“شرف”: فيلم قادم من زمن آخر
عمرو علي
عُرِضَ ضمن أسبوع أفلام معهد جوتة في القاهرة خلال الشهر المنصرم وللمرّة الأولى في مصر فيلم “شرف” من تأليف سمير نصر وصنع الله إبراهيم عن رواية بنفس العنوان للأخير صَدَرَت سنة 1997، ومن إخراج سمير نصر.
وكان الفيلم قد حظي قبل عرضه هذا بعدّة مشاركات سينمائية أبرزها في مسابقات أيام قرطاج ومهرجان البحر الأحمر، ليمرّ في هذه المناسبات وسواها مرور الكرام دون أن يُثير جدلاً أو يلفت انتباهاً شديداً.
يُمثّل الفيلم تجربة خاصّة في سياق السينما المصرية والعربية، وليس مرد ذلك كونه يُشكّل عودة لصنع الله إبراهيم إلى السينما بعد انقطاع طويل وحسب، بقدر ما يُعزَى ذلك إلى فرادة الفيلم النسبية من حيث الطرح والتنفيذ، فالأحداث تدور برّمتها داخل سجن في بلد عربي غير محدد، والسجناء والسجّانون هم عرب من شتّى الأصقاع يتحدّثون بلهجاتهم المُتنوعة، ليصبح هذا السجن بمثابة بانوراما للواقع العربي وبوابة للولوج إلى عوالم الظلم والفساد والجريمة التي تعتري المُجتمع.
تدور الأحداث حول شاب اسمه شرف (أحمد المينراوي) الذي يُقدم على قتل سائح أجنبي فيُزَّج به في السجن حيث يتعرّف رويداً رويداً على عوالم ذلك المكان الذي لم يكن يعرف عنه شيئاً، وبعد أن يتعرّض شرف لمُحاولة تحرّش من أحد السُجناء يُقرّر الضابط نقله من الجناح الشعبي، وهو المكان المُخصّص للسُجناء الفقراء، إلى الجناح الملكي وهو القسم المُخصّص للسُجناء الأكثر أهمية، ويكون ذلك مقابل تطّوع شرف للعمل كجاسوس لصالح الضابط تقتضي مهمته نقل أخبار السُجناء بأدّق تفاصيلها.
في الجناح الملكي يتعرّف شرف على نماذج مُختلفة من الناس أبرزها الشيخ الذي يمتهن السحر والشعوذة ويتعامل مع الجنّ، والعالِم البيولوجي رمزي يعقوب (فادي أبي سمرة) الذي يكتشف فساداً في أحد معامل الأدوية فتُلَفَق له قضية ويصدر في حقّه حكم قضائي ليعكف في السجن على كتابة مُذكّراته التي تفضح أصحاب المصنع المُتحالفين مع ذوي النفوذ في البلاد، ليجد شرف نفسه مُجبراً، رغم تعاطفه الكبير مع العالِم، على تنفيذ تعهدّه للضابط وإحضار المذكّرات إليه، خاصّة وأن الأمور كانت قد بلغت قبل ذلك مداها مع إقدام السُجناء وفي مقدّمتهم رمزي يعقوب وشرف نَفسه على عرض مسرحية خلال إحدى المُناسبات الوطنية بناءً على طلب إدارة السجن قاموا خلالها بإدانة الضبَّاط والإساءة إليهم وإلى سلطتهم، وإن كان الضابط الأقل رتبة قد استغلوا العرض المسرحي للإطاحة برئيس السجن وإحلال ضابط آخر مكانه بحجّة موافقته على تمرير المسرحية.
المدير الجديد للسجن يقرّر البطش بالسُجناء والرمي بالعالِم رمزي يعقوب في زنزانة انفرادية والزجّ بشرف مع قاتل مُتسلسل له ميول شاذة يُسلّم شرف له نفسه عن طيب خاطر بعد أن يُفلح هذا القاتل في حمايته من مُحاولة قتل مُدبّرة داخل السجن، في إشارة صريحة إلى استسلام شرف وتخلّيه عن شَرَفه وسط صراخات ونداءات العالِم رمزي يعقوب المتوالية الآتية من زنزانته الانفرادية والتي تدعو زملاءه السُجناء إلى التمرّد على إدارة السجن.
يُقَال أن السلطات المصرية قد اعترضت على تصوير الفيلم داخل مصر لأسباب رقابية مما دفع بصُنَّاعه للانتقال إلى تونس والتخلّي عن مصرّية الفيلم لصالح تحويله إلى فيلم عربي يجمع شخصيات من دول عربية عدَّة، وهو ما يعني في العمق، التخلّي عن الشرط الواقعي المُرتبط بالزمان والمكان مقابل النمط الفانتازي الذي يُغيّب الزمان والمكان بصورة شبه كُلّية رغم بعض الإشارات إلى أحداث تاريخية كبرى كهزيمة يونيو 1067، وحرب الخليج وسواهما.
والحقيقة أن الفيلم لم يفقد شيئاً من قيمته جرّاء هذا التحويل نظراً لتشابه الظروف بين معظم الدول العربية، ولو أن هذه الالتواءة السريعة في مجرى تنفيذ الفيلم قد أفقدت مخرجه خياراته الفنّية السابقة لجهة الممثلين والفريق الفنَّي واضطرته للاستعانة في اللحظات الأخيرة بممثل فلسطيني جديد اسمه أحمد المينراوي للتصدّي لدور البطولة وإنهاء تصوير الفيلم في زمن قياسي لم يتجاوز عشرين يوماً نظراً لصعوبات إنتاجية جمّة، والمُلفت أن هذه الصعوبات على صعيد التنفيذ لم تُقلّل من الجودة الفنّية للفيلم الذي جاء مُتميّزاً على مستوى الشكل رغم الضعف الذي شاب أداء البطل عموماً، ورغم خفوت المضمون وقِدَم الطرح.
صرَّح المخرج سمير نصر في الندوة التي أعقبت عرض الفيلم بأنه قد بدأ العمل على هذا المشروع منذ تخرّجه من المعهد العالي للسينما مطلع الألفية حيث عَكَف برفقة صنع الله إبراهيم على كتابة السيناريو والحوار لسنوات طوال قبل أن يشرع أكثر من مرّة على مدى عقدين بالدخول في التصوير الذي كان يتعطَّل كلّ مرّة لأسباب إنتاجية إلى أن شاءت الأقدار إنجازه خلال السنتين الأخيرتين.
وربما فات المخرج سمير نصر أن الأحداث الكبيرة التي ألمت بمصر وبالمنطقة العربية برّمتها خلال العقد الأخير والتي أطاحت ببلدان بأكملها وكادت في طريقها أن تُطيح بأخرى قد تجاوزت بثقلها التاريخي وبمفاعليها الاقتصادية والاجتماعية تلك الأطروحات التي يزخر بها الفيلم والتي تجيء اليوم وكأنها قادمة من عقود مَضَت فتبدو باهتة وشاحبة وضعيفة التأثير خاصّة بعد تفجّر ثورة الميديا والتواصل الاجتماعي وموجة الأفلام التسجيلية التي قطعت أشواطاً أوسع على صعيد تشريح الواقع العربي والغوص في أزماته المُستعصية الأكثر مُعاصرة والأشدّ التصاقاً بالتبدّلات الدراماتيكية التي أصابت بُنيان المجُتمعات العربية بسرعة باهرة.
وتُفسّر هذه الأسباب الأخيرة ربما صمت صنع الله إبراهيم وإعراضه عن المُشاركة في الندوة التي أعقبت العرض رغم حضوره لها، خاصّة مع نهاية الفيلم التي أُريِدَ لها أن تكون ثورية مع نداءات رمزي يعقوب المُتكرّرة للتمرّد وهي نداءات تبدو اليوم إشكالية ومُجحفة وسط مواجهات مفتوحة ضدّ التنظيمات المُسلّحة ومُحاولات مُستميتة للصمود الاقتصادي في وجه الحصار والعقوبات والتضييق، وهذا كلّه لا يمكن فصله، بالنسبة إلينا على الأقل، عن مشاركة بعض الفضائيات والمُنظمَّات الأوروبية في تمويل هذا الفيلم ودعمه إنتاجياً وذلك في سياق التوجّه السياسي لهذه الدول التي شارك بعضها مُباشرةً في تعميق أزمات المُجتمع العربي والسعي لتحطيمه وتفتيته طيلة سنوات.
أضاع (شرف)، رغم الجهود الكبيرة التي بُذِلَت في صناعته، فرصة التحوّل إلى أيقونة سينمائية على غرار (البريء) لوحيد حامد وعاطف الطيّب، كما أضاع مخرجه سمير نصر فرصة العثور على أحمد زكي جديد اعتقد أنه قد وجَدَه في أحمد المينراوي نظراً لتشابه الشكل بين الرجلين كما أعرب في الندوة.
ولهذا فإنه يبدو اليوم أشبه بفيلم قادم من زمان آخر ومكان آخر، حتى أنه لم يستطع، رغم علو صوت شخصياته ونداءات بطله الحماسية والخطابة والمُباشرة التي اعترت بعض حواراته وتعدّد مستويات رمزيته وتشعبّها، تجاوز الشحوب الذي يثيره لدى المُتلقي والإحساس الأكيد لدى هذا الأخير بأنه قد شاهد هذا الفيلم من قبل سواءً عبر الأدب أو الميديا أو حتى نشرات الأخبار في التلفزيون.
ولهذا يُعدّ (شرف) دَرسَاً عملياً يوضّح مدى الارتباط بين الفيلم السينمائي والظروف السياسية والاجتماعية لدى عرضه وتأثيرها في التلّقي حيث يتبّدل هذا التأثير بتبّدل الظروف نَفسها خاصّة في نوعية الأفلام السياسية التي يُصنَّف فيلمنا هذا في إطارها، بينما يؤكّد من ناحية أخرى على الرؤية الأحادية التي لا يزال الغرب ينظر بها إلى الأزمات العربية والتي يطيب له على الدوام حشرها في خانة أزمة الحرّية والديموقراطية مُتجاهلاً في الآن نفسه وعن عَمد عشرات الأزمات المُستعصية التي تسبّبت بها سياساته طيلة العقود الماضية.