عمرو سلامة.. اللعب على حافة الجنون!

شهاب بديوي
في تجربة جديدة من نوعها، يطلّ علينا المخرج عمرو سلامة بمسلسله برستيج من تأليف إنجي أبو السعود.
والمتابع لأعمال المخرج عمرو سلامة سيجد أنه بدأ بأفلام تحمل طابعًا جادًّا محمّلة بالهموم، إلى أن وصلنا إلى آخر أعماله التي تجرأ فيها على التجربة والاختلاف.
ومن خلال متابعة مشواره، نلاحظ أن عمرو سلامة يحاول دائمًا أن يمنح العمل مساحةً تفرض شخصيتها على الحكاية، دون أن يقيّدها بأسلوب معين يتبعه، كما نرى مع كثير من المخرجين.
ويقول هو عن ذلك: “أنا أعتقد أن الأسلوب يجب أن يكون غير مقصود. أسلوبي قد يكون في الحكي، وطريقة رؤيتي للناس، لكن ليس لدي أسلوب بصري محدد، لأني أرى أن كل فيلم أُخرجه، أريد تجربة أسلوب جديد فيه، وأرى أي أسلوب بصري يخدمها أكثر، وليس أن أُطوّع القصص على أسلوب ونمط معين”.
مع مسلسل بيمبو، تبدأ مرحلة جديدة يكون فيها عمرو قد تشبّع إلى حد ما، وبعد أن اكتسب ثقة في نفسه وأثبتها، ما يكسبه جرأة الإقدام على التجربة. ويبدو أن عمرو سلامة يستغل المسلسلات كفرص للتجارب الجديدة.
يحكي عمرو عن دوافعه في صناعة الأعمال الجديدة، ومساحة التجربة في أعماله:
“الطفل الذي بداخلي هو الذي يمتلك المساحة للعب والتجريب، لديه فضول للاكتشاف، وما زال يريد إثبات نفسه. هذا الطفل خاف أن يموت، ويفقد رغبته في فك اللعبة ومعرفة كيفية عملها. هذا الطفل يجب أن نحميه، لأنه يخاطر ويبدع. حبه للمجهول أكبر من خوفه منه.. حتى عندما أكتب فيلمًا جادًا جدًا، فما يظهر فيه هو الطفل، وليس الراشد. وأنا، كي أُرغم الطفل على أن يخرج، عندما أختار مشروعًا جديدًا، أختار المشروع الذي أخاف منه أكثر، من أجل أن أكتشف ماذا سيخرج منه”.
ينقسم جمهور المتابعين وتختلف الآراء حول تجربة عمرو سلامة؛ فكثير منهم يلومه على هذا التحول في مسيرته، ويتوقف كثيرون عند فيلمه أسماء الذي يعتبرونه آخر ما قدّمه من الأعمال الجيدة.
إلا أن الحقيقة تقول، وبغض النظر عن الذوق الشخصي، إن ما يقوم به مهم للغاية؛ إذ يساهم من خلال تجربته في التغيير، وإعطاء مساحة أكبر للتجريب، وخلق ذائقة مختلفة بعيدًا عن الفورمات المكررة التي نراها حاليًا.
فمن خلال تجربة بيمبو، قدّم عمرو تجربة جديدة بالتعاون مع الموهبة الواعدة أحمد مالك والمؤلف محمد أديب. قدّم من خلالها نوعًا جديدًا من الكوميديا الممتزجة بالتشويق والإثارة، وساهم العمل في تقديم مجموعة كبيرة من الفنانين. وقد أُخرج العمل بالاشتراك مع عمرو سلامة وتحت إشرافه المخرج عمر رشدي، كما قُدّم لأول مرة مغني الراب ويجز كممثل.
ومن هنا، ومن خلال طريقة السرد المختلفة، والنبرة الكوميدية الجديدة، نستطيع أن نلمس تغيرًا في أفكار عمرو سلامة.

قصة العمل، كما أشار «سلامة»، هي قصة غموض تُروى بشكل جديد، وتجمع بين التشويق والكوميديا، عن شاب يتاجر في المخدرات، لكنه مقتنع بأنه أكبر من ذلك، ويحاول إيجاد فتاة مفقودة، هي صديقة وفتاة يحبها، وهدفه في الأساس هو إيجاد معنى أكبر لحياته.
وهذا ملمح هام، وهو معالجة الأفكار الجادة/ الحادة بنبرة ساخرة أخفّ من أفلامه السابقة. (وهذا، في ظني، هو التغير/ التطور الذي حدث مع عمرو، وهو في طريقة معالجة الأفكار والقضايا).
فمن خلال أجواء من الإثارة والتشويق، ونبرة كوميديا ساخرة، تُقدَّم لنا فكرة فلسفية عميقة مضمونها البحث عن الذات، ومحاولة الوصول إلى معنى أكبر للحياة.
“ساعته وتاريخه”
بعد النجاح الساحق لبرنامج كاستينج، وتعلّق الجمهور بالمواهب الشابة التي قدمها لنا عمرو سلامة، وتجربة مشاهدة ما وراء كواليس صناعة النجوم،
تم الإعلان عن مسلسل مختلف من نوعه، وتجربة جديدة وفريدة كالعادة تحت قيادة عمرو سلامة، وهو مسلسل ساعته وتاريخه.

المسلسل يحكي قصصًا حقيقية من ملفات المحاكم المصرية، ويساهم في إلقاء الضوء على العديد من القضايا الهامة التي تهدد المجتمع، مثل الدارك ويب، والابتزاز الإلكتروني، والتنقيب غير الشرعي عن الآثار، والتحرش الجنسي، والإدمان، والعنف الأسري، وكيف يمكن لهذه المشاكل أن تدمر حياة أسر كاملة.
المسلسل مكوّن من عشر حلقات منفصلة، بحيث تحكي كل حلقة قصة جديدة ومختلفة عن سابقتها. وقدّم عمرو من خلال هذا العمل مجموعة كبيرة من المواهب الشابة الجديدة لأول مرة على الشاشة، كما أنه أعطى فرصة لمخرجين آخرين لمشاركته في إخراج العمل، مثل: عمرو موسى، وأحمد عادل سلامة، وعادل أحمد يحيى.
وقد لاقى العمل نجاحًا كبيرًا على مختلف المستويات، من خلال تقديم مواهب شابة في التمثيل، وتسليط الضوء على مخرجين متميزين، كما أنه سلّط الضوء على قضايا حقيقية حدثت بالفعل، ربما لم ينتبه لها أحد، أو نسيها الناس – فآفة حارتنا النسيان، كما يقول العم نجيب.
حققت مشاهدات ساعته وتاريخه أكثر من 100 مليون مشاهدة عبر مختلف المنصات، وتصدر المسلسل التريندات طوال فترة عرضه، وهو ما ظهر جليًا عبر مؤشرات جوجل. كما تصدّرت الحلقة الأولى من الجزء الأول من المسلسل قائمة الأكثر مشاهدة على يوتيوب، واستمر ذلك في أكثر من حلقة.
وتم إنتاج جزء جديد من العمل ليواصل نجاح الجزء الأول.
“برستيج”
يطلّ علينا من جديد سلامة في تجربة مختلفة وجنونية، تحمل قدرًا كبيرًا من المخاطرة والعبث والتجربة.
فمن خلال قصة برستيج للمؤلفة إنجي أبو السعود، يحكي لنا سلامة عن أحداث المسلسل في إطار يجمع بين الجريمة والغموض والكوميديا، حيث تضرب عاصفة قوية شوارع القاهرة، مما يجبر 14 شخصًا من خلفيات اجتماعية مختلفة على اللجوء إلى مقهى في وسط البلد. وبينما يحاول الجميع الاحتماء من العاصفة، ينقطع التيار الكهربائي فجأة، ليكتشفوا أن أحدهم قد قُتل، ومع تصاعد التوترات، يدركون أن القاتل بينهم.
من خلال منشور للكاتبة إنجي أبو السعود، ومن خلال حوارات صُنّاع العمل، ومن ضمنهم المخرج عمرو سلامة، نكتشف أن الفريق كان واعيًا بغرابة وجنونية التجربة، حيث يقول سلامة:
«كنت محظوظًا إني أشتغل على مشروع يخلّيني أكتشف طرق جديدة في السرد والإخراج. برستيج تجربة مختلفة، لأنه بيجمع بين الكوميديا والجريمة، وكل أحداثه بتدور في لوكيشن واحد، مع 12 ممثلًا لابسين نفس اللبس طول الوقت… التحدي كان إني أقدمه بشكل مش ممل ومثير طول الوقت».

وأضاف أنه رغم شعوره بالقلق في البداية – وهو أمر اعتاد عليه في كل عمل جديد – إلا أن ردود الفعل فاجأته وكشفت له جوانب لم يكن يراها في المشروع، سواء من الإعجاب أو حتى النقد.
ويثبت لنا ذلك أن سلامة واعٍ ومُصرّ على التجربة والمخاطرة رغم يقينه بالعواقب، وهذا ما يجعله مميزًا بين غالبية صُنّاع الدراما الموجودين حاليًا على الساحة، حيث إن الجميع يلعب في المنطقة الآمنة التي حقق فيها نجاحًا أكثر من مرة!
وكما المعتاد، قدّم لنا سلامة مواهب شابة جديدة، من أبرزهم مغني الراب “ظاظا”، الذي قد يكون أكثرهم تميزًا، ويمكننا أن نرجع ذلك إلى أنه سبق وعمل مع عمرو سلامة على فيلم قصير.
وعطفًا على ما قلناه سابقًا عن مسلسل بيمبو، يكمل سلامة طريقته في برستيج، حيث يضع الأفكار الفلسفية العميقة في قالب من الهزل، ويتناول الموضوعات الجادة بسخرية شديدة، ليختفي المعنى خلف السطور ويترك الفرصة الأكبر للمتعة.
يتناول عمرو سلامة هنا فكرة جوهرية تمسّ صميم الحياة الاجتماعية المعاصرة: كيف يرى الإنسان نفسه، وكيف يريد أن يراه الآخرون؟ إنها ثنائية الوعي بالذات مقابل صناعة الصورة، أو بالأحرى، الكفاح المحموم لحياكة “برستيج” اجتماعي يُرضي التطلعات ويُخفي العيوب.
يُسجن أربعة عشر شخصًا داخل مقهى صغير بسبب عاصفة عاتية تضرب القاهرة، ويتحوّل هذا المكان المغلق إلى فضاء رمزي شديد التوتر، تتفكك فيه الأدوار، وتنكشف الطباع الحقيقية خلف الأقنعة المصقولة.
فالخطر الداهم، ممثلًا في جريمة القتل التي تقع فجأة، لا يترك مجالًا للمجاملات الاجتماعية أو الادعاءات الخادعة. هنا، لا ينفع التظاهر بالتحضر، ولا يفيد الاستناد إلى السلطة أو المال أو الثقافة أو التدين المظهري. الجميع يُجبر على خلع “البرستيج” الذي ارتداه طويلًا، ومواجهة ذاته العارية.
الكوميديا السوداء التي اعتمدها العمل ليست تهكّمية فحسب، بل كاشفة؛ فهي تسخر من التصنّع لا لتثير الضحك، بل لتقود إلى الإدراك. فالضحك هنا أداة فاضحة، تُعرّي الزيف الاجتماعي وتُسائل المتلقي: هل أنت ما تقول إنك عليه، أم ما تُخفيه وتخشاه؟
يمضي المسلسل ليكشف، بحِرَفية سردية ومونتاج ديناميكي محكم، عن تلك الهوة العميقة بين حقيقة الإنسان وصورته العامة، بين باطنه المتقلّب وظاهره الثابت، بين جوهره المضطرب وقشرته المطمئنة.

وفي نهاية المسلسل، نكتشف أن القاتل هو صاحب المقهى، الذي ارتكب جريمته بدافع خفي: حلمه القديم بالتمثيل، ورغبته العميقة في لفت الأنظار وإثبات وجوده. فحين عجز عن نيل الأضواء مشروعًا، صنع لنفسه بطولة دموية ليصير مرئيًّا أخيرًا.
حتى الآن، الآراء الصادرة في أغلبها غير مبشرة وسلبية، إلا أن الهدف من الكتابة هو تسليط الضوء على تجارب عمرو سلامة في التجرِبة، وشجاعته على تقديم أعمال غير نمطية رغم وعيه بالنتائج.
في زمنٍ باتت فيه الصناعة تحكمها معادلات السوق وأرقام المشاهدات وخوارزميات المنصات، يصرّ عمرو سلامة على أن يمضي في طريق آخر؛ طريق محفوف بالاحتمالات، مليء بالمجازفات، لكنه أيضًا ممتلئ بالحيوية والتجريب والرغبة الصادقة في اللعب والاكتشاف.
قد لا تُعجبك كل محطاته، وقد تختلف معه في اختياراته، لكن لا يمكنك أن تتجاهل صوته، ولا محاولاته الدائمة لتحريك الساكن وخلخلة المُعتاد.
هو لا يصنع أعمالًا كاملة، لكنه يصنع تجارب حقيقية. تجارب تقول لنا إن الفن لا يجب أن يكون دائمًا مضمونًا أو ناجحًا أو محبوبًا… يكفي أحيانًا أن يكون صادقًا.
المصادر:
مهووس بالفلسفة ومتعلم من لغة الشارع… المخرج عمرو سلامة: أسئلة، تحديات، وآمال – رصيف ٢٢.
موقع في السينما
أكثر من ١٠٠ مليون مشاهدة.. أرقام مشاهدات كبيرة لمسلسل ساعته وتاريخه/ اليوم السابع.