الصورة، أي قبل أن ننتقل من مشهد إلى آخر، وهي وسيلة معروفة تزيد من تكثيف الموضوع، وتجعل المشاهد ينتبه، وينتقل من الاستغراق إلى المتابعة الذهنية، كما أنها تمهد نفسيا للانتقال إلى مشهد آخر.

وفي الفيلم بعض اللقطات الزائدة الخارجة عن سياقه أو التي سببت بعض التشوش في السرد، وكان يجدر بالمونتير أحمد داود أن يتخلص منها، مثل لقطة سريعة عابرة للأم العجوز قرب النهاية، وهي في الخارج، تدفع بعربة، ثم مشهد طويل لبسيمة وعبد الرحيم مع باقي المرضى داخل المستشفى في الزمن “المضارع” يرقصان ويصران على المضي في الاحتفال بالحياة حتى النهاية. بعد ذلك هناك مشهد مركب على خلفية من الصور المتعددة بينما نشاهد عبد الله (الذي يفترض أنه يجري بلا توقف) ولكننا نراه يجري واقفا داخل الاستديو على تلك الخلفية من الصور المتعددة مما يحدث في الشارع، وكأنه مطارد من قبل الشرطة، ثم نعود إلى الأم العجوز بعد ذلك في إضاءة ليلية خافتة تصطبغ باللون الأخضر، وهي تحاول أن توقف عربة من عربات الخضار لكي تعود إلى بلدتها.

لكن المشكلة أن هذه المشاهد الثلاثة، لا تنجح في خلق نهاية جيدة ومحكمة للفيلم: أحد هذه المشاهد يدور داخل المستشفى للمرضى وبينهم عبد الرحيم وبسيمة يرقصون، وهو مصور بالحركة البطيئة، وينزل فوقه التعليق الصوتي الطويل للراوي (المحايد) الذي يروي لنا كيف كان عبد الله يفشل في اصطياد العصافير وهو صغير، وكيف أنه رأى ذات يوم عصفورا جريحا فخبأه ثم عاد إلى المنزل وقال لأمه “نرجس: إنه سيخرج لاصطياد عصفور، ثم كيف انه عندما أمسك بالعصفور محاولا أن يضع قدمه في الفخ، أفلت العصفور وسقط من أعلى السطوح على أرضية الشارع، واخذ الأولاد يطاردونه، ثم جاء عبد الله يحاول أن يمكسه فنشب العصفور الجريح أظافره في يد عبد الله ثم أخذ يقفز بقدمه السليمة نحو الحرية.

هذه النهاية الأدبية الطويلة يفسدها المونتاج بعدم اكتراثه، لأن المونتير لم يتدخل، سواء لتقليص حجم الحكي الصوتي، أو لزيادة جرعة صور ولقطات عبد الله نفسه وهو يهرب من الشرطة، بدلا من جعل هذه الحكاية تظهر على مشاهد شديدة التناقض مع بعضها البعض كما أشرنا، وهي أساسا، مسؤولية المخرج بالطبع.

الرغبة في مغازلة الجمهور، دفعت مجدي إلى الإبقاء على مشهد قرب نهاية الفيلم، حيث نرى الزوجة الثالثة لعبد الرحيم وهي تستغل استغراقه في غيبوبة المرض على فراشه في المستشفى، لكي تنتشل لباسه الداخلي، بعد أن رفض أن يقرضها إياه حتى ترتديه لتتمكن من زيارة الطبيب للفحص. هذا المشهد وضع بالطبع في قالب هزلي، وبدا أيضا كما لو كان نكتة مترجمة إلى أداء مسرحي، وجاء مناقضا للطابع الشاعري في المشاهد السابقة، خاصة بعد أن تجسدت بنجاح فكرة إشاعة المرح رغم الموت القادم.

لكن هذا ما تؤدي إليه، تلك العادة في التأرجح ما بين السينما السائدة، والسينما الفنية، بين سينما تريد أن تعبر بشفافية وشاعرية عن المشاعر الإنسانية، وسينما أخرى، تريد أن تغازل متفرجي السينما السائدة بتقاليدها المعروفة، وهي سينما تطمح من ناحية، إلى تطوير الشكل، وسينما أخرى كسولة، تريد أن تلعب على ما هو “مضمون”. وإن كانت النتائج نفسها ليست دائما “مضمونة”.

في فيلمه الروائي الطويل السادس، يتناول مجدي أحمد علي موضوعا يمكن القول بيقين أنه “موضوع الساعة” في مصر والعالم العربي بل والعالم كله، وهو موضوع التطرف الديني وكيف يقود إلى الإرهاب، ودور الخطاب السائد في تغذيته، وموقف السلطة في التلاعب بأطرافه بغرض تكريس السيطرة.

في فيلم “مولانا”- المقتبس من رواية الكاتب الصحفي ابراهيم عيسى- هناك شخصية رئيسية يستخدمها سيناريو الفيلم دراميا، لتحقيق هدفه وتوصيل رسالته، وهي شخصية الداعية الإسلامي الشاب “حاتم الشناوي” (عمرو سعد) الذي يحمل الكثير من الأفكار الدينية “التقدمية” التي تعارض الخطاب الديني السائد، بل وتكاد أن تصطدم معه.

إن “حاتم الشناوي” هو لسان حال الكاتب إبراهيم عيسى نفسه، الذي درأ على توجيه انتقادات مشابهة للفكر الديني التقليدي في أكثر من برنامج تلفزيوني، كما أن شخصية حاتم هي أيضا لسان حال المخرج وكاتب السيناريو مجدي أحمد علي الذي يميل إلى “أفلام القضايا الاجتماعية”.

لدينا إذن شخصية رئيسية محاطة بشخصيات فرعية كثيرة، تساهم في تسليط الأضواء على بعض القضايا المرتبطة بفكرة الفيلم. حاتم الشناوي في المشاهد التي نشاهدها قبل نزول عناوين الفيلم الأولى، رجل فقير ينتقل بـ “الميكروباص” يبدو ناقما على الحشود الأمنية التي تجمعت أمام المسجد الذي يتوجه إليه لكي يؤم صلاة الجمعة لكنه يعرف من الأمن أن رئيس الوزراء والوزير والمحافظ، جاءوا للصلاة، وأن وكيل وزارة الأوقاف الشيخ فتحي (أحمد راتب) هو الذي سيؤم المصلين، ولكن تشاء الظروف أن يصاب الرجل بنوبة قيئ فيحل محله حاتم الذي يصول ويجول أمام المصلين متحدثا عن أبي ذر الغفاري، مختتما الخطبة بتذكير “أصحاب المناصب والرئاسات” بمسؤولياتهم.

من قبل أن تنتهي العناوين الأولى يكون حاتم (من خلال مشهد فوتومونتاج) قد تزوج من أميمة (درة) وأنجب منها ولدا ثم مرت سبع سنوات وكبر الطفل، لكنه يتعرض لحادث غرق يؤدي إلى إصابته بمشكلة في المخ مما يحتم نقله للعلاج خارج البلاد، فيختفي منذ تلك اللحظة من الفيلم، لكنه يظهر فقط في بعض مشاهد الأحلام والهواجس التي تنتاب والده حاتم الذي يطلق لحيته ويهجر منزله ويهيم على وجهه لفترة قبل أن يعود لكي يظهر على شاشة التليفزيون في برنامج أسبوعي يجيب من خلاله عن أسئلة الجمهور.

يلمع نجم حاتم ويلقى خطابه “المعتدل” قبولا لدى جمهور الشباب بل ومخرج البرنامج. أما مقدم البرنامج فهو يتلقى تعليماته من أمن الدولة، ويحاول إحراج حاتم على الهواء، ثم يتلقى حاتم دعوة لمقابلة نجل رئيس الدولة “جلال” في ملعب كرة خاص في الليل، حيث يشترك مع اصحابه من أبناء كبار الأثرياء في لعب الكرة، قبل أن يطلع على المشكلة التي يريد جلال وزوجته مساعدته في حلها وهي تتعلق بشقيق الزوجة “حسن” (أحمد مجدي) الذي أعلن اعتناقه المسيحية، وهو ما يراه “جلال”، كارثة ذات عواقب سياسية خطيرة.

كل هذه الخيوط والتفاصيل جيدة ومثيرة للاهتمام دون شك، وكان يمكن أن تكفل صنع فيلم محكم يناقش بجرأة بعض الأفكار المسكوت عنها المتعلقة بموضوع التطرف والإرهاب وغياب الحرية الدينية والسياسية. إلا أن الفيلم بدا وكأنه يريد أن يناقش كل شيء دفعة واحدة: تحكم السلطة في أجهزة الإعلام، استخدام “الشيوخ” التقليديين للترويج لأفكار ترضى عنها السلطة، النظرة السائدة التكفيرية إلى “الشيعة” من جانب السلفيين وأنصارهم، تواطؤ الأمن مع السلفيين واستخدامهم لهم، التنصير والأسلمة.. وغير ذلك.

كان المتوقع أن يتركز الخط الرئيسي في الفيلم على محاولة تطويع الشيخ حاتم لخدمة أغراض السلطة فلما لا يستجيب ويتمرد بوضوح، يتم تدميره، وكان هذا سيبعث برسالة أقوى وهي أن محاولات التمرد الفردي محكوم عليها بالفشل أمام سطوة “المؤسسة” الراسخة التي تستند على الموروث الديني التقليدي منذ مئات السنين.

إلا أن الفيلم يتجه في اتجاهات متعددة دون أن يمتلك البناء الذي يسمح بالعبور على كل هذه الجوانب مع الاستغناء عن التصعيد الدرامي وصولا إلى ذروة درامية تقليدية، فمجدي يتمسك بهذا المفهوم الدرامي التقليدي رغم غياب الحبكة القوية التي يمكن أن تسند البناء، وبالتالي يقع الفيلم في الكثير من المشاكل الفنية ويفقد تماسكه ووحدة موضوعه.

أضف إلى ذلك أن “البطل” الذي يفترض أن يلقى الهزيمة أمام جبروت “المؤسسة”، ينتصر في النهاية، فهو يضرب المخرج عميل الأمن، علقة ساخنة، ويرفض الخضوع للأمن، يغمز ويلمز طول الوقت ضد رجال الدين التقليديين، وضد السلطة، ويسخر منهم، ثم يقف في النهاية فوق المنبر لكي يخطب (بلسان ابراهيم عيسى!) ليدين الجميع، ثم يغادر دون أن يصاب بأذى!

يريد الفيلم أن يقول كل شيء عن كل هذه القضايا المعقدة التي يستحق كل منها فيلما قائما بذاته، خاصة قضية التحول الديني وموقف المسجد والكنيسة منها، وهي قضية تعالج في الفيلم بقدر كبير من التبسيط والسطحية، بل تفسد الفيلم بأكمله. فالشاب المتحول “حسن” الذي يصر على التمسك بانتمائه المسيحي على نحو مراهق، مصرا على أن اسمه أصبح “بطرس”، هو شخصية قُصد منها أساسا، أن نستمع لرد فعل حاتم وموقفه منها الذي يعكس بالطبع تسامحا مفترضا من جانب رجل أزهري. فمن الواضح أنه يؤمن بـ “حرية العقيدة الدينية”، وهو بالطبع رأي ابراهيم عيسى الذي يبدو في سائر الفيلم وكأنه يقوم بدور “الملقن” الذي يلقن حاتم ما يقوله ويضع على لسانه أفكاره التي يريد توصيلها للمشاهدين حول تسامح الإسلام، وقبول الآخر، وضرورة نبذ التكفير.

إلا أن حسن- بطرس، رغم إقرار حاتم له بصحة أفكاره عن “تعصب” الإسلاميين تجاه المسيحيين، يأتي فجأة إلى مكتب حاتم لكي يحاول الانتحار بقطع شرايينه، دون سبب مقنع، ثم وبدون مقدمات درامية مقنعة، سنعرف كمعلومة فقط قرب النهاية، أنه انضم إلى جماعة متطرفة، وأنه وراء التفجير الذي وقع في الكنيسة.

يميل الفيلم إلى الشروحات الطويلة والخطاب المباشر، سواء فيما يلقيه حاتم من خطب في المسجد، أو عبر برنامجه التليفزيوني، كما يميل إلى فكرة “التكفير عن الذنوب”، فشخصية الفتاة “نشوى” (ريهام حجاج) التي يدسها الأمن على حاتم، تعود لتعتذر لحاتم عن فعلتها بعد أن سرقت الوثائق التي ائتمنه عليها الشيخ مختار، كما حاولت الإيقاع به في فخ جنسي. وهي لا تعتذر فقط بل تعطيه “فلاشة” مسجل عليها كل ما نجحت في تصويره من أوراق مختار قبل تسليمها للأمن، هذه الصحوة الأخلاقية غير مبررة أو مقنعة خاصة وأننا شاهدناها في شريط إباحي أطلعه عليه صديقه “الفنان”.

من الأفكار التي تتردد في الفيلم على لسان حاتم- ابراهيم عيسى بشكل مباشر: رجال الدين لا يمكن أن يقوموا بتبسيط الدين فلو فعلوا لما وجدوا ما يأكلون.. التمثيل ليس حراما.. لا يوجد في الإسلام سنة وشيعة بل هناك إسلام فقط.. رضاعة الكبير حديث لا يعتد به.. هناك فرق بين الدين ورجال الدين.. البلد ليست مقسومة بين المسلمين والمسيحيين بل بين فقراء وأغنياء.. زواج الرسول من زينب بنت جحش كانت لتبيان الفرق بين البنوة والتبني.. كلنا مسؤولون عما يقع من تطرف.. المعتزلة ليسوا منحرفين عن الدين، والصوفيون مخلصون للدين.. لكي تكون هناك سلطة يجب أن يكون هناك عبيد، ولكي يكون هناك أمان يجب أن يكون هناك خوف.. الخوف لا يمنع الموت بل يمنع الحياة.. المشكلة تعود إلى الذين ربوا وعلموا وأدخلوا الأفكار المتطرفة.. لو قلوبنا وجعتنا على بعض بجد فلن نحتاج إلى هذه “الميكروفونات”… إلخ

يعاني الفيلم من الاستطرادات وتكرار الفكرة. وعلى سبيل المثال فقد اتضحت تماما علاقة السلطة برجال الدين بالأثرياء من رجال “الطبقة الجديدة”، في المشهد البديع الذي يضم هؤلاء عندما يدعوهم أحد رموز الطبقة، خالد أبو حديد (لطفي لبيب)، إلى وليمة يجمع فيها بين الشيخ فتحي والشيخ حاتم، ورجال الأمن، وبعض أصدقائه الأثرياء، وهو مشهد مصاغ سينمائيا بشكل جيد يوصل ببلاغة فكرة الزواج الشيطاني بين الثروة والسلطة والدين. لذلك لم تكن هناك ضرورة إلى مشهد “الفلاش باك” الطويل الذي يروي خلاله “الشيخ مختار” قصة الشاب الذي عاد من الخارج ثم ارتكب “غلطة عمره” عندما اتصل بابن الرئيس يذكره بأنه كان معه في المصحة التي كان “جلال” (المعادل السينمائي لجمال مبارك) يتلقى فيها العلاج من نوبات صرع، مما يعرض الشاب للاعتقال والتعذيب. فما الذي تضيفه هذه القصة الفرعية إلى الفيلم!

هناك رغم ذلك، لمسات سينمائية بارعة في الفيلم، الذي يتميز بتصوير جيد، ومشاهد كثيرة متقنة منفذة بمهارة حرفية عالية مثل مشهد غرق الطفل، ومشهد محاولة “نشوى” إغواء حاتم حيث تدور الكاميرا في حركة دائرية حول الإثنين مع المحافظة على اللقطة القريبة (كلوز أب) التي تحصر الممثلين في مساحة ضيقة، ومشاهد البرنامج التليفزيوني التي تميزت بالحركة، حركة الكاميرا وحركة الممثل في فضاء الاستديو (للتغلب على كثرة الحوار)، ومشهد الهجوم على الصوفيين والشيعة من جانب خطيب مسجد سلفي، ولكن هناك أيضا مشاهد زائدة مثل مشهد الحوار عن “ملك اليمين” بين أحد العاملين في البرنامج التليفزيوني وحاتم، والحوار بين حاتم وسائقه عن شرائط الشيخ محمد رفعت.

من المشاهد الجيدة الجريئة أيضا مشهد مظاهرة الأقباط عقب تفجير الكنيسة، وتصوير صمت السلطة وبالإشارة إلى احتمال تواطؤ الأمن، ومشهد اقتياد حاتم إلى أمن الدولة واحتجازه والتحقيق معه وتهديده، وهو يتميز بحواره الواقعي والأداء التمثيلي من جانب صبري فواز في دور المحقق، كما يتميز بالابتكار في التفاصيل (احتجازه في غرفة مصمتة، التلصص عليه من وراء زجاج غير مرئي، تبوله على الزجاج، الصلاة معهم وسخريته منهم.. الخ).

يتميز الفيلم بشريط صوت ثري يجمع بين الغناء (أم كلثوم والأناشيد الدينية)، وبين الموسيقى الحزينة، والأصوات المتداخلة والهمهمات وضجيج الشارع والآذان، وصوت ترديد آيات القرآن في خلفية كثير من المشاهد.

غير أن النهاية الصاخبة تجعل الفيلم يبقى في دائرة أفلام الميلودراما والمبالغات والدم والدموع. ولكن هذه هي طبيعة الأفلام التي يفضلها مجدي أحمد علي، فهو يعمل من داخل السينما التقليدية، يستخدم نفس قوالبها وأنماطها، همه الأول: توصيل رسالة اجتماعية متقدمة وليس تطوير طرق السرد وأسلوب التعامل مع الصورة والتقليل من الحوار. وهو بهذا المعنى أقرب إلى سينما عاطف الطيب، أي “سينما الرسالة”. وقد لا يكون هناك عيب في ذلك، لكن هذا هو الحال. فهناك دائما سينما جماهيرية أو تسعى لأن تكون كذلك، وسينما فنية تطمح إلى تطوير السينما وليس فقط توعية الجمهور.

يمكن القول إن الفيلم هو أيضا فيلم عمرو سعد. إن عمرو هو الفيلم، والفيلم هو، ومن دونه لا يوجد الفيلم ولا يكون له تأثير. إنه يثبت في دور “حاتم الشناوي” أنه ممثل كبير، يتقمص الشخصية تقمصا كاملا، يتعايش معها ويعايشها، يحافظ على إيقاعه من مشهد إلى آخر، وعلى طريقته في نطق الحوار وكأن شخصيته صورت في يوم واحد وعلى لقطة واحدة. وهو يضفي على الشخصية لمسة من المرح وخفة الظل والسخرية المحببة. وهو بحركته الدائمة، وابتسامته المميزة، وقدرته على السيطرة على كل المشاهد التي يظهر فيها كخطيب في المسجد، وعلى ترديد آيات القرآن والتمكن من النطق السليم لعبارات الحوار، يرتفع كثيرا بالفيلم. ولا شك أن الفضل في اختياره والسيطرة على أدائه يعود إلى المخرج.

درة في دور “أميمة” زوجة حاتم تبدو تائهة ضائعة في الفيلم، لا نفهم دوافعها وتبدو بعيدة عن قلب الأحداث، وتبقى على الهامش، أما ريهام حجاج في دور “نشوى”، فهي دون شك، صاحبة أجمل وجه لممثلة ظهرت بالحجاب في السينما المصري. ولا شك أنها تتمتع بالجاذبية الطاغية، ولكن أيضا بموهبة لا شك فيها وقدرة على الأداء الجيد بنظراتها وحركات جسدها ومعالم وجهها خاصة في اللقطات القريبة.

ومن المؤسف أن يأتي أداء أحمد مجدي في دور حسن، أداء باهتا، يفتقر للإقناع ويميل للتوتر الزائد المفتعل والمبالغة، تظل ملامح وجهه ثابتة في كل المواقف.

وتألقت الممثلة الجميلة إيمان العاصي وصمدت في لقطات “الكلوز أب” القريبة لوجهها في المشهد الطويل الوحيد لها في الفيلم، حينما تقص على حاتم قصة شقيقها المتحول للمسيحية.

وجاء أداء فتحي عبد الوهاب الذي ظهر في مشهد وحيد في دور القس، أداء مقنعا واثقا، وهو يشرح لحاتم معاناة الأقباط وصبرهم، وكيف وقع التفجير محافظا على نبرة صوت تحاكي الطريقة الهادئة التي يتكلم بها القساوسة.

Visited 13 times, 1 visit(s) today