عن كتاب أمير العمري “عالم سينما المؤلف”
محمود عبد الشكور
يقدم هذا الكتاب لقارئه سياحة ممتعة في أفلام وأساليب وأفكار 40 من أشهر المخرجين منطلقا من فكرة الفيلم الفني، الذي ينسب الى مخرجه، والذي لا يقلد السائد والمألوف، وجامعا بين أسماء كثيرة من مختلف الأجيال، ومنحازا لحرية المبدع في تقديم أعماله بحرية، بعيدا عن سيطرة منتجي السينما السائدة، أو عن تدخل الحكومات الشمولية والقمعية.
الكتاب بعنوان “عالم سينما المؤلف” للناقد أمير العمري، وقد صدر عن دار بتانة، وتتجاور على صفحاته أسماء مخرجين كبار صنعوا السينما المعاصرة، من برجمان وروي أندرسون السويديين، الى برتولوتشي وفيسكونتي وسورنتينو الإيطاليين، ومن روبرت ألتمان ووودي ألان وتيرنس ماليك الأمريكيين الى الصيني جانج ييمو والدانمركي لارس فون تريير والألماني فريتز هرتزوج وسيرجي بارادجانوف الأرمني وآكي كوريسماك الفنلندي.
جدارية ضخمة للسينما الجميلة والمختلفة، وعالم هائل من الأفكار والأساليب وطرق التعبير والأسئلة والتأملات، يعيشها القاريء مستمتعا ما بين تمرد وجرأة ييري منزل ودوسان ماكافييف، ونظرة إرمانو أولمي المطمئنة بالإيمان، بين خيال تييري جيليام وبيتر جريناواي المحلّق، وبراعة فيسكونتي العظيم في التحليل، وتقديم اللحظات الفارقة بين غروب عصر وزمن، وظهور عصر جديد.
تبدو سينما المؤلف كما قدمها أمير العمري مستودعا مدهشا لأفضل ما قدمته السينما للإنسان وعن الإنسان، كما أن هؤلاء المخرجين، وغيرهم بالتأكيد، ساهموا في تطوير الوسيط السينمائي كأداة تعبير، وبعد مقدمة هامة عن فكرة “الكاميرا/ القلم”، التي طرحها الناقد والمخرج ألكسندر أستروك في مقاله الشهير في مجلة “الشاشة الفرنسية” عام 1948، وعن فكرة الناقد أندريه بازان، بأن الفيلم يجب أن ينسب الى مخرجه، أخذت نظرية سينما المؤلف انتشارها على يد منظري ومخرجي الموجة الجديدة الفرنسية، وتغير بعدها شكل السينما، دون أن ينفي ذلك وجود مخرجين كبار عملوا في إطار النوع مثل ألفريد هيتشكوك، ولم يكتبوا أفلامهم، بل وقدموا أفلامهم من خلال استديوهات كبرى، ولكنهم كانوا نماذج استثنائية في وضع بصمتهم الخاصة على كل فيلم، ويمكن أن تكتشف من خلال أفلامهم، نظرة متماسكة للعالم، وللحياة، وللذات أيضا، ويمكن أيضا أن نتحدث عن “أسلوب ما واضح المعالم”، فكأن الفيلم مثل لوحة مرسومة تحمل توقيعهم، يدل الفيلم على صانعه، مثلما تدل اللوحة على مبدعها وأسلوبه الخاص.
هي إذن ليست نظرية شكلية بحتة، أو تتعلق فقط بمضمون الأفلام وأفكارها، ولكنها نظرية أعادت اكتشاف فن الفيلم من جديد، وفتحت أبواب قدرته الهائلة على التعبير الفردي والجماعي في نفس الوقت، ولكن في إطار رؤية واحدة ومتماسكة، كما أن هذه النظرية، قد أنقذت الكثير من المواهب العظيمة الإستثنائية، من سينما سائدة حافلة بالتقليد والكليشيهات، وأعتقد أيضا أنها منحت سينما النوع مواهب كبرى، ساهمت في تطوير النوع نفسه، لقد صارت السينما بذلك شهادة الفنان على عصره وعالمه، قبل أي شيء آخر.
أجمل ما يثيره الكتاب، وقد قدم مؤلفه فيه دراسات ممتازة لأعمال هؤلاء المخرجين مستخدما منهج التتبع التاريخي لبذور الأفكار والأساليب، ومتوقفا عند الأفضل والأهم في مسيرة كل مخرج، أنه يصحح أفكارا كثيرة مغلوطة حول “سينما المؤلف المعاصرة”، فليس صحيحا مثلا أن كل من كتب فيلمه، صار مخرجا مؤلفا، وليس صحيحا أيضا، كما يصر البعض، أن من لا يكتب فيلمه، لا يصبح صاحب بصمة وأسلوب، وليس صحيحا أن الأفكار والأساليب تولد فجأة، ومرة واحدة، ولكنها تتشكل على مهل، وكأن كل مخرج يكتشف نفسه والعالم وأفكاره ومزاجه من خلال صنع الأفلام، ومن خلال عمق تجربته وثقافته، ونضج قدرته على إدارة ممثليه، وتوظيف وتطويع أدواته، لتصبح الكاميرا مثل قلم الشاعر، وتصبح العدسة مثل فرشة الرسام.
فكرت طويلا بعد قراءة الكتاب الممتع أن ما يجمع كل هؤلاء المخرجين، الذين تختلف نظرتهم للموت والحياة والعالم تفاؤلا وتشاؤما، هو هذا الجهد الضخم في العمل على مشروعاتهم، وفي أنهم ثمار موهبة كبيرة، ولكنهم أيضا ثمرة ثقافة رفيعة، ساهمت في تشكيل عالمهم، فلا يمكن مثلا تجاهل أثر المسرح على أعمال برجمان، وهو كاتب دراما فذ قبل أن يكون مخرجا كبيرا، ولا يمكن تجاهل أثر الأوبرا على أعمال فيسكونتي، ولا أثر الفلسفة، بل وتأثير فلاسفة بعينهم، على أفلام تيرنس ماليك، ولا أثر الفن التشكيلي والثقافة الشعبية على أعمال بارادجانوف، ولا أثر حياة برايان دي بالما على تكرار استخدام التلصص في أفلامه، فقد كان هو أيضا متلصصا على والده!
لا يوجد شيء اسمه سينما معلقة في الفراغ، فهي ثمرة تفاعل عبقرية فنان، مع ظروف زمنه ومجتمعه، وظروف الإنتاج أيضا، نعيش مثلا محنة سجن بارادجانوف، ومغامرات هيرتزوج العجيبة في صناعة فيلمه الضخم والشهير ”فيتزجيرالدو”، ومحاولات جارموش لصناعة سينما مختلفة، وتحدي ألتمان وسخريته من سيطرة المنتجين.
نتأمل تجربة ميلوش فورمان وهو يقدم أفلاما هامة في تشيكوسوفاكيا قبل هجرته الى أمريكا، رغم المنع والضغوط، وتجربة كونتين تارنتينو الذي يلم يدرس السينما، والذي كان ابن مجتمعه، مثلما هو ابن الأفلام التي كان يشاهدها في نادي الفيديو، ولكنه أيضا ابن موهبته، التي جعلته يصنع أفلاما ذاتية من الأفلام والأنواع.
في تحليل الأفلام، لا ينسى أمير العمري هذا المزيج، بين موهبة المخرج، وبين حياته وبيئته وثقافته وآراؤه العامة والخاصة، وفي كثير من الأحيان تبدو إحدي شخصيات الفيلم كما لو كانت تعبيرا عن شخصية المخرج نفسه، كما في الكثير من أعمال وودي آلان.
هو إذن مزيج صعب وخاص، لا يجب أن يؤخذ بخفة أو استخفاف، وحتى في إطار سينما المؤلف، فقد تجاوز الزمن أسماء كثيرة، ظنت أن كتابة عبارة “فيلم لفلان الفلاني” يعني الأصالة والبقاء، فلم يرسخ إلا الأفضل، والأكثر قدرة على التعبير عن أفكار صانعه، بطريقة خلاقة ومبدعة.
هذا كتاب هام لكل عشاق السينما، لأنه يقدم لهم معلومات قيمة عن مخرجين وأفلام ممتازة، ولأنه يحرضهم فعلا عن البحث عن هذه الأفلام، وأزعم أن عمل قوائم للمشاهدة من الأفلام التي ذكرها وحللها أمير العمري، يمكن أن يصنع من المشاهد العابر، متذوقا سينمائيا، لديه القدرة على الفرز والإكتشاف، مستعينا بما كتب عن كل مخرج وأفلامه، ومفاتيح قراءة الأفكار والأساليب المختلفة.
ولكني أراه أيضا كتابا هاما جدا لمن يريد أن يصنع أفلاما، لأنه يرد الإعتبار للمواهب الإستثنائية، دون إغفال السياق ولا الإمكانيات، ليست المسألة سهلة، ولكنها نتاج تكوين طويل وشاق، والفيلم العظيم ليس مجرد رؤية فردية فحسب، ولكنه أيضا نتاج قدرة المخرج على الإستفادة من المواهب الكبرى في عناصر الفيلم، فلا يمكن الحديث عن ميلوش فورمان مثلا دون الحديث عن ميروسلاف أوندريتشيك، مصوره العظيم، ولا يمكن الحديث عن إنجمار برجمان دون الحديث عن مصوره العظيم سفين نكفيست.
معركة الفنان الأساسية إذن مع نفسه، مع أفكاره، ومع أدواته، دون أن ننفي معارك أخرى مع الرقابة، ومع المنتجين، ومع الإمكانيات المتاحة، ولكن كل ذلك لا قيمة له بدون رؤية، الإخراج رؤية حياتية وفنية معا، وليس مجرد مهارة تقنية، وهو أيضا اكتشاف مستمر لإمكانات الفيلم، ولإمكانيات الوسيط السينمائي.
وفي النهاية، تبقى الفكرة المحورية التي تطاردك بعد الإنتهاء من قراءة هذه الكتابات الجادة والمعتبرة عن الأفلام: الفن في الفنان، وليس في المادة التي يصنع منها فنه، ومثلما يضع العالم بصمته على الفنان، فإن الفنان يعيد تشكيل العالم من زاوية رؤيته الخاصة، ليبقى الفن وشرطه الأهم: الرؤية الذاتية الخلاّقة، مهما كان الموضوع مشاعا، ومهما كانت القضية عامة.