فيلم “السرب”… بين الجمالي والدعائي

Print Friendly, PDF & Email

يأتي فيلم “السرب” الذي أخرجه أحمد نادر جلال وقام ببطولته أحمد السقا ونيللي كريم، ويتصدر قائمة الإيرادات في شباك التذاكر هذه الأيام، كامتداد لسلسلة من الأفلام الحربية المتميزة، التي بدأت بفيلم “الطريق إلى إيلات”، وانتهت بفيلم “الممر”، مرورا بفيلم “يوم الكرامة”. وهي أفلام نجحت في تجاوز مرحلة سينما حرب اكتوبر، التي تم إنتاجها في السبعينيات وعابها التسرع والتلفيق وضعف الإنتاج، ما جعلها تأتي، عدا أفلام قليلة، على غير مستوى الحدث.

وفي كل الأحوال، تحمل الأفلام الحربية، بطبيعتها، بعدا دعائيا لأنها تعبّر عن معان وطنية نبيلة وتهدف إلى إبراز جانب البطولة والتضحية التي يتحلى بها الجنود التي تحمي الوطن. لهذه الأسباب تقوم الدولة، غالبا، بإنتاج هذه الأفلام وتقديم الدعم المادي والمعنوي، وكافة التسهيلات الممكنة كي يخرج العمل في أفضل صورة. كما أنها تختار الوقت الذي تراه مناسبا للعرض على الجمهور، خاصة أن الأفلام الحربية الروائية لا تهدف إلى التوثيق بقدر ما تهدف إلى الاحتفاء بالنصر الحقيقي الذي حققته الجيوش في الواقع ونقله إلى دائرة الفن كي يسهم في استنهاض الهمة وبث روح الطمأنينة في الشعوب في أوقات الأزمات والشعور بالوهن والضعف. كما أنها تحمل رسالة تحذير ضمنية لأعداء الوطن وكل من تسول له نفسه العبث بأمن البلاد.

وبهذا المعنى، لا يضع صانعو الأفلام الحربية، إلا فيما ندر، ضمن أولوياتهم، الإعلاء من القيمة الجمالية على حساب الرسالة الدعائية. وأقصى ما يطمح إليه الفنان أو المتلقي الواعي أن يجد توازنا بين الجانبين: الجمالي والدعائي. وفي هذا السياق، يمكننا القول إن النبرة الدعائية كانت هي الأعلى في فيلم “السرب”، وإن كانت هناك لحظات قليلة تحقق فيها هذا التوازن كما في مشاهد استعراض القوات الجوية، وهي للحقيقة، كانت مشاهد موفقة تحقق فيها الإبهار البصري من ناحية ودلالة استعراض القوة العسكرية من ناحية أخرى. يضاف إلى ذلك الموسيقى الحماسية المميزة التي وضعها عمرو اسماعيل.

تدور قصة الفيلم، التي كتبها عمرو عبد الحليم، حول الجهود العسكرية التي بذلتها القوات المسلحة المصرية من أجل محاربة الإرهاب من خلال واقعة مقتل واحد وعشرين مواطنا مصريا، كانوا يعملون في ليبيا، على أيدي تنظيم داعش الإرهابي، وقيام القوات الجوية المصرية بالثأر لأبنائها وتوجيه ضربة جوية لأماكن تجمعهم.

أهم ما يميز الفيلم من الناحية الجمالية هو سرعة الإيقاع التي تعبّر عن سخونة الأحداث وتدفق المشاهد خاصة أن الأحداث كانت تدور في أماكن متعددة. كما أن اعتماد العملية العسكرية موضوع الفيلم على السلاح الجوي منح كاميرا أحمد جلال فرصة جيدة لتحقيق نوع من الجمالية المعتمدة على الفضاء المفتوح، والتحليق بالكاميرا في أجواء صحراوية وبحرية جذابة للعين بالرغم من كارثية الأحداث.

بجانب حركة الكاميرا التي كانت تستعرض العمليات العسكرية بنحو سينمائي مبهر، وضحت الدعائية من خلال الحوار الذي حرص على التأكيد على أنها الضربة الجوية الأولى التي يقوم بها الجيش المصري منذ أربعين عاما، وفي المشاهد التي أوضحت أن الجندي المصري جاهز للتضحية بروحه في أي وقت متى طُلب منه ذلك، فالبعض قطع إجازاته الترفيهية والبعض ترك التزاماته الأسرية الملحّة من أجل تلبية نداء الواجب.

حاول السيناريو أن يقدم نوعا من التوازن بين صورة الإسلام الإرهابية المتطرفة التي يقدمها الدواعش وبين صورة الإسلام المعتدلة المتسامحة التي تحققت في شخص “عم محمد” (عمرو عبد الجليل) الذي كان يأوي المصريين المسيحيين، العاملين في ليبيا. لكن عابه الاستسهال، فلم يحاول أن يقدم تحليلا متعمقا لتنظيم داعش والفكر الذي يحركه، واعتمد، بدلا من ذلك، على الصورة النمطية للإرهابي الذي يرتدي الجلباب ويطلق لحيته، وتحركه غريزة حب النساء. وضح ذلك في شخصية أمير داعش (محمد ممدوح) الذي تزوج امرأة وأحب أخرى، وفي المشهد الذي وقفت فيه زوجته (نيللي كريم ) أمام جمع من النساء تطالبهن بالتسرية عن أفراد التنظيم، تحت ستار الدين، بشكل مفتعل لا يخلو من سذاجة!

تبدت الدعائية أيضا في أداء الممثلين الذين دخلوا الفيلم وكأنهم في مهمة رسمية، باعتبارهم يؤدون دورا وطنيا بالفعل لا مجرد دور فني في فيلم سينمائي، خاصة ضيوف الشرف مثل مصطفى فهمي وشريف منير وآسر ياسين ومحمود عبد المغني.

وفي هذا السياق، لا ننكر إجادة الممثلين لأدوارهم، فقد لعب مصطفى فهمي دور رئيس المخابرات الحربية بثبات واقتدار يتناسب وخبرته الفنية الطويلة، ويذكّرك بشخصية عمر سليمان رئيس المخابرات العامة المصرية الذي تصدر المشهد العام في الأيام الأخيرة من حكم مبارك.

كما نجح شريف منير في أداء دور رئيس غرفة العمليات الذي كان يدير المعارك الجوية ضد الجماعات الإرهابية، وهو أداء يعيد للأذهان الدور الذي لعبه عزت أبو عوف في فيلم “الجزيرة”، قائد العمليات الذي نجح في القضاء على واحد من أكبر أباطرة المخدرات في القطر المصري. كما يعيد للأذهان دور قائد العمليات الأمريكي الذي لعبه برت لانكستر في فيلم “معبر كاساندرا”. وكلها أدوار تحتاج إلى لون من الممثلين يتمتع بكاريزما خاصة حتى يكون مقنعا للمشاهد، بحيث يدير معاركة الانتحارية التي قد يروح ضحيتها نجوم تعلق بها الجمهور، دون أن يفقد هو تعاطف هذا الجمهور معه.

ضعف السيناريو وغلبة الاستسهال، أو قل الاستعجال، أفقد الكثير من الشخصيات عمقها ما انعكس بالسلب على أداء الممثلين، الذي جاء باهتا في أغلبه. وضح ذلك في شخصية العقرب التي لعبها دياب، وهي الذراع اليمنى لأمير داعش، فبالرغم من المساحة الكبيرة للدور إلا أن المشاهد لم يستطع أن يفهم شيئا عن عالمها الداخلي، كيف تفكر وكيف تطورت بحيث وصلت إلى هذه المكانة الخطرة في التنظيم.

والشيء نفسه يمكن أن يقال عن الأدوار النسائية، نيللي كريم وصبا مبارك، فلم نشاهد سوى صراع نسائي بين امرأتين حول أمير الجماعة، تحركه الغيرة من ناحية والرغبة في الانتقام من ناحية أخرى، وهي دوافع لا تضيف كثيرا لصراع أكبر تحركه الإيديولوجيا.

ربما كانت شخصية أمير داعش التي لعبها محمد ممدوح هي الاستثناء الوحيد في هذا السياق، فهو الشخصية الأقوى والأكثر تعقيدا، وقد حاول ممدوح أن يضيف إليها شيئا من العمق، لكن السيناريو لم يسعفه، ما جعل الشخصية لا تخلو من سطحية ومن ضعف، لأن المنطق الذي كان يحركها كان متهافتا، وهو منطق بلغ من الضعف ما من شأنه أن يفرغ القضية الأساسية للفيلم من مضمونها.

ندرك ذلك من الحوار المباشر الذي أوقع الشخصيات في خطأ فادح أضعف كثيرا من عناصر الصراع الدرامي للفيلم، وربما أضعف من معني الصراع الدائر على الحقيقة بين تنظيم داعش وقوات الأمن. حدث ذلك عندما جعل الشخصيات لا تؤمن بقضيتها، وعمد إلى تصويرها باعتبارها مجرد أشخاص تتاجر بالدين، وهي مسألة، في التحليل العميق، أقل خطرا من شخصيات تتصرف بدافع من عقيدة أو قضية تؤمن بها، حتى لو كانت على باطل. والمتاجرة بالدين شأن فردي، يمكن أن نلقاه في حياتنا اليومية، كالذي يتاجر بالأخلاق أو السياسة.

والمسألة تأتي على مستوى الشخصيات الرئيسية في التنظيم، الأمير وزوجته، فالحوارات التي بينهما تكشف عن عدم قناعة الزوجة بما يقوم به الأمير، ليس هذا فحسب، لكنها تعبّر عن موقفها بعبارات تهكمية، ما يعني أن الأمر برمته مجرد خدعة كبري أو قل عملية نصب! وهو الموقف نفسه الذي اتخذه الأمير في لقاء الحسم مع الضابط علي المصري (أحمد السقا) عندما علق بتهكم على استخدام الضابط لأيات قرآنية في كلامه، فقال له: ” أنت بتبيع لي تجارتي؟!”.

لعب أحمد السقا دور الضابط علي المصري، الذي نجح في اختراق تنظيم داعش وتحديد أماكنهم حتي يسهل على القوات الجوية ضرب مواقعهم. ومن خلال هذه الشخصية قدم السقا دورا نمطيا يعد تكرارا للكثير من أدواره السابقة التي اعتمد فيها على الحركة، عدا أن الدور هذه المرة يأتي في سياق فيلم حربي.

ويبقى أداء السقا، في العموم، مثيرا للجدل، خاصة بعد تصريح الناقد السينمائي طارق الشناوي الذي أطلقه بعد عرض مسلسل “العتاولة” في رمضان الماضي، ووصف أداء السقا بالكسول. والمسألة في نظرنا أن السقا دخل عالم السينما من باب اللياقة البدنية لا اللياقة الفنية، وبهذه اللياقة نجح في أن يكون نجما لأفلام الحركة في السينما العربية، لكن بمرور الزمن، وبحكم السن فقد السقا هذه اللياقة، فلم يعد قادرا على تحقيق نفس النجاح. وسيظل السقا عاجزا عن إضافة أي جديد في أعماله القادمة ما لم يعيد النظر في اختياراته الفنية، ويعمل على تنمية لياقته الداخلية والنفسية بحيث تأتي الحركة في خدمة المعني والدلالة بدلا من أن تكون موضوعا للإدراك الحسي فحسب. ويعتبر مسلسل “جولة أخيرة”، الذي قام ببطولته أحمد السقا، وعرض مؤخرا على منصة برايم فيديو، خطوة موفقة على هذا الطريق.

لم يزل الأداء الهزلي الذي قدمه إسماعيل ياسين في أفلامه الحربية مهيمنا على الأفلام الحديثة، فشاهدناه في أداء سعيد صالح في “الرصاصة لا تزال في جيبي” وفي أداء أحمد رزق في “الممر” ونشاهده الآن في أداء محمد فراج وأحمد حاتم في “السرب”. وهي آفة ينبغي أن تتخلص منها أفلامنا الحربية لأنها لا تتناسب وجلال الحدث، خاصة أننا لا نجد هذا التقليد الكوميدي في الأفلام العالمية. وهي أيضا تتعارض والنزعة الدعائية التي تحملها هذه الأفلام، فتفقدها كثيرا من المصداقية التي تسعى إلى الترويج لها.

وأخيرا، يمكننا القول إن فيلم “السرب” ربما يكون قد نجح في تقديم بطولة سينمائية يحتشد لها الجمهور، ويصفق لها في النهاية، لكنه لن يضيف كثيرا على مستوى الوعي، لأن رجل الشارع مازال يخلط بين داعش والإخوان ورجل الدين المتشدد!

Visited 1 times, 1 visit(s) today