فيلم عمر أميرلاي عن ميشيل سورا: يوم عنف عادي!

كتب حسن سليمان في جريدة “القدس العربي” (23 مايو) مقالا بديعا عن الفيلم التسجيلي الذي أخرجه المخرج السوري الكبير الراحل عمر أميرالاي عن صديقه ميشيل سورا الذي قتل في لبنان على أيدي المتطرفين الإسلاميين… 

هنا نص المقال:

في عام 1996 قدم المخرج السوري الراحل عمر أميرلاي فيلما تسجيليا يتكلم فيه عن اختفاء صديقه الباحث الفرنسي ميشيل سورا الذي اختطف في بيروت عام 1985 مع صديقه جان بول كوفمان، من قبل منظمة الجهاد الإسلامي في لبنان (القريبة من إيران)، ثم قتل بعد ذلك على يد خاطفيه في عام 1986.


ولد ميشيل سورا في مدينة بنزرت، تونس عام1947 وتعلم في ليون فرنسا، ثم نذر نفسه لقضايا الحرية التي كانت قد ولدت داخله إرهاصاتها الأولى وهو طفل، حين خبر عن قرب هجوما لفرقة مغاوير فرنسية، في مدينة بنزرت، ضد وطنيين تونسيين كانوا قد احتموا في بناء البريد، وما نتج عن هذا الهجوم من مجزرة ارتاع لها وخلقت في أعماقه نارا ولهيبا للدفاع عن الحرية وعن الحق؛ بالطبع سيكون لبنان وفلسطين هما ميدانه الأول، ولقرب الصراع في لبنان من سورية، محركة الأحداث آنذاك، فقد أراد أن يستجلي حقيقة النظام السوري وأن يحلله عن قرب، وهو لم يكن ليثق بشعاراته الممانعة ولا بأقواله المناهضة للصهيونية. حمل متاعه إلى مناطق الساحل السوري وراح يستطلع ويبحث في بنية وتركيب النظام، وهذا ما دفعه لكتابة عدة مقالات جريئة سباقة، تعري النظام السوري وتدينه وقد جمعت تلك المقالات بعد رحيله في كتابه المشهور”سورية، الدولة البربري”.


كيف يمكن لعمر أميرلاي أن يحقق فيلمه التسجيلي عن رجل غائب، بعد عشر سنوات على رحيله، حيث في ذلك الوقت كانت جثته ماتزال في مخابئ الخاطفين ولن يتسنى خروجها من لبنان إلى فرنسا إلا في عام 2006.


لن يجد سوى زوجته السوريه ماري معمر باشي، ثم صديقه في الزنزانة جان بول كوفمان وصديقين آخرين. لم يكن ثمة تفاصيل غنية متفرعة تكفي لصناعة فيلم تسجيلي لمناضل وباحث في مقام ميشيل سورا. كانت بين يديه ذكريات وحكايا عن الرجل الراحل. كيف إذن سينقل موقفه الحقيقي، كيف سيعبر عن عوالمه الرمادية الغامضة؟


الفكرة الأساسية التي انطلق منها أميرلاي هي الإدانة، إدانة الجهل والتخلف اللذين وسما الخاطفين، وهما كافيان لمخرج كبير كأميرالاي، بارع في تركيب العوالم وربطها والتعبير عنها. ماذا يريد الفنان أكثر من وجوه هؤلاء وسلوكهم المقيت كيما يقدم فيلما فنيا كبيرا كما هو هذا الفيلم؟! يبدأ الفيلم (بالفرنسية ومترجم الى العربية)* في ساحة في بيروت فيها سريران فارغان، أمامهما نافذة سجن، ويبدو بالقرب منهما شاشة عرض فيها صورة لميشيل سورا، وفي الخلفية تظهر عدة أبنية. المشهد العام هو مشهد ليلي، وقد أجاد المخرج في قتل الإنارة وإظهار المشهد الغائم، المظلل بالهواجس، المشهد الكابي.

يتقدم عمر أميرلاي نحو الشاشة التي تظهر وجه ميشيل سورا قائلا: ميشيل ياصديقي، كيف أصنع عنك اليوم فيلما دون أن يستفز ذلك ذاكرتنا المكلومة، وينكأ فينا جراحا لم تندمل بعد؟ كدت اتخلى عما عزمت عليه لو لم يبلغني خبر ماجرى لأبيك، فقررت المضي حتى النهاية فيما نويت عليه. بعد فترة وجيزة من إعلان موتك رحل والدك. قضى من شدة الأسى عليك. مات وهو لا يعلم ماكنت تفعله في ذلك الشرق البعيد ولا لماذا قتلوك”.

المخرج عمر أميرالاي


الترجمة في الفيلم جميلة تشي بشاعرية الحوار وامتلائه بالنبل والإنسانية الخاليين من البغض والكره، وهما ما يميزان الأعمال الفنية الكبيرة. الفن هو نقيض الكره، هو دين، ورسول سلام ومحبة لكن من دون أن يخفي البشاعة التي تتلبس الجماعات التي يتكلم عنها الفن.


كيف سيُظهر عمر أميرلاي الخاطفين، وكيف سيأتون ومن أين؟
يفتتح مشهد الخاطفين بإطفاء كامل للشاشة، ثم إنارة خفيفة يشاهد في الخلفية منها فتحة على شكل كوة تحمل دلالات عديدة، أقربها هو الجحر الذي يصعد من أعماقه، حبواً، ثمانية مقاتلين يحملون أسلحتهم الرشاشة، يتقدمون نحونا ثم يعتدلون في مشيتهم؛ ويتهيأ للمشاهد في بداية المشهد ان ما يراه هو جرذان تخرج من جحر، حتى يتبين له حين يتم إشباع التفاصيل أنهم جماعات مسلحة في لباس القتال، تتقدم خلسة فاقدة للشجاعة والوضوح. هؤلاء هم الذين سيخطفون ميشيل سورا وصديقه جان بول كوفمان والذي سنسمعه يتحدث بعد قليل عن أيام الخطف، لقد عاش معه ثمانية أشهر في زنزانة واحدة فكان الشاهد الوحيد على الأيام الأخيرة لميشيل سورا.


“تلك الليلة الدموية الطويلة ستبقى كابوسا مزعجا..ثمة جانب فيه لا يمكن إيصاله إلى الآخرين ومن الأفضل أن يبقى هكذا، وحدهم الذين عاشوا هذه المأساة يعرفون تماما ما تعنيه، لذا احتراما للذين قضوا ولميشيل تحديدا ينبغي إبقاء هذا الجزء في الظل، فهذا الأحترام برأيي لا يعني شيئا آخر سوى احترام الحقيقة”بهذه الروح يواجه كوفمان ماجرى له وماجرى لصاحبه. يدين الخطافين بروح متسامحة متفهمة، فهؤلاء غير متعلمين، جاؤوا من الجنوب اللبناني محملين بالجهل ومعجبين بالقوة المتوحشة، كئيبين، يخالط أعماقهم الشك والريبة، مؤمنين بمنظمتهم إيمانا مطلقا، كل ذلك ما دفعهم لأن يكونوا فاقدي الإحساس بالواقع. تنتقل الكاميرا ببراعة بين قضبان نافذة السجن، وبين السريرين، وتنتقل بتمهل وتأمل بحيث تبدو الصورة وكأنها لوحة تشكيلية وليست مجرد صورة تصنعها كاميرا سينمائية. من الواجب للمشاهد أن يتوقف عندها ويتأملها، ويفك رموزها المتعددة. تجول الكاميرا في مكان الخاطفين، ثمانية كراس فارغة حول طاولة خشبية عليها مخلفات علب قد استهلكت، مشروبات كوكاكولا وبيبسي ومنفضة سجائر، خفاف وأواني اقداح شاي على الأرض، ثم تقترب من أحد الكراسي، تقف هناك كي نرى طاولة صغيرة عليها كتاب الله مفتوحا على إحدى السور، وعليه مسبحة، والى جانب الكرسي بندقية رشاش، وإبريق شاي فوق النار ينفث البخار. ربما ترك الخاطفون المكان وذهبوا إلى أداء الصلاة وأخلوا المكان، هذه الصورة تبين مدى طيش هؤلاء، فلا أحد يترك القرآن مفتوحا، ولا تترك بندقية آلية ثم لا يترك إبريق فوق نار. المكان مضطرب وهو أقرب إلى مكان عصابات منه إلى مكان مؤمنين، وسخ تعيث فيه بقايا الطعام والشراب.

أصيب سورا باليرقان أثناء اعتقاله مما دفع زميله في الزنزانة لأن يتهم سجانيه، وأنهم كانوا يدفعونه للموت البطيء. حين كان يسألهم العلاج كان يسمع أجوبتهم التي تقول ‘بسيطة’ ولم تقتله سوى هذه الكلمة الشائعة في الشرق والتي تحمل معاني عديدة تشي باللامبالاة واللامسؤولية تجاه الحياة.


تنتقل الكاميرا من راو إلى آخر كي يروي تجربته مع سورا، وتلك الانتقالات انتقالات فنية بامتياز، لوحات تشكيلية متحركة، مرفقة بالوجدان والشعر، تغذيهما موسيقى خفية مدويّة، حتى أحيانا لا يسمع لها صوت، صامتة، لكنها هناك. لوحات وجودية تصف كمية الطيش والبطش وعدم احترام الحياة. اجواء خانقة ويجب أن تكون هناك مراوح عمودية وجدارية تتماهى مع الصورة والصوت والفقدان، فالصورة وحدها في معظم الأحيان هي التي تتكلم وتشير وتدل.


يظهر الخاطفون مرة أخرى من جحرهم ثم يعودون حاملين سريرا فارغا، ربما هو سرير الرجل الذي مات أو هو نفسه الرجل الذي مات، كي ينتقل المشهد بعد ذلك إلى حلقة شباب يقيمون طقس عاشوراء، إنتقالا دراميا مخيفا يجعلنا نتساءل عن حقيقة حياتنا ومعناها في هذه المعمعة الظالمة التي لم يضعنا أحد فيها سوانا.


سوف لن يكون ذلك بالطبع إلى الأبد، فنحن أمام فنان عالمي كبير، سوري عربي، يشرّح الأزمنة غير المعقولة التي يعيشها إنساننا والذي لا يفعل الكثير ولا يقوم ضدها ولم يرفع صوته في وجهها، – لقد رحل ايضا عمر اميرلاي قبيل اندلاع الثورة السورية، مات اميرالاي و لم ير ربيع سورية يزهر..الربيع الذي حلم به طيلة عمره، فهؤلاء يموتون في العادة قبيل الينوع وقبيل ظهور النبت…. بالطبع موت عمر أميرلاي هو موت ميشيل سورا في الواقع والمجاز ….لكن في النهاية البحر.


صوت البحر،
مياه البحر التي تأتي،
وهي نهاية الفيلم، تأتي أمواجه كي تقتلع النافذة وتهدم الجدران وتقول صوت الحرية. 

Visited 67 times, 1 visit(s) today