” جوع كلبك “: عندما يبكي الشعب الحاكم المتحكم!
العنوان ودلالته
“جوع كلبك”، عبارة مقتطعة، من مثل عربي شهير يردده المغاربة في التعبير عن ضرورة تجويع التابع / الكلب، وجعله يلهث من شدة المسغبة، إن كنت تريده التعلق بك والتملق لك، لكي تمنحه كسرة خبز يسد بها رمقه، الكلب إذا شبع ترك صاحبه، وراح يلهوبعيدا ناسيا متناسيا، كرم صاحبه وسلطته عليه.. (1)
هشام العسري، يفتتح شريطه، بمشهد إمرأة فقيرة تحتج وتشكو الحال، حال الفاقة والحاجة والمسكنة، الناتجة عن الأوضاع الاقتصادية والإجتماعية والسياسية للبلد، شكوى ستتغير في نهاية الإحتجاج بترديد جملة خارجة عن سياق الشكوى، جملة ترفع من شأن الحاكم وتمجده بشكل لا عقلاني، معتبرة إياه، الشخص الوحيد الموجود، الخادم الأوحد بهذا البلد.
الجملة التي ترددها المرأة، تلخص لنا بشكل مباشر، مفهوم عنوان الفيلم وتضعنا مباشرة،على سكة الفهم الصحيح للفيلم، جملة تحيلنا على مشهد دال من مشاهد الفيلم الروائي الطويل الأول لهشام العسري المعنون ب ” النهاية “، مشهد الإعلان عن موت الحاكم المتحكم، وخروج الجموع الشعبية للشوارع باكية نادبة حظها، بسبب رحيله وخسارة قوة وجوده، حاكم إرتبطت مرحلة حكمه بإنعدام الحريات العامة، والضرب بيد من حديد، كل من سولت له النفس الجهر بالمعارضة والرفض، وإختطاف اليساريين المتمردين ودفن بعضهم أحياء، هي مرحلة ما يسمى، في الأدبيات السياسية والحقوقية المغربية بسنوات الرصاص. فالعاهرة التي تبيع جسدها وكرامتها على الرصيف بشكل مذل، تصاب بحالة انهيار شديد، وهستيريا غير معقولة، وهي تردد ” أربي شنوغادي ندير، شنوغادي يوقع لينا ” ( يا الله ماذا سأفعل، ماذا سيحل بنا )، راكضة في كل الإتجاهات على غير هدى. الشعب المتعود على القهر، يحس باليتم القاهر، عندما يرحل عن دنياه حاكمه المبجل.
الفيلم وعوالمه
في فيلم ” جوع كلبك ” لا يخرج هشام العسري عن عوالمه الأليفة، عوالم القهر والفقر والتسلط، والعيش على إيقاع الذكريات المظلمة المأفونة، ذكريات سنوات الرصاص والتسلط الأعمى، لرجل كان فيما مضى وزيرا للداخلية إسمه إدريس البصري، وزير بصم مسار المغرب ببصمته الخاصة، من خلال ترويضه النفوس المتمردة، وتغييب من استعصى على السمعة والطاعة، وراء الشمس والجدران العالية، وكتم أنفاس الطاقات المتحررة الساعية للبحث عن حزمة من النور والحرية، سنوات من التسلط الأعمى، بإسم الأمن والأمان وحفظ وحدة المغرب والمغاربة ، لكن نهايته جاءت بئيسة مذلة، بعد رحيل السلطة والجاه وموت السيد، الذي منحه كل الإمتيازات والسلط ، وليجد نفسه في النهاية، يمضغ أحزانه ويعيش على ذكريات قوة ماضية سلبت منه، يعيش ممزقا مترددا خائفا، دون قوة أوجاه أومجد، انفضت من حوله جموع التملق، ورحلت فرق التمسح والتسول، محاطا بكثرة المتربصين والأعداء وطالبي الثأر وتنكر وهروب الأصدقاء.
صحفية تريد إجراء حوار معه، تريد سبر أغواره النفسية وتوثيق ذكرياته السياسية، لكنها تجد نفسها رفقة فريق التصوير، في مأزق الواقع المهني، البعيد عن الحرفية، ورجل يعيش على الأوهام والهلوسات المهزوزة، البعيدة عن منطق التسجيل والتوثيق، القادرة على إفادتنا بشهادات تخدم روح عصرنا، وتجعلنا نتجاوز عذاباتنا المغربية الماضية، الموغلة في الذكريات الضاغطة، على الصدور والنفوس، ذكريات تحضر عند كل الشخصيات المتواجدة داخل أستوديوالتصوير، متجلية في سلوكياتها العدوانية الموروثة عن عصر لا زالت آثاره بادية واضحة ، عدوانية ولا مهنية، عايناها في الفيلم الروائي الثاني لهشام العسري ” هم الكلاب “، مما يجعلنا نفهم أنه بصدد تقديم أفلام متتالية متقاطعة من حيث الإشتغال على تيمات واضحة لمغرب اليوم، مغرب ” النماء ” و” التقدم ” و”الإزدهار” كما تردد في الجرائد والقنوات والإذاعات الرسمية.
تبقى ملاحظة أخيرة، نتفق شكلا ومضمونا حولها، ملاحظة أوردها الناقد السينمائي الأستاذ أمير العمري في مقالة له عن الفيلم، تتعلق بمدى تجاوب المتفرج غير المغربي مع قصة إدريس البصري، قصة لا يعرفها فصولها إلا المغاربة، وبعض المهتمين بالعوالم السياسية، ولا يمكن أن تكون مادة تهم، الذين لا يعرفون من تكون هذه الشخصية الإشكالية في تاريخ المغرب المعاصر، اللهم الاستفادة من عبر الزمن الغادر المطيح بالقامات المتعالية.
الرؤية الفنية والتقنية
هشام عود عشاق منجزاته السينمائية ورافضوها، في نفس الآن، على أسلوبه المخالف في الحكي ومسك الكاميرا بطريقة مختلفة، ووضعها في أماكن لا توضع عادة فيها، وترويضها لسرد ما يحكى وما لا يحكى، بطريقة لا تسرد غير القصص المبعثرة، وعوالم الشخصيات المهلهلة، مثلما تقدم رسائل مشفرة وأخرى جد واضحة، عن واقع مغربي، لا نجده إلا في الأحياء القصديرية الهامشية، والأقبية السجنية المظلمة، والشوارع الخلفية المعتمة، واللحظات الإنسانية السوريالية المفارقة للواقع، لحظات لا يجد فيها الإنسان نفسه إنسان، بل ” حيوان” خاضع للتدجين والتسلط والقهر، من خلال رؤى تقنية عصية على التصنيف والحصر في خانة محددة.
المخرج هشام العسري
الناقد محمد اشويكة يقول عن أسلوب العسري السينمائي، انه مخرج ” يمتح من السينما المستقلة، وحركة “دوغما” في الدانمارك، والواقعية الجديدة، والسينما السياسية، وسينما التجريب، والموجة الجديدة، وغيرها من التيارات والإتجاهات الفنية التي تجاوزت الرؤى المحنطة لسينما الأستوديو وسينما النجوم”، لكنني أعتقد أن هناك نوعا من المبالغة في إعتبار أسلوب العسري السينمائي، تجميع لكل هذه الأساليب، وإشتغال عليها وبها، لصنع سينماه الخاصة.
العسري بالنسبة لي، مخرج يمتلك اسلوبه الخاص، قد يكون متقاطعا مع أساليب ومدارس سينمائية عالمية، لكنه تقاطع وحضور غير مرئي، تقاطع وحضور وهمي، غير مؤسس على جماليات محددة بخلفيات مضبوطة أومرجعيات متداخلة، اللهم ” فلسفته ” الخاصة المتمردة، في كسر المفاهيم السينمائية المعروفة، والتلاعب بالكاميرا وقلب الكادرات وجعل الأزمنة متداخلة.
صحيح انه في كل فيلم يجرب ويبحث ويستفز، لكنه تجريب وبحث واستفزاز من داخل أشكال الحكي المغربي التراثي والمعيش اليومي للشباب المهمش في الأحياء الهامشية، والناس البسطاء في القرى المرمية، وجموع المعتوهين والسكارى في المطارح والأزقة الخلفية، والخارجين عن الحق والقانون وقيم المجتمع وأعرافه المتكلسة المتحجرة.
أسلوبه السينمائي المختلف المتوحد في نفس الآن، مع الأساليب التي وظفها في أعماله السابقة، لا يسعف الجمهور الواسع، ولا يلبي حاجيات المتفرج الأعمى بصرا وبصيرة، ولا يرضي عشاق الرسائل المباشرة، الباحثين عن المشاهدة المكتسبة من الأفلام التجارية الفجة، بل يخاطب الأفئدة اليقظة، والنفوس المتوهجة، الباحثة عن معاني أخرى فيما ترى في الواقع، وما تستقبل من صور على الشاشات السينمائية، مثلما يدفع للبحث ومحاولة إستكناه تاريخ المقهورين، وحكايات الجبابرة المتنفذين والمستفدين ز المختبئين وراء سلطهم الزائفة، سلط اكتسبوها بالفهلوة أوبمكر الصدفة.
في الختام
يقول كروتشي: ” الفن هو الحدس، وأن كل حدس لا بد أن يكون تعبير، وأنه لا يمكن فصل احدهما عن الآخر”، وفيلم جوع كلبك حدس حقيقي وتعبير عن مكنونات تاريخية لم يعد يلتفت لها أحد، رغم قربها زمنيا من زماننا، نعيش آثارها القائمة بقوة التسلسل والضغط الإقتصادي والسياسي والإجتماعي، وإن كان بشكل أكثر مرونة و ذكاء، لكن مشاهداتنا لا تسمح لنا بتوقع ما سيحدث، بل نعيش توترا نفسيا خاصا، توتر لا نعرف مصدره ولا يتركنا نعيش اللحظة في نشوتها السينمائية، بل نشوة ممتدة إمتداد آلام البشر، نخرج بعد نهاية الفيلم ونحن لم نعد كما كنا.
سألني هشام العسري، ونحن نتبادل اطراف الحديث في مواضيع عدة، واخبره أنني شاهدت فيلم “جوع كلبك” في عرض خاص من تنظيم جمعية سينمائية بمدينة الرباط، ما رأيك في الفيلم ؟ “، أجبته بكثير من الإرتباك والصدق “والله، لا اعرف لحد الساعة، هل فيلمك فيلم ممتع، أم مجرد هلوسات وقضاء للوقت والقدر”.
فعلا، هي كذلك الأفلام المختلفة فنيا وتقنيا ورؤية للعالم والوجود، تتركنا خارج سياقات الفهم والقناعة والمرجعيات الثقافية والفنية.
(1) ” جوع كلبك يتبعك ” مثل عربي شهير
ويروى، أجع كلبك. وكلاهما يضرب في معاشرة اللئام، وما ينبغي أن يعاملوا به. قال المفضل: أول من قال ذلك، ملك من ملوك حمير، كان عنيفاً على أهل مملكته، يغصبهم أموالهم، ويسلبهم ما في أيديهم. وكانت الكهنة تخبره أنهم سيقتلونه فلا يحفل بذلك. وإن امرأته سمعت أصوات السؤال فقالت: إني لأرحم هؤلاء لما يلقون من الجهد ونحن في العيش الرغد، وإني لأخاف عليك أن يصيروا سباعاً وقد كانوا لنا أتباعاً. فرد عليها: جوع كلبك يتبعك. وأرسلها مثلاً. فلبث بذلك زماناً، ثم أغزاهم فغنموا ولم يقسم فيهم شيئاً، فلما خرجوا من عنده قالوا لأخيه وهوأميرهم: قد ترى ما نحن فيه من الجهد، ونحن نكره خروج الملك منكم أهل البيت إلى غيركم فساعدنا على قتل أخيك واجلس مكانه، وكان قد عرف بغيه واعتداءه عليهم فأجابهم إلى ذلك، فوثبوا عليه فقتلوه. فمر به عامر بن جذيمة وهومقتول، وقد سمع بقوله: جوع كلبك يتبعك. فقال: ربما أكل الكلب مؤدبه إذا لم ينل شبعه. فأرسلها مثلاً.