رفيق الصبان: أمير النقد الانطباعي الجميل

كيف يكتسب النقد أهميته حقاً، أمن كونه كتابة في “أدب” السينما، أم من كونه كتابة في “علم» السينما؟



جملة ذكية وردت في كتاب “علم الجمال” لمونرو برسلي: أنْ نقول ما هو الموضوع الجمالي شيء، وأنْ نقول كيف يُؤثر فينا شيء آخر.



في الأدب، مثلاً، يحصل تأثيره في قراء متفاوتين، منهم القارئ النموذجي والقارئ المُلم بفنون اللغة والقارئ المُطلع والقارئ المُستهدف الذي يُنتَج له كتاب، يُوَجِه إدراكه ويناسب “أفق توقعاته”، وهو في السينما المشاهد ذاته الذي لا يزال يُشكل معظم المشاهدين.



كما برهنت بحوث عديدة بعدئذ، على خصائص بنية “الوسيط” السينمائي: الفيلم، الذي هو واسطة (قائمة على نظام علامات خاص) يستعملها المرء لإيصال شيء ما محدد (في كل مرة) إلى الآخرين.



كان الراحل رفيق الصبان ناقدا متمرسا وكاتب سيناريو لامعا، يجيد لغات عدة ويتمتع بثقافة سينمائية واسعة، وسبق له أن بدأ ينشر مقالاته في المجلات المصرية منذ السبعينيات، وكان يطمح إلى أن يجد نقده تأثيراً “لا حد له في الكشف عن العيوب وإظهار المحاسن وتوجيه النظر وتعبيد الطرق”.



وقد صدر للدكتور رفيق الصبان كتابان في سلسلة الفن السابع – دمشق، أولهما “مد وجزر” في عام 2007، وثانيهما “بريق الذاكرة» في عام 2008.



يرى الصبان في كتابه الأول السينما المصرية “سينما مازالت تصر على صباها، ظلت على عنادها تدقق النظر في مرآتها، وتصر على أنها الحسناء المُدللة التي يتسابق العشاق العرب إلى الفوز بمودتها.. لكنها تعرضت أيضاً لبعض الهزات الكهربائية المثيرة جعلتها تفتح عيناً واحدة، وتترك العين الأخرى مُغمضة، وجعلتها تتحسس أعضاءها المشلولة وتحركها”. ويعرفنا، مثلاً، كيف “هزنا خيري بشارة بتيار كهربائي عالمي في (طوقه وأسورته) وجعل منا ملوكاً وفلاحين عمرهم ألف عام، وضعوا قدمهم في طين قريتهم ورفعوا ذراعهم بكبرياء حتى طالت السماء والنجم البعيد”!



في الكتاب الثاني، ويضم 34 مقالاً، أغلبها عن أفلام أمريكية، يعرّف الصبان السينما بأنها “مثل فرس جامحة، لا يعرف كيف يروّضها ويسير بها إلى آفاق واسعة إلا فارس كبير..”.



أكثر ما يحب الصبان في السينما الممثلين، فهم، برأيه، أساس الفيلم الناجح. وعندما يتطرق إلى فيلم “شيطان في برادا”، يجد ميريل ستريب “أنها قبل كل شيء وفوق كل شيء، أخضعت الفيلم كله لموهبتها بالكامل، وجعلته خاتماً سحرياً براقاً في أصابعها.. وقفت (ملكة) متوّجة بهامتها المرتفعة ونظرتها الملكية (…) تؤكد موهبة، جعلتها في مركز لا تُقارن فيه مع أحد”. لكنه في موضع آخر يجد أيضاً “ملكة” أخرى هي غريتا غاربو: “ملكة نصبتها السينما على عرشها ولم تترك وراءها وريثاً..”.



يعدد تيموثي كوريغان في مؤلفه “كتابة النقد السينمائي” ستة مناهج: الشكلي ويُعنى بتحليل العناصر الفنية في الفيلم. والتاريخي ويعنى بإيجاد أوجه الشبه الأسلوبي عند مخرج الفيلم، والقومي ويعنى بالبحث في الخلفية الحضارية والثقافية التي تؤثر في مضمون الفيلم وشكله وأنواعه، ويعنى بأساليب أفلام الخيال العلمي مثلاً أو يتصدى لأنواع فنية معينة في الأفلام. والإخراجي ويعنى بأسلوب مخرج الفيلم وتطور أساليبه، والأيديولوجي ويعنى بتفسير الفيلم وعلاقته بالبنية الفوقية للمجتمع. ونحن لا نجد هذه المناهج منفردة، إنما متداخلة، غالباً، في أساليبها بدرجات متفاوتة.



بدوره يستند منهج ديكارت إلى قواعد أربعة: قاعدة البداهة، وتقوم على الإدراك المباشر. وقاعدة التحليل، وتقوم على ما يمكن أن نسميه الآن التفكيك، أي تقسيم أي مقولة إلى عدد من الأجزاء الممكنة واللازمة لحلها. وقاعدة التركيب وتقوم، ثانياً، على ترتيب الأفكار للانطلاق من الأمور البسيطة والتدرج منها في الصعود تدريجياً إلى معرفة أكثر تركيباً. وقاعدة الاستقراء وتقوم على مراجعات عامة لكلية الأجزاء بحيث لا تغفل شيئاً منها.



ويبدو لنا ان منهج الصبان يتشكل من “تداخل” قاعدتين: قاعدة الادراك الانطباعي المباشر وقاعدة الاستقراء التي تقوم على مراجعات عامة لكلية الاجزاء/ العناصر وتغفل قاعدتي التحليل والتركيب. مع أنه بالذات تساءل ذات مرة عن أهمية الناقد ودوره الثقافي في المجتمع، وعن ضرورة تسلحه بأدوات الفيلم التي تؤهله لقراءته وفهمه؟ لكننا نجده في ممارساته النقدية “يستعمل” “الفيلم” ليعبر، أدبياً، عن مزاجه وتذوقه الخاص لكن وفق قدرة أدبية مميزة تحول خطابه النقدي الى أدب خالص وجميل قلما نقرأ مثله حتى عند بعض النقاد العرب الذين يكتبون في “أدب” السينما.



يكتب غودار:” لم أكن تقريباً ناقداً جيداً كما هو شأن بعض الآخرين. فقد كتبت نوعاً من النقد “المزاجي” الذي أمّن لي وجودي الثقافي، لكن تريفو كان أفضل ناقد، ورومير كان أكثر أكاديميةً، ونصه الأول (السينما فن المكان) ذو أهمية كبيرة لكل واحد.



عليك أولاً أن ترى ماذا يقول الفيلم، لكي يكون بوسعك أن تتكلم عنه. فنحن نتقاسم الأشياء لنتحدث (عنها) لا (حولها)”.
 


هل علينا حقا ان نخضع كتابات الصبان “الجمالية” الى تلك المهمة العسيرة التي يحاول ان ينجزها الناقد ليتمكن من المنهج الذي يُمكنه من الحديث “عن” عناصر الفيلم الفنية ومن كشف مُكوناته الغنية.أو اليست مهمة الناقد الحديث أيضا “حول” الأفلام خصوصا وأنها انواع تتميِّز وتتنوع وبالتالي يمكن للنقد نفسه أن يتنوع ويتميِّز ايضا؟


دعونا نقرأ كيف يعبر الصبان عن اعجابه بفيلم “أيام الغضب”: “لا شيء أجمل من السينما المصرية عندما تضيء بقلبها ووجدانها ومشاعرها، إنها تبدو كحمامة بيضاء يلتمع ندى الفجر على جناحيها المفروشين، وتبرق النجوم كلها في عينيها اللتين تعكسان سعة السماء وعمقها”.



وحينما يحاول أن يعرفنا بأسلوب فيلم المخرج منير راضي، يكتب: “إنه يزركش لوحات، يرمي بقعاً من الضوء، يلون جداراً لا روح له. وإن فيلمه يتفجر من دمه ومن شرايينه فيحيي نباتات الأمل الخضراء التي ذبلت في حديقة السينما المصرية”؟



أعتقد ان رفيق الصبان يشكل في النقد السينمائي وفي الثقافة السينمائية ظاهرة منفردة جديرة بالدراسة والتأمل.

Visited 79 times, 1 visit(s) today