فيلم كوبولا “ميجالوبوليس” يسقط بقوة الطرد الذاتي
أمير العمري- كان
أظن أن أقل ما يمكن أن يوصف به شعور كاتب هذه السطور، وأظنه يشمل أيضا شعور غالبية النقاد والصحفيين الذيم حضروا عرض فيلم المخرج الكبير فرانسيس فورد كوبولا “ميجالوبوليس” Megalopolis في مهرجان كان، هو الشعور بالإحباط الشديد إن لم يكن الصدمة.
كوبولا الذي يعود إلى السينما بعد 14 عاما من الغياب، بمشروع ظل طيلة حياته العملية يحلم بتحقيقه، ثم يحققه أخيرا من ماله الخاص وبتكلفة بلغت 120 مليون دولار، يريد أن يحذر من سقوط أمريكا، أو الإمبراطورية الأمريكية، التي يرى أنها أصبحت غارقة في اللذات والمتع المادية والجشع والغرور والاستعلاء، تفضل النشوة العابرة وتهتم أماكن اللهو واللذة والنوادي الليلية والقمار، غير مدركة لما يحق بها من خطر الإفلاس والانفلات والسقوط. ونيويورك هنا هي معادل أمريكا، والفيلم يقول بوضوح وفي أولى مشاهده، أن سقوط أمريكا معناه سقوط العالم، تماما كما كان سقوط الإمبراطورية الرومانية.
وكوبولا يختار موضوع السقوط والانهيار، فيجعله محملا بدرجة ثقيلة للغاية، بالكثير من الرموز والرسائل الخطابية التي تصل إلى درجة مخاطبة المشاهدين مباشرة، على نحو تعليمي، يكرر التحذير تلو الآخر، من الانهيار، كما يكرر فكرة أخرى رومانسية تتصف بالسذاجة، هي أننا يمكن أن نمنع السقوط عن طريق الحب، أي أن نتعلم كيف نحب بعضنا البعض، وهي نظرة أخلاقية كاثوليكية ترتبط ربما بتكوين كوبولا الشخصي!
تدور الأحداث في نيويورك لكنه يطلق عليها “نيو روما”، وهناك جهد كبير واضح في تجسيد صورة تتميز بالغرابة المقصودة للمدينة بحيث تجمع بين طابع روما القديمة، ونيويورك الحديثة، ثم يبرز بطله، المهندس المعماري الطموح الحالم ببناء مدينة حديثة عملاقة تهتم بالفنون الرفيعة والثقافة والعمارة الراقية الإنسانية، أكثر من اهتمامها بمراكز التسوق والاستهلاك، هذا المعماري الحاص على جائزة نوبل، يطلق عليه “سيزار كاتالينا” (يقوم بدوره آدم درايفر). وهو يزعم أنه اكتشف مادة جديدة هي “ميجالون” ستساعده في تشيد المدينة الجديدة التي يحلم بها.
وفي مواجهة سيزار هناك عمدة المدينة “فرانكلين سيسيرو” (يقوم بدوره جيانفرانكو إبوسيتو)، وهو يتشبث برؤية مخالفة تماما لرؤية سيزار للمدينة الجديدة، فهو يريد تأسيسها على نفس الأسس القديمة التي تترك مساحة للفساد والاستغلال واللهو، لكنه في الوقت نفسه، يجعل الأولوية ليست للثقافة والفنون، بل لتدبير وظائف للعاطلين، ومساكن وعلاج ومدارس للناس. ويدخل الاثنان بالتالي في مواجهة حادة. ونعرف أيضا أن سيسيرو كان هو المدعي الذي تولى قبل سنوات، الدعوى القضائية ضد سيزار الذي كان متهما بقتل زوجته، فأهما عامدا، الكثير من الحقائق، وانحاز ضده، ورغم ذلك فشل في إثبات التهمة عليه. وهناك بالتالي، ثأر قديم بين الاثنين. لكن هذه القصة مثل كثير من القصص الفرعية في الفيلم، تظهر وسرعان ما تختفي، أي لا تحظى بمتابعة أو تعميق وإشباع لنظل غير موقنين عما إذا كان سيزار قد تخلص فعلا من زوجته أم لا حتى عندما يؤكد لجوليا أنه لم يقتلها، خصوصا أنه لم يتم العثور قط على جثتها.
أما “جوليا” (ناتالي إيمانويل) فهي ابنة سيسيرو الحالمة التي تنجذب إلى سيزار وتعجب برؤيته المثالية. وسيقع هو في حبها رغم أنه سيظل أيضا على علاقته بصحفية تدعى “واو” (أودري كريستينا)، شقراء لعوب جذابة تصفه في البداية بأنه شخصية anal أي شرجية، على العكس منها كشخصية oral أي فمية، باستخدام مصطلحات فرويد، فالشخصية الشرجية عند فرويد هي شخصية المثالي المتمسك بالأنا العليا، أما الشخصية الفمية فهي التي تميل للمتع الحسية المباشرة.
هناك أيضا شخصية ابن عم سيزار، “كلاوديو” (شيا لابوف) الجشع الذي يطمع في الاستيلاء على ممتلكات والده الملياردير الرأسمالي “هاملتون كراسوس” (جون فويت) الذي يعتقد أنه يستطيع شراء كل شيء بالمال والسيطرة على البشر (رمز واضح إلى دونالد ترامب)، وكلاوديو مثل ترامب، شعبوي يحرض فئة من الدهماء والغوغاء على الثورة ضد عمدة المدينة بغرض الاستيلاء على السلطة (أي الانقلاب على الديمقراطية) فيتزعمهم ويوهمهم أنه يتفهم مطالبهم ويمضي معهم، كما تغوبه “واو” اللعوب عن طريق الجنس، لتدفعه إلى الاستيلاء على حسابات والده في البنوك.
وهناك شخصيات أخرى كثيرة جدا تعبر سريعا فضاء الفيلم ثم تختفي مثل شخصية “ناش بيرمان” مدبر أمور سيزار، التي يقوم بها داستين هوفمان ويظهر في مشهد أو مشهدين ثم يختفي، أو الدور القصير الذي تلعبه تاليا شاير، شقيقة كوبولا التي ارتبطت بأفلامه.
وكلها شخصيات سطحية أحادية الجانب، لا يهتم السيناريو بإشباعها بما فيها الشخصيات الرئيسية التي تبدو كاريكاتورية ومنها شخصية “سيزار” نفسه الذي يغرم بالتساؤل عن مغزى الزمن وكيف يمكن التحكم فيه، ثم ينجح فعلا في إيقاف الزمن مرات عدة خلال الفيلم. وسيتعرض سيزار لمحاولة اغتيال مع إطلاق النار عليه بحيث يتشوه وجهه تماما، لكنه سيعود فيما بعد كما لو لم يحدث له شيء!
كثرة الشخصيات وضحالتها، وغياب الحبكة القوية التي تستند عليها، وهامشية قصة الحب بين قيصر وجوليا، والاستطرادات الكثيرة مع تكرار الفكرة، واستخدام التعليق الصوتي المباشر الذي يروي ويعلق ويحذر وينذر (بصوت الممثل لورانس فيشبيرن)- سائق سيزار وحارسه الشخصي، كلها عوامل تجعل البناء مضطربا، بحيث يكافح الممثلون لكي يمنحوا لأدوارهم معنى، دون جدوى.
ورغم أن الفيلم يتميز بعناصر الإبهار في الصورة: حركة الكاميرا، والتكوينات البصرية، والديكورات وتصميم الإنتاج الذي يجعل نيويورك أو نيو- روما، مدينة تمتلك من خصائص روما القديمة (الأعمدة والمباني الرومانية الطابع) مع استخدام اللقطات من زوايا مرتفعة لاقتناص المشاهد العامة التي تظهر غرابة المدينة وطابعها الصاخب الغارق في الملذات، مع تصميم الملابس التي تجمع بين التاريخ والمعاصرة، إلا أن كل هذه العناصر لا تنقذ الفيلم من السقوط، فمع غياب التماسك والوضوح والشخصيات المحددة الواضحة الأبعاد، يصبح الفيلم أقرب إلى استعراضات السيرك من خلال مشاهد أقرب إلى “الاسكتشات” مع الافتقار لروح المرح التي تميز عروض السيرك.
لا أود هنا أن أحرق باقي أحداث الفيلم أو أكشف عن نهايته، ولكن كوبولا، سيميل في النهاية إلى عقد مصالحة بين كل الأطراف، ثم ابتداع نهاية متفائلة توحي بالأمل في المستقبل. ولكن حتى هذه النهاية بدت مسرحية ومقصودة لدفع المشاهدين للشعور بالارتياح أكثر من كونها فكرة يقتنع بها كوبولا بالفعل، بعد أن أبدى طوال الفيلم تشككه في أن تنتبه الإمبراطورية الأمريكية إلى مأزقها الحاد الذي يوشك أن يطيح بها تماما كما كانت روما القديمة.
هذا ليس بالتأكيد أحد أفلامكوبولا الجيدة، الذي كان أول من حصل على “السعفة الذهبية” في مهرجان كان مرتين، فلا هو مثلا يشبه “المحادثة” بشجاعته ووضوحه وابتكاره وقوة تعبيره عن الفكرة، ولا “سفر الرؤية الآن” بجموحه وخياله الخصب ونقده القاسي لسقوط أمريكا في مستنقع فيتنام، ولا “الأب الروحي” بما يتميز به من سيناريو يفيض بالحياة والشخصيات التي لا يمكن نسيانها.
يمتلك “ميجالوبوليس” قوة في التجسيد البصري (صور ومشاهد كبيرة وديكورات هائلة، ومجموعة من الممثلين النجوم.. إلخ) لكن هذه القوة بدلا من أن تنقذ الفيلم فإنها تدفعه إلى السقوط، أساسا بسبب هزال السيناريو الذي يجعل لكل هذه العناصر قيمة وتأثير، فلا هو أصبح فيلما من أفلام الخيال العلمي (أو ما يدعى كذلك!)، ولا فيلما من أفلام النقد السياسي أو السخرية السياسية (satyre). والمرء لا يملك في النهاية سوى أن يتحسر عن المغامرة المالية الضخمة التي لم تجد حتى الآن موزعا يتحمس لشراء حقوق توزيع الفيلم في الولايات المتحدة. والسبب واضح. أليس كذلك؟!
ملحوظة
، في الثلث الاخير من الفيلم، فجأة تضيق الشاشة وتظلم وتنحصر الصورة في دائرة حيث يجلس الممثل آدم درايفر على مكتب، ويدلف رجل إلى منصة قاعة العرض السينمائي يحمل كشافا ضوئيا صغيرا وميكروفونا طويلا، يقف على الجانب الأيسرـ ويوجه سؤالا إلى (درايفر- سيزار) خلاصته: ما العمل، ما المخرج؟ ليجيبه سيزار من داخل الفيلم!!
إنه جزء من العرض السينمائي. ولكن هل سيضع كوبولا شخصا في كل قاعة عرض تعرض فيلمه حول العالم، يقوم بهذا الدور الذي لم أجد له معنى؟ هو طبعا يريد أن يوجه رسالة لنا نحن المشاهدين مباشرة، ويجعل درايفر يدعو لتكاتف العالم كله من أجل انقاذ أمريكا من الانهيار!
!