“ساعة ونصّ”.. مرثية مذهلة للغلابة والبسطاء والبؤساء!

أستطيع أن أؤكد لك، وقد شاهدتُ جميع أفلام الموسم السينمائى المصرى للعام 2012 بخيره وشرّه، أن فيلم “ساعة ونصّ” الذى كتبه أحمد عبد الله وأخرجه وائل إحسان، هو أفضل أفلام الموسم، وأكثرها اكتمالاً فى عناصره الفنية، بل إنه يتفوق فنياً على فيلم “بعد الموقعة” الذى اشترك فى المسابقة الرسمية لمهرجان كان، ويتفوق على فيلمى “كباريه” و”الفرح” اللذين كتبهما أحمد عبد الله وأخرجهما سامح عبد العزيز.

أدهشنى أيضاً أن الفيلم لن يشارك، بسبب عرضه التجارى فى الصالات المصرية، فى مهرجان القاهرة فى دورته القادمة، تقديرى أنه كان يمكن أن ينافس بقوة وبسهولة على جوائز السيناريو والتمثيل والإخراج، المفاجأة الثانية أن هذا الفيلم الهام والقوى والمؤثر، والذى يهز متفرجه من الأعماق، من إنتاج “حمد السبكى” الذى قدّم هذا العام كمنتج أحد أسوأ أفلام الموسم، وهو فيلم “حصل خير”، ولكننا تعودنا أن يكفّر السبكيّة أحياناً عن أفلامهم الرديئة ببعض الأفلام الجيدة القليلة، والتى تحقق أيضاَ نجاحاً جماهيرياً وفنياً مثل “كباريه” و”الفرح”.

يقدم السيناريست الموهوب “أحمد عبد الله”، الذى اشتهر بأفلام كوميدية متفاوتة المستوى، مرثية مذهلة لمصر الحقيقية، وطن الغلابة الذين سحقتهم فترة حكم مبارك سحقاً لدرجة قضت على الطبقة الوسطى تقريباً، وجعلت مصر منقسمة كما وصفها الراحل الساخر “جلال عامر”، بين فئتين لا ثالث لهما : ” ناس عايشة كويس.. وناس كويس إنها عايشة “.

“ساعة ونصّ” فيلم عن الناس البائسة “اللى كويس إنها عايشة”، وهم أقرب الى البؤساء، وبعضهم يتمنى الموت بالفعل، حتى يحصل عليه فى صورة إنقلاب قطار الصعيد، وكأن أوضاعهم المقلوبة تنتهى حتماً بقطارات مقلوبة، وكأنهم يهربون من الفقر والبؤس الى الموت.

ولكن فيلمنا الجديد أكثر نضجاً بمراحل من تجربتى “كباريه” و”الفرح” اللتان تحافظان، مثل “ساعة ونص”، على ملامح مشتركة، أهمها الوحدة الأرسطية الكلاسيكية الصارمة للمكان والزمان والحدث، وتقديم شريحة واسعة جداً من الشخصيات، من ملامح هذا النضج أن السيناريست الموهوب اكتسب مزيداً من التمكن الذى جعل البناء أكثر تماسكاً، كما ترك شخصياته تنمو بحرية دون أن يدينها أخلاقياً على طريقة الميلودرامات الرديئة، بل تستطيع القول أن السيناريو فيه ذلك التعاطف التشيكوفى مع الضعف الإنسانى ( زوجة الخفير الخائنة القلقة ولصوص القضبان يحاولون إنقاذ القطار بلا جدوى)، ورغم بعض الملاحظات فى نهاية الفيلم، مما كان سيفسد الجرعة قليلاً، إلا أن “ساعة ونص” يجمع ببراعة بين هذا الإندماج الذى يتيح لك التأثر إلى درجة البكاء، وتلك المسافة التى تجعلك تتأمل وطناً يموت وهو حى، ثم يموت مرة ثانية بصورة أكثر بشاعة.

كتبتُ كثيراً عن موهبة “أحمد عبد الله” رغم تذبذب مستوى أفلامه بين كوميديا غير متماسكة (فيلم اللمبى الذى يقوم على شخصية واقعية مدهشة ولكن الفيلم نفسه به ثغرات كثيرة)، وكوميديا مقبولة ( فيلما الناظر وفول الصين العظيم)، وفيلم كارثى مثل “كركر”، كنت قد شاهدت للسيناريست من قبل فيلما قصيراً تدور أحداثه بين أسانسير فندق خمسة نجوم، وصالة للأفراح فى نفس الفندق، بدا لى أننا أمام موهبة ستقضى عليها الأفلام المسلوقة، ولكن سرعان ما وصل “عبد الله “الى تقديم أفلام متماسكة فنياً، وناجحة تجارية، كما فى “كباريه” و”الفرح”.

من دلائل النضج فى فيلمنا أيضاً أن “عبد الله” لم يأخذ من حادثة و حوادث قطار العياط إلا واقعة انقلاب قطارو اشتعاله، ثم محاولة فصل بعض العربات،  أما البناء بأكمله فهو من تأليفه ، “العيّاط” مدينة مصرية بالقرب من الجيزة اشتهرت بحوادث القطارات بالقرب منها، أشهر هذه الحوادث ، بل هى أسوأ حوادث القطارات فى تاريخ السكة الحديد المصرية ( عمرها قرن ونصف القرن)، وقعت فى فبراير عام 2002 عند قرية “ميت القائد” بالقرب من العياط، عندما اندلعت النيران فى قطار الصعيد، مما أدى الى مصرع 361 شخصاً، قيل وقتها أن راكباً كان يستخدم وابوراً بدائياً انفجر فيه، ورغم تقديم مجموعة من العمال للمحاكمة، إلا أن القضاء برّأهم جميعاً، مما يؤكد أن الخلل كان على أكبر المستويات.

ليس فى “ساعة ونصّ” أى شئ من هذه التفاصيل، ولكننا أمام عدد كبير من الشخصيات التى ستركب قطاراً سينقلب فى النهاية بسبب قيام بعض اللصوص بسرقة قضبان السكة الحديد، ولأن خفير المحطة، الذى يمكنه أن يطلب من سائق القطار التوقف على مسافة كافية بعيداً عن المسافات المقطوعة، كان مشغولاً بمأساته الشخصية، ولأن سائق القطار نفسه كان مشغولاً بهمومه الخاصة، فإن القطار ذهب الى مصيره المحتوم.

أما الشخصيات فهى مأساوية تثير الرثاء مثل “كباريه” و”الفرح”، وكلها تنويعات على نغمة البؤس والإحباط والشقاء، وكلها تكابد أوضاعاً مقلوبة تتسق منطقياً مع انقلاب القطار المروع فى النهاية، وهناك أيضاً ذلك المزج الذى يجيده “عبد الله” بين التراجيديا والكوميدياً، مع حس ساخر واضح حتى فى اختيار أسماء جميلة للشخصيات تتناقض بحدة مع الواقع البائس ( أسماء مثل مسعود وعزّ وعبد العزيز وسناء وصلاح وصفية وملاك وفريد .. إلخ).

قُدمت الشخصيات فى لمسات سريعة تم تضفيرها ببراعة على مدار ساعة ونصف قبل انقلاب القطار، وتم اختزال المكان بشكل أساسى داخل القطار، وبشكل أقل على محطة انتظار فى مدينة الفشن ببنى سويف، حيث نماذج من أهل الركاب المنتظرين، يبدأ الفيلم ثم ينتهى بقوسين كبيرين أقرب الى اللقطات التسجيلية للمارة فى محطات السكة الحديد، مع قصاصات للصحف سواء فيما يتعلق بغرق العبّارة السلام، أو بحادث قطار العياط الأصلى، وكأن المأساة عابرة للزمن، وكان من لم يمت غرقاً فى البحر، مات احتراقاً فى القطار.

نماذج  إنسانية رُسمت بريشة الواقع الحى، وببصمات مجموعة من أفضل المشخصاتية: “ماجد الكدوانى” شاويش بائس يقوم بترحيل شاب مصرى عائد من السويد “أحمد الفيشاوى” بتهمة تقبيل صديقته السويدية فى شوارع مصر، الشاويش لا يتورع عن قبول الرشوة، ولكنه يهاجم تهتّك الغرب، يعتقد أن السويد جزء من الولايات المتحدة، لا يتفاعل مع الشاب إلا عندما يكتشف أنه يمكن ان يكون عريساً منتظراً لأخته العانس.

“فتحى عبد الوهاب” صعيدى جاهل، أحبّ ابنة عمه “يسرا اللوزى”، باع أرضه ليفتح لها عيادة بعد أن أصبحت طبيبة، ولكنه أصبح تومرجياً يعمل معها، يغار عليها، يشعر أمامها بالنقص، يرفض بعنف أن تسافر فى منحة دراسية الى الخارج لمدة ستة أشهر، هى تحبه ولكنها تعانى من عقدة نقصه.

“إياد نصّار” خريج آداب ، ويسارى سابق، لم يجد عملا سوى بيع كتب الحب فى القطار، “كريمة مختار” أم بائسة تركها ابنها لأنه لا يستطيع الإنفاق عليها، أعطاها ورقة كتب عليها ” الرجا تسليم هذه السيدة الى أقرب دار للمسنين”، “سوسن بدر” أم متصابية تسافر مع ابنتها “آيتن عامر” للحصول على معاش الأب ومستحقاته المالية، الابنة تطمع فى الأموال بسبب مصروفات أولادها الدراسية، ونتيجة عجز زوجها عن الإنفاق بعد فقدانه للعمل.

“محمود الجندى” وزوجته فى انتظار ابنهما “كريم محمود عبد العزيز” وصديقه “محمد رمضان” العائدين من ليبيا، باع الأب الأرض ليسافر ابنه، ولكن الابن تعرض للسرقة، أوهمهما أنه عائد بالمال من ليبيا بعد عامين من الغياب، “هالة فاخر” أم تحاول أن تحصل دون جدوى على مساعدة شقيقها لعلاج ابنها المكتئب بسبب فشله الدراسى، “سمية الخشاب” الزوجة الثانية العاقر لخفير المحطة “أحمد بدير” الذى يعانى أيضاً من الضعف الجنسى، “محمود البزّاوى” وصديقه المغنى الشاب الباحثان عن مطرب يشترى منهما أغنياتهما، الميكانيكى “محمد عادل إمام” وصديقة “أحمد فلوكس” وزملاؤهم الذين يسرقون القضبان لبيعها، “أحمد السعدنى” بائع الشاى فى القطار الذى يحلم بأن يترك طفله الصغير ليتعلم بعيداً عنه، ولكن الطفل لايريد المدرسة، “ناهد السباعى” ابنة سائق القطار “محمد فريد”، التى لاتمانع فى الحب والعشق، ولكنها لا تمانع أيضاً فى الحصول على “راجل والسلام”.

صعوبة البناء المركب للفيلم أننا تقريباً أمام مجموعة من القصص القصيرة المتداخلة والمتشابكة، والمنسوجة بمهارة الى حد كبير، بناء يذكرك على نحو ما بالبساطة المعقدة للأفلام الإيرانية الإنسانية مع لمسة ساخرة مصرية صميمة تخرج من قلب المأساة سواء فى تحولات الشاويش وتناقضاته، أو فى تصابى الأم العجوز، أو فى المساجلات اللفظية بين والدة الشاب المصرى القادمة من الصعيد ( رجاء الجداوى)، وصديقته الفاتنة القادمة من السويد، أو فى شخصية سائق فهلوى “سعد الصغير”، أو محام ريفى ساذج “طارق عبد العزيز”.

قدمت السينما المصرية من قبل فيلماً بعنوان “القطار” للمخرج “أحمد فؤاد” كان أقرب الى أفلام الكوارث والإثارة، وكان الأمر ينتهى بالإنقاذ فى اللحظات الأخيرة على طرقة “جريفيث”، أما فى “ساعة ونصّ” فإن أوضاع البؤساء المقلوبة تنتهى الى انقلاب مادى مجسّد ومروّع، ربما لم يمهد السيناريو بشكل جيد لعلاقة سائق القطار المتوترة بابنته، كما أسرف الفيلم قليلاً فى كوارث ما قبل الإنقلاب كأن يموت الشاب القادم (كذباً) من ليبيا فى القطار، مع أنه سيموت مرة أخرى مع الركاب، كما توالت استدعاءات الطبيبة داخل القطار بصورة مزعجة.

ولكن الذى خفف كثيرا من هذه الملاحظات، وضوح رسم الشخصيات بشكل عام، وتماسك البناء، وتلك التفاصيل الإنسانية العذبة كما فى العلاقة بين “إياد نصار” والعجوز “كريمة مختار” حيث قدما مشهداً رائعاً سيبقى طويلاً فى ذاكرة السينما، يضاف الى ذلك  بعض اللمحات الذكية  فى السيناريو، كأن نكتشف أن صديق الشاب العائد مسيحى الديانة، وذلك من خلال كلوز سريع على وشم الصليب على رسغه قبل أن يموت بلحظات، وكأن ينجح عامل الشاى فى فصل العربة الى تحمل ابنه عن القطار، وكأنه البذرة الوحيدة الباقية وسط صحراء قاحلة، ثم هذه اللقطات فى بداية الفيلم ونهايته لعمليه طحن الفول لصناعة الفلافل، ووضع الأقراص وقليها فى الزيت فى معنى رمزى واضح، كل ذلك حفظ للفيلم قوته وتأثيره الواضح على مشاهديه.

ما كان يمكن أن يتحقق ذلك لولا براعة المخرج “وائل إحسان” فى اختيار ممثليه وإدارتهم بشكل عام، بل إنه قدم بعضهم فى أدوار مختلفة تماماً مثل “يسرا اللوزى” فى دور طبيبة صعيدية محجبة، و” محمد عادل إمام”  فى دورميكانيكى يسرق القضبان، ويعشق النساء، ربما كان أداء “محمد رمضان” و”كريم محمود عبد العزيز” و”أحمد فلوكس” و”أحمد السعدنى” يخدشه الإنفعال الزائد أحياناً، ولكنك تستطيع عموماً الحديث عن تفوق فى فن التشخيص، ومباراة حقيقية  بين الجميع، مع تميز خاص ل “ماجد كدوانى” و”فتحى عبد الوهاب” و”كريمة مختار” و”إياد نصار”و “أحمد بدير” و” محمود الجندى”، كما قدم الفيلم وجهين جديدين مميزين هما الشاب المكتئب بسبب الفشل الدراسى، ولص القضبان الجبان الذى تعرض للتعذيب من قبل.

نجح المخرج فى اختيار أماكن التصوير، وساهم ديكور “على حسام” وملابس “داليا يوسف” فى استكمال اللمسات الواقعية للأحداث، وكانت صورة “سامح سليم” معبرة عما يقترب من مظهر اللقطات التسجيلية، وإن كان الفيلم وأحداثه يحتملان أن تكون الكاميرا أكثر حرية فى الحركة، ومن عناصر الفيلم الأكثر تميزاً موسيقى “ياسر عبد الرحمن” التى تبكى شخصياتها وتودعهم فى النهاية، ومونتاج “شريف عابدين” الذى نجح بدرجة كبيرة فى تضفير الخطوط المتقاطعة، وكانت تتابعات النهاية جيدة جداً ومثيرة وصولاً الى مشهد الإنقلاب المنفذ بتقنية خدع الجرافيك، لأسباب اقتصادية بالطبع.

“ساعة ونصّ” ليس فيه كلمة عن ثورة يناير، ولكن كل مشهد فيه يقول إن هذا البلد مريض وينتظر الموت فى أى لحظة مالم تتغير أحواله بشكل جذرى، كل مشهد يقول بوضوح إن هؤلاء البشر مسحوقون، وينتظرون الخلاص بالموت أو بغيره، ربما ينبهنا هذا الفيلم القوى من جديد، أنه لاثورة بدون تغيير حياة  الغلابة، الذين مازالوا يحلمون بمجرد سحابة تسترهم، فى وطنهم المحاصر بالمشكلات.

Visited 82 times, 1 visit(s) today