حوار مع مدير التصوير الكبير فيتوريو ستورارو
ترجمة: أمين صالح
هذا حوار مع فيتوريو ستورارو، أجراه أليكس سيمون، نشر أولاً في عدد فبراير 1999 من مجلة فينيسيا، وأعيد نشره في The Hollywood Interview عدد 9 فبراير 2008:
ستورارو يُعد واحداً من أعظم وأهم مدراء التصوير السينمائي في العالم. ولد في روما في العام 1940، درس في قسم التصوير بمعهد السينما بإيطاليا. وعندما التقى هناك بطالب سينما شاب يدعى برناردو برتولوتشي، نشأت صداقة شخصية وفنية لم تنته. العلاقة الفنية بينهما، هو كمصور والآخر كمخرج، أثمرت أعمالاً بارزة وعظيمة مثل: خدعة العنكبوت (1970) الممتثل (1971) آخر تانغو في باريس (1972) 1900 (1977) الإمبراطور الأخير (1987) وعن هذا الفيلم حاز على أوسكار أفضل تصوير للمرة الثالثة. حيث سبق له أن فاز بالأوسكار للمرة الأولى عن تصويره لفيلم كوبولا “القيامة الآن” (1979) والمرّة الثانية عن تصويره لفيلم وارن بيتي Reds (1981). وتعاون مع المخرج الأسباني كارلوس ساورا فأدار تصوير “فلمنكو” (1995)..
وهذا نص الحوار:
– “تانغو” (للمخرج كارلوس ساورا) فيلم آسر، حيث يمزج العديد من الأشكال الفنية المختلفة..
* أعتقد أن هذا الفيلم يفتح لي عيناً جديدة، بُعداً جديداً. بعد كل اهتمامي بتكييف الإضاءة، من الجزء الأول من حياتي، إلى دراسة الألوان في الجزء الثاني، فإنني في الجزء الثالث أحاول أن أبحث عن التوازن بين العناصر المتعارضة. منذ التقائي بكارلوس ساورا اختبرت طريقةً جديدة في النظر.. طريقة تجريبية تقريباً. لو كانت لوحة تشكيلية، لكانت أشبه بالانطلاق من عصر النهضة والوصول إلى عالم التشكيل التجريدي. تلك هي ذات الرحلة في العالم البصري التي قمنا بها معاً من خلال تعاوننا. في “تانغو” استخدم ساورا الرقص كمجاز ليروي قصة بلاد واحدة، الأرجنتين. المجتمع الأرجنتيني مزيج من الأسبان والإيطاليين. وهذا الفيلم حققه مخرج أسباني ومصور إيطالي. لقد اشتغلنا من الجذور في سبيل أن نروي قصة التانغو. حاولنا أن نتخيّل الرحلة التي قامت بها الشخصية الرئيسية بوصفها رحلة نحو الطيف اللوني. وكما نحب أن نقول، كنا نكتب بالضوء لنسرد القصة. هذا ما يكونه التصوير السينمائي. ونحن نواصل هذه الرحلة مع مشروع جديد أنهيناه لتوّنا يدعى “غويا غويا”.
– حدّثنا كيف تكوّنت فكرة فيلم “تانغو”؟
* في الأصل، فكّرنا في تنفيذه بالطريقة التي بها نفّذنا “فلامنكو”.. من دون قصة. أن ندع الراقصين يسردون احتمالات القصة. ذهبنا إلى بيونس آيريس لبضعة أسابيع مع لالو شيفرين (مؤلف موسيقى الفيلم)، وكان عالماً جديداً بالنسبة لنا. في الأخير، قررنا أن نجعلها قصة شخصية أكثر، عنا جميعاً. السينما ليست مجرد رواية لقصة ما، بل يمكن أن تكون لغة الصور، الصوت، الموسيقى.. وأحياناً توجد القصة فقط لمساعدتك على المضيّ داخل منطقة واحدة، وأظن أن فيلم “تانغو” يفعل ذلك.
– حدّثنا عن صداقتك وتعاونك الفني مع برناردو برتولوتشي..
* الأقسام الثلاثة من حياتي يمكن أيضاً تصنيفها وفقاً لثلاثة مخرجين عملت معهم خلال كل قسم. من دون شك، برناردو برتولوتشي ينتسب إلى القسم الأول من حياتي. إنه القسم الأكثر براءة، الاكتشاف، النمو، الوقت الذي تشكّل فيه ذاتك، والذي هو القسم الإيطالي. القسم الثاني بدأ مع فرانسس كوبولا و”القيامة الآن”.
أنا وبرناردو كوّنا معاً القسم الرائع من حياتنا، وحافظنا على صداقتنا الحميمة. أبداً لم نكن نروي قصصنا عبْر الجانب الواعي تماماً من عقولنا. شخصيات برناردو لا تقول ما يدور في ذهنها أو ما يتحدث عنه المشهد. هناك دائماً جزء ما ينتسب إلى عقل برناردو اللاواعي، والذي يتعيّن عليك أن توحي به وتظهره بتلك الطريقة. لهذا السبب أقول وأكرّر أن التصوير السينمائي هو كتابة بالضوء. استخدام لغة الضوء لتوضيح الفكرة أو الثيمة أو إظهار خصائص الشخصية.. وذلك من دون التصريح بهذا على نحو مباشر.
– كيف أصبحت مهتماً بالتصوير؟
* أبي الذي كان يعمل كمشغّل لجهاز العرض (البروجكتور)، في شركة كبيرة تدعى لوكس فيلم، كان حلمه أن أصير مصوراً سينمائياً. كان دائماً يتوق إلى أن أكون جزءاً من عملية صنع الأفلام، وكان يحثني ويدفعني نحو هذا الاتجاه. لذا في البداية، أردت أن أحقق أمنية والدي، فالتحقت بمعاهد سينمائية مختلفة، وخطوة فخطوة أصبحت واعياً للعملية، ووقعت في غرام لغز التصوير. خطوة خطوة أنت تصفّي نفسك، والعملية عندئذ تصير خاصة بك، وهي تصفّي رحلتك الخاصة.
– حدّثنا عن عملك في فيلم “القيامة الآن”..
* أدركت في تلك المرحلة من حياتي ضرورة أن لا أكون بريئاً بعد الآن، وأن أكون واعياً لما أفعله. كان ذلك التغيّر واحداً من أكثر تحولاتي أهميةً في حياتي. فقط عندما تكون الأمور واضحة وجلية، يمكن للتغيير أن يحدث في حياتك. والسينما تمنحك فرصة عظيمة لتعلّم أشياء جديدة عن نفسك. يجب أن تظل تلميذاً على الدوام، وأن تستمر في التعلّم. وعملي في “القيامة الآن” ساعدني في إدراك ذلك.
– الفيلم هو حقاً الشكل الفني الوحيد الذي تجتمع فيه كل الأشكال الفنية الأخرى، أليس كذلك؟
* ما تقوله مهم جداً، خصوصاً في الوقت الحاضر. المتاحف اليوم لا تستطيع أن تقدّم للجمهور الرسوم أو اللوحات أو المنحوتات فحسب. الفن البصري صار يتخطى ذلك. في كل قرن يهيمن شكل فني ما، وفي هذا القرن هيمنت السينما، ولا شك في ذلك.
– لنتحدث عن “آخر تانغو في باريس”، وقت تصوير الفيلم، هل كنت مدركاً لما سوف يمارسه الفيلم من تأثير، وما سوف يثيره من جدل؟
* لا. عادةً عندما تعمل في مشروع ما، تلك الأشياء لا تخطر في بالك. أنت تنجز عملك فحسب، لأنك تشعر بأن تلك هي الطريقة الصحيحة لإنجاز ذلك. حتى مع فيلم “آخر تانغو”، في وقت تنفيذ العمل، لم نكن نفكّر في ردود فعل الآخرين. بالنظر إلى الفيلم الآن، أعتقد أنه الفيلم الذي سوف يفتح نطاقاً جديداً في عالم الفن البصري.
– أنا متلهف لمشاهدة فيلمك الجديد عن الفنان غويا. من هم الرسامون الذين مارسوا عليك تأثيراً كبيراً؟
* بالعودة إلى الوراء، أستطيع أن أقول كارافاجيو. نظراً لكوني إيطالياً فمن الطبيعي والجليّ أن يكون هو اختياري الأول، بالإضافة إلى طريقة تعامله مع الضوء والعتمة. لقد قدّم لي البرهان على أنه كان الوحيد الذي حقاً تخيّل رحلة الضوء. وليام فوكنر كتب في إحدى قصصه عن شعاع الشمس المسافر نحو حجرة ما بطريقة مماثلة لما فعله كارافاجيو في لوحاته. هذان العنصران مكثا في ذاكرتي وأثّرا فيّ كثيراً.
– عندما تصوّر فيلماً، خصوصاً إذا كان ذا مدى شاسع، كما الحال مع فيلم “1900” أو “القيامة الآن”، هل تلجأ إلى رسم اللقطات قبل التصوير؟
* لا. لا أقدر على ذلك. كارلوس ساورا بارع جداً في رسم اللقطات. لكنني أستخدم عناصر أخرى لتخيّل المشاهد في نسختي من السيناريو. هذه النسخة تكون مليئة دوماً باللوحات، ليست لوحات خاصة بفنان تشكيلي معيّن، لكن أية صورة تساعدني على الاتصال بالسيناريو. أنت دائماً تحتاج إلى أن تكون لديك فكرة قوية جداً لتعبّر عنها. ما هي الفكرة الرئيسية للفيلم؟ ما هي الفكرة التي سوف تقود المشروع في الاتجاه الصحيح؟ حالما تعرف ذلك، يكون بوسعك أن تستوعب السيناريو، ويتعيّن عليك أن تجعله خاصاً بك في فهم ما تكونه الفكرة العامة الرئيسية للمشروع بصرياً. كيف يمكنني أن أسرد القصة من خلال الضوء واللون. أنا حقاً أؤمن أن الكائن البشري لا يرى بعينيه فقط، بل بجسده كله. جسدك يتفاعل عاطفياً مع ألوان مختلفة من دون أن تعرف ذلك، هل تعلم هذا؟ إنك تشعر بالحب، بالكره، بالصواب، بالخطأ، حتى من غير أن تعرف ذلك. حين يكون الفيلم في توازن مع كل عناصره: التكوينات البصرية، الموسيقى، المونتاج، الأداء.. عندئذ ينجح الفيلم.
– أتذكّر أن أول فيلم جعلني أعي للتأثيرات العاطفية للون كان فيلم أنتونيوني “تكبير” Blow Up (1966)..
* نعم. أنتونيوني كان واحداً من بضعة مخرجين درسوا معنى اللون. سيرجي أيزنشتاين ألّف كتاباً شهيراً عن اللون، مع أنه أخرج فيلماً واحداً ملوّناً هو “إيفان الرهيب، الجزء الثاني”. طوال نصه، قام بتدوين ملاحظات دقيقة عن الرحلة اللونية. اللون يمكن أن يُستخدم كلغة. للأسف، صانعو الأفلام الجدد، في يومنا، يبدو أنهم يفضّلون إخبار الجمهور، بشكل مباشر، ما يحدث وعن ماذا تدور القصة، بدلاً من استخدام اللون، تصميم المناظر، الموسيقى، لغة الجسد عند الممثلين، زوايا الكاميرا، في الاتصال مع الجمهور.
إضافة إلى التلفزيون، نحن الآن اعتدنا على مشاهدة الصور على شاشة صغيرة جداً، والطريقة الأصلية لصنع الفيلم على الشاشة الواسعة لا تكون ناجحة على الشاشة الصغيرة. إن أغلب المخرجين اليوم يصنعون الأفلام وفي أذهانهم التلفزيون، وهذا خطأ كبير. قريباً، هذه الأفلام سوف تخضع للتكبير مع تضخم شاشات التلفزيون وتحسّن جودتها وخاصياتها، والنتيجة لن تكون في صالح هذه الأفلام. لذا أعتقد أننا سوف نتّجه إلى أفلام من فترات أخرى.
نحتاج إلى جيل جديد من صانعي الأفلام الذين سوف يحاولون إعادة تثقيف الجمهور، وصنع أفلام بطريقة متوازنة أكثر. السينما هي توازن بين ثلاثة عناصر: الصور، الموسيقى، الكلمات. إذا استخدمت التوازن، فسوف تكون لديك وسيلة مثالية لاستعمال السينما بطريقة حديثة.
– حدّثنا أكثر عن تجربتك في فيلم “القيامة الآن”..
* مرّت على هذه التجربة سنوات طويلة. من غير شك، الفيلم غيّر جميع المشاركين فيه أكثر من أي مشروع آخر أشتغلنا فيه. ليس فقط بسبب ما كابدناه من مشقة بدنية وما استغرقه التنفيذ من وقت طويل، بل أيضاً بسبب معنى الفيلم، الذي كان عبارة عن رحلة فيها يتعلّم ويلارد، الشخصية الرئيسية، أشياء عديدة عن طبيعة الإنسان وعن الحياة. مثل “قلب الظلام”، هو أيضاً عن كيف يمكن لثقافة ما أن تؤثّر على ثقافة أخرى حين تحاول أن تسيطر وتسود. طوال التاريخ، نجد حضارة ما تظن أنها تفعل الخير في محاولتها لتدمير حضارة أخرى.. مثلما فعل الإسبان في أميركا الجنوبية، على سبيل المثال. “القيامة الآن” هو في الواقع مجاز. لقد كان من الصعب أن نجد مشروعاً آخر، بعد “القيامة الآن”، يمكن الوقوع في غرامه.
– أعرف أن العلاقة بين المخرج والمصور هي علاقة حميمة جداً. حدّثنا عن علاقتك بفرانسس كوبولا، الذي عملت معه في أكثر من فيلم..
* يجب علينا أن نتذكّر دائماً أن السينما عمل جماعي، وليس فردياً. مع ذلك نحتاج إلى قائد يأخذنا في رحلة. وذلك القائد الروحي هو بلا شك المخرج. نحن نحتاج إلى هذا الشخص ليساعدنا في الذهاب معاً في الاتجاه ذاته، وكوبولا أستاذ في ذلك. هو أيضاً منحني حرية أكبر في تمديد نفسي أكثر من أي شخص آخر. ليس ثمة أي اختلاف بين حياة كوبولا الخاصة وحياته العامة. حياته كلها مرتكزة على العائلة. في الموقع، عائلته دوماً حاضرة، والذين يعملون في فيلمه يعتبرهم عائلته. حتى عندما نزوره في بيته، يرحّب بنا كما لو كنا أفراداً من عائلته.
– حدّثنا عن عملك مع وارن بيتي في فيلميه “الحمر” و”ديك تريسي”..
* في البداية، كان وارن يشكّل كابوساً لي. صعب جداً أن تفهم طريقته في الإخراج في البداية. بعد ذلك، بدأت أدرك أنه، باعتباره ممثلاً، ينظر إلى القصة من وجهة نظر الشخصية، من الداخل. كوبولا وبرتولوتشي وآخرون ينظرون إلى القصة من الخارج. عندما فهمت وجهة نظره، وجدت العمل معه أيسر كثيراً. ومعه تعلّمت الكثير عن العلاقة بين القصة والشخصية.
– هل كان تصوير “ديك تريسي” صعباً بسبب محدودية المخطط اللوني؟
* نعم ولا. التعبيرية الألمانية أثّرت في الأشكال الفنية أكثر من أي حركة فنية في زمنها: في الرسم والسينما والموسيقى وكتب الرسوم الهزلية comic. قلت لوارن بيتي: “ينبغي على الفيلم أن يكون مثل التعبيرية الألمانية.. عن النزاع بين الألوان المتعارضة”. كانوا يستخدمون ألواناً متعارضة عديدة جنباً إلى جنب لخلق النزاع بصرياً. كان نموذجاً للرسم الذي هو قوي جداً سياسياً، وينجح على نحو رائع. بالتالي ذلك ما كان يدور في أذهاننا.
– ما الذي يتعيّن على المخرج أن يبحث عنه حين يستخدم مصوراً، وبالعكس، ما الذي يتعيّن على المصوّر أن يبحث عنه قبل أن يعمل مع المخرج؟
* لا أستطيع الإجابة على الشطر الأول من السؤال، لأنه موجّه إلى المخرج. منذ اللحظة الأولى من لقائي بالمخرج أحاول أن أعبّر عن نفسي. وأنت تقبل أو ترفض بناءً على احساسك بأن هذه القصة وهذا المخرج يذهبان إلى الاتجاه ذاته الذي تذهب إليه. إذا شعرت بأنك منجذب إلى القصة وإلى رؤية المخرج، فعندئذ يتعيّن عليك أن تنفّذه. وينبغي أن تكون هناك أرضية مشتركة. إذا شعرت بارتياح تجاه كل هذه العناصر، عندئذ يكون المخرج هو الشخص المناسب. أحياناً تلتقي بأشخاص رائعين وموهوبين، لكن لسبب ما، لا تشعر بالارتياح فتعتذر عن العمل، ذلك لأنهم لا يمضون في الاتجاه نفسه الذي تمضي إليه في ذلك الحين. ثمة دائماً شيء بداخلك، والذي سوف يدفعك في الاتجاه المناسب الذي سوف تكتشفه من خلال الكتابة أو الموسيقى أو الأداء، والذي سوف يساعدك في اكتشاف من تكون وما معنى حياتك. هذا سوف يساعدك على النمو، ويساعدك على تعلّم شيء عن نفسك. في المقابل، تستطيع أن تعطي هذه الموهبة إلى شخص آخر: أطفالك، تلاميذك، جمهورك. إنك تتقاسم معهم هذه الروح. وبفعل ذلك تشعر بأنك طرف في الرحلة الإنسانية.