فيلم “نظرية كل شىء”.. جمال العقل وجمال السينما

“إن جمال العقل، أعلى مرتبة من مراتب جمال الشكل الخارجى”

عبارة لأفلاطون، يمكن أن نفكر كثيرا حول مدى توفيقها. قد نلومه لأنه حدد صفة الجمال التى رفع مراتبها فى العقل وحده، بالرغم من أن الروح لها نصيب الأسد فى إضفاء البهاء على هيئة الشخص بكاملها. وتارة أخرى قد نضمّن جمال الروح فيما يقصده من جمال العقل، فالفطنة صفة روحانية لابد وأن تضرب بسهمها الفِكر، وتمنحه رونقا وألقا ملحوظا. ولكن لا يشعرالمرء بنبوغ هذه المقولة، إلا عند مشاهدة فيلم The Theory of Every Thingالمقتبس عن كتاب”الرحيل إلى اللامنتهى: حياتي مع ستيفن كنج” الذي كتبته جين هوكينج، الزوجة السابقة للعالم الفيزيائى الشهير ستيفن هوكينج، والذى مازال يناضل مرضه العصبى الخبيث حتى الآن، المرض الذى أصاب أطرافه بإعاقة لم تحول بينه وبين عقله.

أكبر قيمة إنسانية تحسب لهذا الفيلم المتعدد الوجوه فى إبداعه، هى إبراز الشق الجمالى الذى يمتلكه هوكينج والذى عبر عنه أفلاطون فى مقولته المُحيرة. فبالرغم من كل المنفرات الملتصقة بشخص مصاب بمرض مماثل، بدا الجمال جليا على وجهه، ردات فعله، الأمل المنغلق عليه قلبه، وذرات النبوغ فى عقله الثرى. إنها دزينة جمال غير قابلة للتصنيف، يختلط عليك الأمر فيها بين جمال العقل والروح. فلا تعرف أى منهما أفاض على الآخر، وجعل من هوكينج الممثل بالفيلم، صورة طبق الأصل من هوكينج الحقيقى القعيد، مكتوف الأيدى والأرجل، محنى الرأس، ومسلوب الصوت. والذى بإبتسامة مقتضبة منه يختصر مسافات من الوسامة الشكلية التى ستبقى فى ذاكرة قلبك.

السيناريو

 بداية السرد المباشرة، كانت مادية أكثر من اللازم مقارنة بما يعتمل داخل الفيلم من مشاعر وإنفعالات، تستدعى بدورها حضور بعض الملحمية فى إطلالة الحكى الأولى. إلا أن الإختصار المبدئى لم يدم طويلا، والمشاهد فيما بعد أخذت براحها التام فى المحاكاة، لدرجة أهلتها فى النصف الثانى من الفيلم لكى تُمثل وحدات إبداعية منفصلة، يتبارى فيها الممثلون كلا أمام الآخر، بمجهود إقترب من صورة المعايشة المطلوبة تماما عند إقبال سينمائى لتحويل مادة رواية جين هوكينج إلى فيلم.

تفاصيل دقيقة إهتم السيناريو بالعناية بها، لتقوم بدورها فى دعم الإحساس التراكمى بين الشخصيات. مثل إصرار جين على تنظيف نظارة هوكينج وقتما كان يعاند قرارها بالبقاء إلى جانبه، بعدما تنامى إليها خبر مرضه، ليتكرر الأمر ذاته فى مشهد النهاية محققا غايته فى التأكيد على مهابة فعلة الزمن، وعلى بقاء جين وستيفن رغم تغيرات الظروف المحيطة بهما ولهما على نفس العهد القديم من التآلف.

تفصيلة مماثلة نراها أيضا، فى إقبال هوكينج على رفع قلم قد وقع من فوق مكتب أستاذه، فى وقت كان فيه سليما معافىا لتدور كَرّة الوقت، ويقع القلم من فوق دفتر ملاحظات أحد حضور ندوته بعدما نال منه المرض، فيصبح لوقع شعوره صدى أقوى فى وجود الخلفية التى أتاحها لنا المشهد الأول. إنها تفاصيل لها خصوصيتها السينمائية المستقلة عن كتاب جين، فهى أقرب لمدى رهافة حس المخرج جيمس مارش فى التعاطى مع شخصية هوكينج شكلا وموضوعا. وله أيضا يعود ذلك التأنى الذى يمكن أن نلمسه جليا فى التدرج بمستويات الحدث. يتضح ذلك على سبيل المثال وقتما تبدأ أعراض المرض فى الظهور على جسد هوكينج، فنراه يتعامل معها بلامبالاة تتعالى شيئا فشيئا، بدون تركيز سينمائى يلفت النظر، وكأننا نختبر معه رجفة اليد التى لا يأبه بها، ومن بعدها ارتعاشة القدم التى يشعر بألمها من دون أن يودعها خوفا يُعوّل عليه، وحتى نبلغ مشهد الإرتطامة المدوية التى يتساوى فيها بالأرض، بعدما تتصلب عضلات قدمه ورسغه فجأة.

فى المشاهد االسابقة، تتبين لمسة جيمس مارش تارة أخرى، صوب إدارة أداء الممثل، والسمو بحالة المشهد لدرجة واقعية، يتثنى لها الإمساك بالمشاعر التى يجب وأن تدخل قلب المتفرج. فحالة كتاب جين هوكينج معضلتها الرئيسية تستند على الوجه الخفى المسكوت عنه فيما بين هوكينج وجين، المشاعر التى لم يجرؤا على البوح بها، والتى قد لا تكون عبرت عنها فى الكتاب نفسه، ومن هنا تكثفت حالة مشاهد النصف الثانى من الفيلم بالذات، حتى فى الغائب منها عن حضور جين الفعلى، ساردة إياه غيبيا تبعا لما حدث. مثل مشاهد هوكينج وايلين، مساعدته التى تتقرب منه فى وقت تُسلم فيه جين رايتها البيضاء للإنهيار. فتدخل إيلين حياة هوكينج، مانحة إياه قدرا من الحميمية التى تساعده على قرار فراق جين. إن مارش إستطاع منحنا شعورا لا معقولا بمعايشة ما حدث، وكأنه رآه بعينه قبل أن ينقله إلينا بالكاميرا. وهذه أقصى حالات النبوغ التى قد يصل إليها مخرج يهم بتحويل كتاب ذاتى عن علاقة منقولة على لسان أحد طرفيها.

الصورة

مارش وضع بصمته على صورة الفيلم بأكثر من صيغة، فلم يقصر جمالياتها فى خانة واحدة. كان له قدرة محاكاتنا مرئيا، فى كثير من الكادرات المعبرة مثل الكادر الرائع الذى كان يجلس فيه هوكينج مُحبطا بعد تسليمه بحالة مرضه، بينما تأتيه جين وتدلف من الباب خلفه، ومع وقفتها هناك يتنامى إلى القاعة المظلمة حزمة من النور المُشرق لأشعة الشمس، فيبقى مكانها مضويا مُلفتا مقارنة بالعتمة المحاوطة مكان هوكينج المترامى فى الداخل، فلا يوجد تلاقى مرئى لمواكبة الحالة التى تجمعهما أكثر من هذا التصوير البسيط والبليغ.

وإذا تأملنا الطريقة التى إستخدمها فى تقطيع مشهد سقوط هوكنج على الأرض، سنجده قد إختزل كثيرا من شعور المتفرج بهول هذا المرض الذى طالما سمع عنه. مارش يُطلعنا فى هذا المشهد على الواقع وكأننا نعلمه لأول مرة. وفى الإرتطامة التى انسحقت بها رأس هوكينج فى الأرض، نستحضر حضور السنوات الأليمة المُقبلة بغض النظر عما تخللها من عزيمة وأمل. وما بين لقطة إنحناء قدمه وحتى الكادر الواسع لوقوعه فى منتصف الطريق مفترشا بالأرض والكل يلتف من حوله، تبدأ كلمة السر لتصوير هذه المعاناة بنبض حى، يبتعد عن كل ما ارتسمناه قبلا.

مشهد آخر ينطق فيه عمل الكاميرا بتحريض من عين مارش، حينما يصارح الطبيب هوكينج بحقيقة مرضه، وفى الوقت الذى يصل فيه إلى الحقيقة الحرجة حول إقرار وفاته بعد عامين، تتجسد صورة الدكتور من وجهة نظر هوكينج بعدسة مُقرِبة ومشَوِهة نوعا ما، تبرز من خلالها هيئة أذن الطبيب كبيرة مقارنة برأسه. ومن ثم، وبعدما تنتقل الكاميرا لردات فعل هوكينج، يعود الكادر على مكان الطبيب وقد خلا منه، بينما نجده قد اتخذ طريقه فى الردهة. وقد وضعنا مارش فى انفعالات هلاوسية مرئية، توازى إحساس هوكينج فى تلك اللحظة تماما كما حدث فى اللقطة التى أخفق فيها صعود السلم، وأرتمى بجسده الهزيل درجاته متبادلا النظر مع صغيره الذى يقف فى نهاية الدرج من أعلى، لا يقوى هو الآخر على الهبوط عاجزا عن تخطى شبكة الحماية التى وضعتها أمه كى لا يسقط. وقد عاود ليبث فينا هذه الحالة الهذيانية، فى مشهد نقل هوكينج إلى المستشفى بينما كان بصدد حضور حفل موسيقى أوبرالى لفاجنر، فنجد موسيقى فاجنر قد ترسخت كخلفية قوية لما يحدث من مأساة، متداخلة مع الأضوار البراقة للمسرح، والأناقة المنثورة فى مزيج اللون الأحمر للستائر والمدهب للون الإضاءة وزرقشة النقوش فى سقف القاعة، حيث كانت تقابل وجه هوكينج وهو راقد على ظهره فوق نقالة الإسعاف. إن أقسى لحظاتنا تنطبع دائما فى الذاكرة بصور تقع عليها أعيننا، وأصوات شقت طريقها إلى مسامعنا فى نفس التوقيت.

فمارش يهوى السيطرة على مساحات الحكى ببناء مفردات مرئية يمكن أن تمتد لمشاهد كاملة.

وقد اعتنى بالوجه البديع البحت للصورة، حتى وهو يخلو من أي أغراض أخرى. فالكادر الذى أطلت علينا منه رقصة هوكينج وجين فى حفل التخرج من فوق الجسر المحاط بإضاءة قوية وساحرة، ومع حركة الكاميرا التى تتعالى شيئا فشيئا فى مراقبتها لهما، بدت الصورة ملفتة للنظر فى جمالها الآخاذ. كما تجلى كادر آخر مشابه حينما بدا هوكينج متجلسا فى المسبح الصغير، يحاول تطويع أنامله الثقيلة وقد فقد السيطرة على حركتها. لينتهى المشهد كله بصورة هوكينج الخلفية داخل المسبح، والدخان من حوله، غارقا بين الألوان الهادئة شديدة التوائم فيما بين الحائط والمسبح. ليبقى المنظر عالقا فى الذهن رغم تواريه من فرط حضوره المتناغم بصريا.

آخر كلمتين

– الدوران حد الرجوع بالزمن، وُظِف فى إطلالتين مختلفتين، أحدهما فى مشهد رقيق فيما بين هوكينج وجين. والآخر فى نهاية الفيلم بإستخدام ملحمى يستعيد لحظات هوكينج وجين بشكل معكوس، مساهما فى منح الفيلم نهاية قوية، كان يحتاج لمثلها فى بدايته.

– إيدى ريدماين وفيليستى جونز، في الدورين الرئيسييت، من  الدعامات الرئيسية فى إرساء نجاح هذا الفيلم.

Visited 70 times, 1 visit(s) today