عن «الإرهاب والكباب» و«البنفسج».. وأشياء أخرى!

لقطة من فيلم "الإرهاب والكباب" لقطة من فيلم "الإرهاب والكباب"
Print Friendly, PDF & Email

أود هنا تناول نموذجين من نماذج الانتاج السائد في السينما المصرية، بهدف تسليط الضوء على بعض المفاهيم السائدة في العملية النقدية والتي تحد كثيرا من دور النقد من ناحية، ومن تقويم السينما العربية من ناحية أخرى، وهي مفاهيم تتراكم عبر سنوات، دون محاولة حقيقية للتوقف أمامها من حين الى آخر، وطرح التساولات الموضوعية حول مشروعيتها.

لقد كتب الكثير عن فيلمي «الارهاب والكباب» لشريف عرفة، و«ليه يا بنفسج» لرضوان الكاشف (كلاهما من عام 1992). فقد اعتبرهما نقاد كثيرون من أكثر الأفلام السينما المصرية «جرأة» و«واقعية» و«نجاحا شعبيا مع الحفاظ على المستوى الفني» في السنوات الأخيرة. وهي كلها كلمات عمومية، هاجسها الأساسي ما اصطلح على تسميته بـ «آلام الجماهير» و«معاناة الفقراء» الى آخر ما تضمنه قاموس النقد الأيديولوجي طوال أربعين عاما.

الفيلمان من ناحية التصنيف (حسب النظام الامريكي لتصنيف الأفلام) ينتميان للنوع الكوميدي، غير أن كلا منهما، يستخدم الكوميديا لقول أشياء ذات علاقة بالواقع السياسي والاجتماعي في مصر التسعينات. وهذا في حد ذاته، لا يعد ميزة ولا عيبا، فمن الطبيعي أن فيلما يصدر في مصر التسعينات لا بد أن يحمل بعض همومها وملامح مأساتها الاجتماعية طالما أنه يصدر أساسا عن أناس يعيشون هذا الواقع ويطمحون للتعامل معه من خلال المهنة التي يشتغلون بها.. أي السينما.

غير ان نظرة أعمق من تلك التي تكتفي عادة برصد الحالة من فوق السطح، ستدفعنا دون شك، الى اكتشاف آليات ومكونات هذين العملين، بما يساعد على تحديد قيمة كل منهما من الناحية الفنية في سياق السينما التي تنتج في مصر، كما في سياق ما وصلت اليه السينما في العالم اليوم. هذا التحديد ـ رغم صعوبته ـ يجب أن يتجاوز الطابع العمومي الذي يكتفي عادة بالتعامل مع السينما ـ وهي حدث ابداعي ـ كظاهرة اجتماعية فقط، سواء اتفاقا أم اختلافا، ايجابا أم سلبا. ففي الاكتفاء بهذا يكمن مفهوم شديد الخطورة، هو إحالة كل الأعمال التي تنتمي الى الظاهرة الابداعية (حتى لو لم تكن متينة البنيان تماما) الى علم الاجتماع وحده، الأمر الذي ينتهي ـ كما هو حادث بالفعل ـ الى تقلص النظرة النقدية العلمية، والى تكرار ظهور نفس الأنماط والقوالب الفنية باستمرار، تارة بدعوى «الحاجة الاجتماعية» وتارة أخرى، بدعوى الاستجابة لمتطلبات «الفرجة الشعبية».

عادل إمام وأحمد راتب في “الإرهاب والكباب”

والحقيقة ان هناك اختلافا أوليا بين هذين الفيلمين، فالأول «الإرهاب والكباب» ينتمي ـ قلبا وقالبا ـ الى التيار العريض المترامي والمتواصل لسينما دغدغة الحواس والضرب على الأوتار الحساسة لدى الجمهور، وتضخيم الحدث الفردي وجعله بمثابة حالة مجتمعية (نسبة الى المجتمع كله). وفي اطار كهذا تكثر الادعاءات حول «النقد الجريء والقاسي لمجتمع الظلم والفوارق الطبقية». وفي نفس الاطار أيضا، يتحول «المجموع» الذي يبدي صناع هذا النوع من الأفلام – عادة، غرامهم العنيف به، الى قطيع يردد أشياء فارغة لا يفهمها ولا نفهمها نحن المشاهدين، غير أننا بالطبع لا ننكر ما يمكن ان تفجره لدينا من ضحكات.

أما الفيلم الثاني «ليه.. يا بنفسج» فلعله خير دليل على الأزمة الجمالية (في المضمون والشكل) التي تعيشها السينما المصرية بفعل عوامل وظروف عديدة فرضت ولا تزال تفرض عليها الدوران حول نفسها. إنه فيلم ينتمي لمحاولات البحث الدائم عن «معادلة» بين السهولة والصعوبة، الوضوح والعمق، الجمهور العام والنخبة المثقفة، التجارة والفن. وباختصار ـ ينتمي فيلم «البنفسج» الى «حالة» فكرية متأرجحة بين سينما عتيقة عفا عليها الدهر، وسينما تتطلع على استحياء شديد نحو الحداثة.

والآن.. لنتوقف عند كل فيلم على حدة لنرى كيف يمكن فهم الحالتين المختلفتين لصانعيه:

الارهاب والكبت

سوف يظل تغليب «الخطاب الايديولوجي» في النقد والفن والابداع بوجه عام في مصر والعالم العربي خلال الثلاثين عاما الماضية، يتحمل مسؤولية مباشرة عما آل اليه حال السينما المصرية. فالولع بالرسالة السياسية المباشرة ـ كمضمون مبسط  في العمل الفني، عندما  كانت تسود أفلام ـ اصطلح خطأ على تسميتها بـ «التقدمية» أدى فيما بعد الى رواج نفس المفهوم واستخدامه على نطاق واسع في أفلام أخرى لم يكن ممكنا أن توصف سوى بـ «الرجعية الشديدة» بعد تغير الظرف السياسي من جانب نفس أصحاب الاقلام الذين روجوا لهذا الشكل التبسيطي طويلا.

كمال الشناوي في دور وزير الداخلية الذي يستجيب للأهالي

كان فيلم مثل «احنا بتوع الأتوبيس» (1977) لحسين كمال، يستخدم ببساطة نفس الطريقة الشائعة والمتهالكة للكوميديا المتدنية من نوع «فارس» لتمرير «رسالة» تحمل الكثير من السخرية من دعاة الخطاب الايديولوجي (التقدمي) في العهد الناصري وباستخدام نفس الشكل الذي احتضنوه وشجعوه واعتبروه دلالة على «الجرأة» في الطرح، وهو نفس الأسلوب المستخدم حاليا ـ ولو على صعيد الدراما الجادة (أو التراجيديا) وليس الكوميديا ـ في مسلسلات واسعة الانتشار مثل «ليالي الحلمية» و«رأفت الهجان» وغيرهما.

فالأقدار هنا تتلاعب بمصائر الأفراد. والفرد الذي هو ضمير الجماعة (أو الأمة) وهو الذي يتصدى وحده أو بمساعدة حفنة من المؤمنين (أيديولوجيا) بأفكاره، لسلطة غاشمة مستندا على إرث الماضي (من الشعارات). وهكذا يتم تبسيط كل شيء: فهناك أجيال ترث أجيالا (وما هو الفريد في هذا؟) وهناك أشرار وأخيار، وأخيار ينحرفون تحت وطأة الضغط أو الطمع أو الشهوة (الشهوة الجنسية أو شهوة السلطةـ لا فرق) فيصبحون أشرارا، والمجموع حائر وعاجز لأنه ينتظر البطل المخلّص الذي يفتح عيونهم على ما في التاريخ من دروس ومناطق مضيئة. والتاريخ نفسه، يُعرض علينا كما لو كنا نطالع كتابا بدائيا في «التربية الوطنية» يستدعي من دواخلنا الحماس، ويستدر دموعنا حسرة حينا، أو تقبضات عضلات وجوهنا وأيدينا رغبة في الثأر، حينا آخر. وينتهي الأمر عادة ببسمة الأمل المصطنع، مزروعة فوق شفاهنا.. من خلال شخصية صغيرة ترمز لاستمرار القدرة على الحلم والأمل، فهذا هو هدف “الفن النبيل” كما يزعمون!

«الارهاب والكباب» يجمع ثلاثيا سبق أن عرف النجاح الشعبي من قبل مع فيلم «اللعب مع الكبار». هذا الثلاثي يتكون من كاتب السيناريو وحيد حامد، والمخرج شريف عرفة، والممثل عادل امام.

عادل إمام مع أحمد عقل في لقطة من “الإرهاب والكباب”

على صعيد الدراما، يلعب الفيلم على الثنائيات القديمة الشائعة، والمستهلكة، بعد أن يضيف اليها وحيد حامد بوعيه المستمد من قوالب السينما الشائعة في الغرب والشرق، بعض التوابل و«الكليشيهات» والمواقف التي قد تبهر البعض من على السطح بما فيها من خيال، غير أن طريقة صياغتها معا، سرعان ما تنتزع منها أي أثر لخيال جميل، فتتحول الى القبح كأبشع ما يكون. هذه الثنائيات أو التقابلات نستطيع رصدها هنا على النحو التالي:

 السلطة والجماهير، الفرد والمؤسسة، الحرمان والشبع، الحب والخيبة، الخير والاجرام، الغريزة الجنسية وغريزة الأكل، وفي النهاية، باختصار، الإرهاب والكباب.

في أهم مشاهد الفيلم، عندما يحدث الاندماج (العاطفي) الكامل بين البطل ورهائنه من الأهالي والعاملين بمجمع التحريرـ المبنى الضخم الذي يضم عدة إدارات حكومية في القاهرة كمرادف للسلطات الرسميةـ يهتف الجميع بمطلبهم الى وزير الداخلية الذي ينتظر في الخارج مع رجاله من الشرطيين المسلحين «الكباب.. الكباب.. ولا نخلي عيشتكو هباب»!

قد يثير هذا الهتاف العجيب الضحك، ولا شك انه يفعل، لكن على مستوى آخر فانه يكشف مقدار استخفاف صانعي هذا الفيلم حتى بالموضوع الذي اختاروه لفيلمهم. فالجماهير التي تبدو كقطيع منهك القوى، يسير طوال الوقت في دوائر مغلقة، تلتصق أجساد بعضهم البعض في ممرات وعلى سلالم مبنى المجمع، ينتهون – بعد ساعة أو أكثر من استعراض معاناة نماذج منهم، الى طلب «الكباب» مقابل التوقف عن الشغب، والكف عن تحدي الحكومة. والمطلب بسيط بالطبع.. لا يوازي أبدا كل ما أجهد صناع الفيلم أنفسهم فيه. فوزير الداخلية المرح، اللطيف، الإنساني النزعة، يأمر رجاله بإحضار كمية هائلة من الكباب، يلتهمها افراد «القطيع» وسرعان ما ينسون ما دفعهم من الأصل الى التمرد. يحاول بطلهم عبثا أن يدفعهم الى التصريح بما يريدون رؤيته من تغيير.. لكنهم عاجزون تماما عن العثور على شيء «جاد» يريدونه.. فكلها مجموعة من المطالب الفردية التافهة الشأن..

ولم يكن هدف الفيلم بالتأكيد «الكشف» عن آليات القهر، لا على المستوى الفردي ولا على المستوى الجمعي، بقدر ما كان هدفهم «السخرية» في أكثر اشكالها مباشرة وانعداما للخيال، من تلك النماذج الكاريكاتورية التي «أبدعتها» قريحة مؤلفه: شاب بدين للغاية يكتب خطابا لأمه بعد أن قرر الانتحار بسبب زواجه من امرأة (قريبة له) لا يحبها.. نعرف انها أكثر بدانة منه. ولا أدري لماذا الاصرار على اعتبار البدانة أو غيرها من المظاهر الخارجية للإنسان، مصدرا للسخرية والضحك، تماما كما لا أفهم السخرية من شخص أسود اللون (سوداني الجنسية) في الفيلم يردد طوال الوقت كلمات توحي بتعاليه على المحيطين به، حيث يبدو متأثرا الى حد الهاجس المرضي بنمط المجتمع الغربي، كما لو أن صناع الفيلم يسعون ايضا الى تغذية بعض النزعات العنصرية الكامنة.

وهناك أيضا ذلك الأصولي الذي لا يكف لحظة عن الصلاة داخل المصلحة الحكومية التي يعمل فيها، لا يبالي بمصالح الناس الذين يترددون لقضاء حاجة لديهم.. ومنهم بالطبع بطلنا (عادل امام).

هذا النموذج يتخذه صناع الفيلم دلالة على جرأتهم في تناول موضوع الأصولية (دون الإرهاب بالطبع) بينما الحقيقة أن الأمر لا يعدو مظهرا سطحيا بالغ الكاريكاتيرية والسخف، لنموذج ربما كان له أساس في الواقع، غير أن ملامحه الانسانية تتجمد تماما في الفيلم.

وهناك «الصعيدي» المحكوم في قضية ثأر والهارب من السجن في بلده، للعمل كماسح للأحذية في «المجمع» الذي أراده المؤلف بالطبع معادلا للمجتمع بشتى فئاته وأفراده.

وهناك تلميحات ساخرة من جامعة الدول العربية ومن وزارة الخارجية (التي يجعل منها الفيلم أماكن لتردد المدللين لقضاء حاجاتهم في دورات المياه الراقية عوضا عن الدورات البالية في المجمع!). وتلميحات أخرى ساخرة من ربات البيوت والنساء بوجه عام: زوجة البطل الفظة الغليظة التي ترقد بعد أن تغطي جسدها بعشرات الأغطية الثقيلة، تصرخ في وجهه مثل مخلوق فرانكشتاين البشع في الوقت الذي يريد هو مداعبتها ليلة الخميس/ الجمعة!

يسرا في دور فتاة الليل

وهناك الموظفة التي تحضر معها الى مكان العمل الخضروات لإعدادها، وتمسك بسماعة الهاتف تتجادل مع صديقاتها في أمور تافهة طوال اليوم. وهناك أخيرا نموذج «يسرا» ـ وهو نموذج لم تكن هناك حاجة اليه في السياق ـ سوى لتقديم وجه جميل وجسد فارع في ثياب امرأة العلب الليلية المتهمة باحتراف الدعارة ظلما.. بينما تكتفي هي بتسلية الزبائن فقط اثناء الشراب!

دقات طبول وموسيقى صاخبة، ولقطات متنوعة الزوايا لقطاع من ميدان التحرير الشهير في قلب القاهرة، وقد تحول الى ساحة احتشد فيها ضباط وجنود الشرطة يتقدمهم وزير الداخلية نفسه (كمال الشناوي) ولقطات أخرى للألعاب المضحكة المتبادلة بين زعيم الحشد (عادل امام) ورجاله من ناحية، ورجال الأمن المركزي الذين لا يكفون عن استعراض مهاراتهم البدنية والحربية من ناحية اخرى، فيما يشبه الدعاية المجانية.

وهناك في نهاية «اللعبة»، لقطة الأمل المصطنع والمصنوع عندما يخرج أفراد المجموعة المتمردة وسط جموع العاملين وبينهم بطلنا، كتلة واحدة لا يستطيع رجال السلطة بالطبع التصدي لها باطلاق النار والا لوقعت مذبحة، وهي لقطة تريد ترجمة مفهوم «الارادة الجماهيرية» بينما الحقيقة انها تعفي الشرطة من العنف وتضفي عليها مسحة انسانية.

هذا فيلم يدور الحديث حول «جرأته» لأنه يقتحم المناطق الثلاث الجريئة: الدين والسياسة والجنس، لكنه لا يتجاوز في استخدامها جميعا دغدغة حواس المشاهدين وتضليل رؤيتهم لمغزى ومفاهيم كل منها. فالدين بمفهومه الأصولي المتزمت، لا نفهم عنه شيئا سوى أنه نوع من «النفاق الاجتماعي».. فالرجل الأصولي في الفيلم شهواني أكثر من العلمانيين، يشتهي المرأة الحسناء (يسرا) والطعام (الكباب) لكنه جبان في مواجهة السلطة، يعجز عن فهم مطالب الآخرين الذين أعلنوا تمردهم. غير أن الفيلم يعقد بينه وبينهم في النهاية، مصالحة مصنوعة ومفتعلة، عندما يجعله الأكثر قدرة على فهم معاناة الآخرين، عندما يتحد في مواجهة الشرطة عند مغادرة المبنى.

أما الجنس فهو يتلخص في التالي: نظرتان من عيني فاتنة، ولباس قصير يكشف عن ساقي المرأة، ورغبة واضحة في عيني البطل (عادل امام) تشي بضعفه وكبته، واستعراض هزلي لشاب متهتك يتحرك ويتكلم كامرأة.. إشارة الى شذوذه في مشهد شديد الابتذال يدور في دورة المياه.

وتتلخص السياسة في كون الناس (القطيع) عاجزين عن التفكير في مطالب حقىقية، والسلطة الحائرة بسبب خشيتها من استخدام العنف.. والوزراء مجموعة من البلهاء (أو الظرفاء!) الذين لا يفقهون شيئا في أي شي. والخلاصة: يضحك الجمهور، ويهزأ من نفسه. وينفس عن شحنة كبيرة من الكبت بكافة مستوياته، ثم يغادر دار العرض أكثر جهلا بالارهاب.. أكثر تفكيرا في الكباب!

هذا النوع من الأفلام التي يتكرر ظهورها هي أفلام تكرس السائد ـ دراميا وفنيا ـ وتتعامل مع السينما، تعاملها مع نوع من أدوات التهريج الرخيص، تهزأ من الفكر والفن معا.. وتؤكد أن المسألة ليست سوى «لعبة» لاثارة الضحك، يصبح فيها كل شيء مشروعا.

ليه… يا بنفسج

أما رضوان الكاشف ـ الذي يحمل في قرارة نفسه رغبة حقيقية في تقديم «المختلف»ـ فهو لكونه محاصرا مع آخرين من أبناء جيله، بسينما الثرثرة والاستطراد والتهريج، أراد أن يحدث تطويرا في نفس السياق، فلجأ الى عدة مداخل:

الغاء «الحبكة» بالمفهوم الشائع.. فرغم وحدة الزمان والمكان والموضوع، ليست هناك شخصيات شريرة وشخصيات خيرة، وليس هناك تصاعدا هرميا باتجاه ذروة شيطانية، وعقدة تحل بعدها كل المشاكل دفعة واحدة.

هو يستخدم شخصيات من البيئة الشعبية، تحلم أحلامها الصغيرة التي تدرك باستمرار عجزها عن تحقيقها في اطار واقع يسحب من تحتها يوما بعد يوم، ما تبقى لها من أرضية، حتى لو لم تتجاوز تلك الأرضية «عربة يد» بسيطة لبيع الحلوى. غير أن هذه الشخصيات برغم هذا، تظل باستمرار، راغبة في  التماسك والبقاء.

لكن، لأن «ليه… يا بنفسج» يصدر في اطار السينما السائدة، فان مخرجه يلجأ الى أقصى الأشكال «الكاريكاتيرية» تطرفا، لكي يحصل على التفاعل من جانب المشاهدين: شخصيات ترقص وتغني وتتصارع وتحب وتحلم وتعاني من الكبت الاجتماعي والجنسي، لكنها أساسا، تقدم لنا عرضا من عروض الفرجة النمطية: الضرير الذي لا يزال يحلم بأن يصبح مطربا مشهورا مثل عبد الحليم حافظ، ويحلم كذلك بعودة زوجته التي طلقته منذ زمن، رغم انها أصبحت الآن متزوجة من غيره وعلى وشك الانجاب ايضا.

فاروق الفيشاوي وبثينة رشوان ونادية شمس الدين في “ليه يابنفسج”

الفتاة التي تحب لكن حبيبها الذي لا ينتبه لها لأنه واقع في غرام فتاة أخرى (راقصة) هي بمثابة الحلم المستحيل بالنسبة له، فهي ـ باختصار ـ لا تشعر بوجوده في العالم.

الشاب الذي يريد أن يتزوج من الفتاة التي يحبها، لكنها تحب صديقه بدلا منه. والثالث الذي يصر على الزواج من المرأة التي تحب نفس صديقه ايضا.

علاقات «المرأة ـ الرجل»، «الجنس ـ المال» تحلق فوق سيناريو سامي السيوي، فتوقعه في النمطية التقليدية رغم محاولات المخرج ـ على مستوى الصورة ـ اضفاء طابع جمالي مستمد من البيئة الشعبية واختياره الدقيق لمواقع التصوير وزواياه.

غناء ورقص وموسيقى ومشاجرات وصياح وسجن وبحث عن مستقبل افضل وسط احباط عام.

الاخوة الثلاثة الفيشاوي ونجاح الموجي وأشرف عبد الباقي

مجموعة من الافكار الأدبية المتأثرة بالتأكيد ـ بكتابات يحيى الطاهر عبد الله ـ غير أن ما ينقصها هو الرؤية التي تتجاوز السطح الى الجوهر، والأنماط السطحية التي نرصدها حولنا في الواقع، الى عمق المشاعر وتعقيدات الذات. والمحصلة، ان ما بدأ بداية قوية لموضوع جديد، سرعان ما يسقط في الميلودرامية والعاطفية المثيرة حتما لانفعالات المشاهدين، لكنها العاطفية التي تقضي على ما في الموضوع من نقاط قوة وتحصره في محاولة للالتفاف حول الشخصيات دون الاقتراب منها أبدا، والحديث عن الواقع في الحارة الشعبية، دون الاجتراء على اختراق جدران الحارة الى العالم الفسيح خارجها..  والمقصود بالعالم الفسيح هنا، الرؤية التي تجعل المشاهدين في العالم كله، يستطيعون بدرجة أو بأخرى التفاعل مع فيلم يصدر من مصر التسعينات، دون حاجة لتقديم شروح ومذكرات تفسيرية حول «سياسة الانفتاح الاقتصادي» وآثارها المدمرة على سلوكيات العباد في ارض الكنانة.

لكن.. لا بأس.. خطوة أولى يثبت بها رضوان الكاشف قدراته كمخرج يمتلك سيطرة مدهشة على الممثلين، كما يمتلك حسا تشكيليا عاليا لم يتمكن من الكشف عنه كما ينبغي الا في فيلمه التالي «عرق البلح» ولكن هذا له حكاية أخرى.

** نشر هذا الفصل في كتاب “هموم السينما العربية”- هئية قصور الثقافة- القاهرة 1999.





Visited 59 times, 1 visit(s) today