ما الذي يجعل فيلما ما كلاسيكياً؟
مقدمة كتاب “كلاسيكيات السينما العالمية”
أمير العمري
من الطبيعي أن يتساءل قاريء هذا الكتاب: وما هي كلاسيكيات السينما؟ وهو سؤال طبيعي ومشروع. ولكن الإجابة عليه ليست سهلة ولا جاهزة مسبقا. والحقيقة ان للكلاسيكيات أكثر من وجه، وأكثر من تعريف، وكلها تعريفات تقوم على الاجتهاد. ولكن الكثير من هواة السينما بل وحتى المشتغلين بها، يعتقدون أن الكلاسيكيات هي الأفلام القديمة الصامتة فقط، وهذا غير صحيح على الإطلاق، بل هي في الحقيقة الأفلام الصامتة والناطقة، القديمة والحديثة، ومن الحديثة ما يطلق عليها بعض النقاد في الغرب “الكلاسيكيات الحديثة” modern classics تفرقة لها عن القديمة. وهي تفرقة لا أجدها دقيقة أو مستساغة ومقبولة، فالعبرة ليست بعمر الفيلم بل بقدرته على الصمود في وجه الزمن، أو بتأثيره الذي يتغلغل في ذاكرة المشاهدين ويبقى ويدفعهم إلى العودة للمشاهدة مرة بعد أخرى، وفي كل مرة تزيد متعة المشاهدة، ويكتشف المشاهد: سواء الباحث والناقد والمتخصص، أو الهاوي، شيئا جديدا في الفيلم الذي يشاهده، شيئا لم يلحظه من قبل. فالثراء الفني، في الشكل واللغة وعناصر السينما وقدرة السينمائي صانع الفيلم بالتعاون مع فريقه الفني، على صياغة عمل مبتكر متين، ومؤثر، يمتلك من الجمال ما لا يمكن إنكاره، أحد الشروط الأساسية التي تجعل فيلما ما يصبح من “الكلاسيكيات”. ولعل هذا يتحقق كله على نحو مثالي في التحفة الكلاسيكية الشهير الباقية عبر الأزمان “لورانس العرب”.
“وكثير من أفلام ألفريد هيتشكوك أصبحت من الكلاسيكيات لقدرتها على إثارة مشاعر الجمهور في كل مكان، بفضل ابتكارات هيتشكوك الخاصة في تعامله مع الوسيط السينمائي“
الفيلم الكلاسيكي قد يشمل التعبير عن فترة زمنية لم نعيشها، يعيد تأسيسها وبنائها بحيث يمكن لنا أن نستخرج من الفيلم ومن القصة المعروضة نفسها، الكثير من المعاني الإنسانية التي تجعلنا أكثر معرفة بتلك الفترة الزمنية، وأكثر دراية بما فيها من جمال، بل وأكثر فهما للحاضر أيضا على ضوء الماضي.
لكن ليس معنى هذا أن الكلاسيكيات هي فقط الأعمال المشغولة بسرد قصص من الماضي. فأفلام تُروي عن الحاضر قد تكون أكثر تأثيرا وبقاء في وجه الزمن. الفيصل هنا يكمن في قدرة الفيلم على أن يلمس مشاعر الجمهور في كل مكان، أي ينجح في تجاوز النطاق المحلي أو الإقليمي، أي يتمتع بالبعد الإنساني (الكوني) وهو ما يطلق عليه النقاد the universal level . خذ مثلا فيلما مثل “ذهب مع الريح”. لقد أصبح فيلما كلاسيكيا لأنه يعيد تقديم فترة من التاريخ الأمريكي من خلال قصة حب رومانسية مدمرة تركت تأثيرها على المشاهدين في العالم، من اليابان إلى آلاسكا.
يتوقف نويل تومبسون أمام ذلك الاهتمام الكبير المستمر من جانب جمهور مشاهدة الأفلام في العالم كله، شرقاً وغرباً، بفيلم “ذهب مع الريح”، ولكنه لا يرجعه فقط إلى جودة العناصر الفنية، أي الإخراج والتمثيل والديكورات والموسيقى. ويقول إن مشاهد المعارك الحربية واقعية، وتجسيد وقائع الحرب الأهلية الأمريكية عموما، مبهر وكأننا أمام استعادة مجسدة للتاريخ، لكن يظل عنصر الجاذبية الأكبر لدى الجمهور يتمثل في المعاني الإنسانية التي تنبع من قصة الفيلم: بشاعة الحرب وقسوتها، وكيف يسمو الحب فوق كل شيء، كيف تدمي الغيرة القلوب، وكيف يظهر أبطال جدد من بين رماد الحرب: (إننا نضحك، ونبكي، نشعر بالإلهام، نغضب، لكننا في المحصلة، نستمتع)!
المعاني الإنسانية التي يمكنها أن تلمس مشاعر الجمهور في كل مكان ويستمر الشعور بها من جيل إلى آخر، هي ضمن العوامل التي تجعل فيلما ما يصبح من الكلاسيكيات.
وكثير من أفلام ألفريد هيتشكوك أصبحت من الكلاسيكيات لقدرتها على إثارة مشاعر الجمهور في كل مكان، بفضل ابتكارات هيتشكوك الخاصة في تعامله مع الوسيط السينمائي، وما تولده أفلامه من شعور بالصدمة، صدمة اكتشاف الغامض والمثير والمجهول في النفس البشرية، دون أن تفقد أفلامه المصداقية، مهما بلغت غرابتها، فالغرابة نفسها أصبحت مقبولة ومفهومة ومرحبا بها.
والفيلم الذي أصبح من الكلاسيكيات، يمكن أن يعاد عرضه مرات ومرات، ويستعاد ويرمم ويطبع في نسخ جديدة، ويكن إضافة بعض الصبغات اللونية إليه مثلا، ويرجع الاهتمام المتزايد الدائم به إلى أصالته، إلى أنه من أوائل الأفلام التي رسخت مفاهيم أو بالأحرى، صلات وشيفرات بين الصور السينمائية والمتفرجين، ومن هذه الأفلام على سبيل المثال فيلم “الساكن” لهيتشكوك (من عام 1927) الذي نتناوله في هذا الكتاب، وهو أحد الأفلام الأولى لمخرجه. ولكن من الأفلام الأحدث قليلا التي حفرت اتجاها جديدا في السينما فيلم “2001.. أوديسا الفضاء” لستانلي كوبريك، ونعرض له أيضا في كتابنا هذا. فقد كان عملا غير مسبوق في مجال أفلام “الخيال العلمي”. وظل حتى يومنا هذا يلهم الكثير من صناع الأفلام رغم أنه لم يكن يعتمد على مؤثرات بصرية متقدمة كثيرا كما أصبحت متوفرة اليوم.
ترسيخ “نوع” جديد من الأفلام في أصالة وصدق وابتكار، يمكن أيضا أن يدفع فيلما من الأفلام ليصبح من كلاسيكيات السينما المعاصرة. وهناك بعض الأمثلة البارزة على هذا “الحفر” و”الابتكار” الذي سيترك تأثيره حتى يومنا هذا في الكثير من المدرسة “التعبيرية” في السينما. ومن هذا المدرسة تناولنا عددا من أهم الأفلام في هذا الكتاب من بينها “خزانة الدكتور كاليغاري” و”صندوق باندورا” و”الغوليم”. كذلك أصبح فيلم “بوني وكلايد” نموذجا شديد التأثير لفيلم الجريمة الذي يدفع المشاهدين إلى الإعجاب حد الهوس، ببطليه اللذين يسرقان ويقتلان عند الضرورة أيضا. لماذا أصبح هذا ممكنا، وكيف كان طبيعيا أن يرسخ الفيلم في الذاكرة ويصبح حتى أقوى تأثيرا من القصة الحقيقية الأصلية؟
الجواب يكمن في القدرة على لمس الإنسان في فردانيته وعزلته وشعوره بالغضب والتمرد والرفض والاحتجاج على الظلم. إن مأزق الاختيار الفردي الإنساني يتجلى على نحو بديع ومؤثر، عل سبيل المثال، في فيلمي “قيظ الظهيرة” و”رجل لكل العصور” كما في فيلمي “غويا: الطريق الشاق إلى المعرفة” و”نظرة عوليس”. وكلها من الكلاسيكيات التي تستحق أن نتوقف أمامها في هذا الكتاب ونفحص لماذا أمكن أن تصبح مؤثرة طوال تلك السنين وأن تعبر بين الأجيال.
إن ما يجعل فيلما ما كلاسيكيا، يبقى في الذاكرة ويحتفى به، كونه أيضا عملا مبتكرا، نجح صانعه في تطوير أبجديات السينما والصنعة السينمائية، وخلق بطلا مثاليا أو بطلة نموذجية تظار صورتهما في الأذهان ولو عبر قصة “بسيطة”، لكنها قد تكون رغم بساطتها، موحية بالكثير من الأفكار وتولد الكثير من المشاعر. الفكر والعاطفة بالطبع مما يبقى راسخا في أذهان الجمهور. وهما ما يربط بين البشر ويوحد بينهم رغم احتلاف الثقافات والأجناس والانتماءات.
الابتكار الذي يعكس طموحا بل ومغامرة مدهشة في تطويع الوسيط السينمائي لخيال فنان السينما، كما اتضح من عصر السينما الصامتة في فيلم مثل “نابليون” لأبيل جانس، ثم في “المواطن كين”، هو الذي ظل يميز الكثير من الأفلام التي أصحت راسخة في ذاكرة الملايين عبر العصور وضمنت لها بالتالي مكانا بين “الكلاسيكيات”.
ليست كل الأفلام التي نتناولها في هذا الكتاب من الأفلام الشهيرة الشعبية الرائجة بين الجمهور العريض وهي ما يتبادر إلى الأذهان عادة عند الحديث عن “الكلاسيكيات” وأشهرها مثلا “كازابلانكا” و”ذهب مع الريح الذي أشرت إليه، و”المواطن كين”، و”العراب” أو “الأب الروحي”، فكلها أفلام قتلها بحثا الكثير من النقاد والكتاب من قبل، وأصبحت أمثلة محفوظة وكلها في الحقيقة من أفلام هوليوود الأمريكية، لكن هناك أفلاما أخرى تنتمي لسينمات خارج أمريكا وخارج هوليوود، دخلت تاريخ الكلاسيكيات السينمائية، يعرفها جمهور السينما الفنية الرفيعة، ويبحث عنها المهتمون بهذا النوع من الأفلام ومنها أفلام ظهرت في الاتحاد السوفيتي السابق مثل “أغنية البجع الطائر” أو “سيبيرياد”، وقد تم إحياؤها وإعادة طبعها في نسخ جديدة تجعلنا نشاهدها كما عرضت للمرة الأولى، وأفلام أخرى خلقت اتجاها جديدا في السينما مثل تيار السينما السياسية وأشهر فيلمين ينتميان لهذا التيار بل شكلا بدايته الحقيقية، هما “قضية ماتيه” الإيطالي و”زد” الفرنسي. وقد خصصنا لها فصولا من هذا الكتاب لتسليط الضوء عليها وعلى أهميتها السينمائية وقيمتها التاريخية.
قبل أن أختتم هذه المقدمة، يجب أن استدرك وأقول إن تعريف “الفيلم الكلاسيكي” أمر مازال يحير النقاد في العالم، فلا يوجد اتفاق على مغزاه ومعناه، بل كلها اجتهادات يتدخل فيها دون أدنى شك، عنصر التذوق الشخصي والاستناد على رؤية الناقد نفسه وإحساسه بالعمل السينمائي. لذلك يظل مرجع قائمة الاختيارات في هذا الكتاب، يعود إلى الكاتب وحده وطبقا لرؤيته. ولو أصاب واستطاع أن يجذب الآخرين معه، ويدفعهم للعودة لمشاهدة هذه الروائع واكتشاف ما يكمن فيها من جمال، لتحقق الهدف من هذا الكتاب كأفضل ما يكون.
*كلاسيكيات السينما العالمية- دار خطوط وظلال- عمان 2021