بحب “السيما”: عندما كان أبي يصلي داخل دار السينما!

مع الإعتذار لعنوان الفيلم “بحب السيما” لكني لم أجد أفضل من هذا العنوان لكي أعبر عن حبي وعشقي للسينما، ولست أدري لماذا كنا نطلق كلمة السينما “السيما” في حي مصر القديمة الذي نشأت فيه وغيره من الأحياء الشعبية المصرية وذلك بحذف النون فتصبح “سيما”، وأعتقد أن هذا تم بغرض تخفيف النطق على أولاد البلد.

ولست أدري ولا أتذكر على وجه التحديد متى كانت أول مرة شاهدت فيها السينما، ولكني أعتقد أن أول مرة كانت عندما كنا نزور بعض الأقارب والذين كانوا يسكنون في حي منيل الروضة على النيل أمام سينما الجزيرة الصيفية مباشرة، وكنت أسعد جدا بزيارتهم حيث كنا نأكل العنب البناتي المثلج في البلكونة صيفا ونشاهد فيلما ببلاش..وبالرغم من بعد المسافة عن الشاشة إلا أننا كنا نسمع الصوت واضحا، وأعتقد أن أول فيلم كان فيلم فريد الأطرش “تعالي سلم” ومازلت أذكر أغانيه مع رقص سامية جمال، وكنت دائما أحب زيارة هؤلاء الأقارب واسعي لها ولم يعرف أبي وأمي أبدا سر غرامي بزيارة هؤلاء الأقارب بالرغم من أنه لم يكن لديهم أطفال من سني (سبع سنوات وقتها) وأعتقدوا أنني ولد نجيب أحب صلة الأهل والأقارب!!

في مصر القديمة

ومنذ ذلك العمر المبكر (سبع سنوات) عرفت طريقي للسينما، وكان حي مصر القديمة الشعبي الذي ولدت به يقع بالقرب من حي الطبقة الوسطى،حي منيل الروضة حيث كانت هناك ثلاث دور سينما صيفي هي: الجزيرة وجرين بالاس والروضة ودار سينما شتوي هي سينما ميراندا وهي الأقرب لنا وهي الوحيدة التي مازالت موجودة حتى الآن وتغير إسمها إلي سينما فاتن حمامة. وكنت أذهب لمدرستي في حي السيدة زينب حيث كان هناك ثلاث دور سينما شتوي سينما الشرق وسينما الأهلي (ميدان السيدة زينب) وسينما إيزيس بجوار مسجد أحمد بن طولون، وكانت هناك سينما قريبة أخرى في حي المدبح إسمها سينما إبن البلد (وكنا نطلق عليها سيما بنت البلد!! ربما لأننا كنا نعتقد أن “السيما” مؤنث)!

وفي هذا الوقت تعرفت إلي سلسلة أفلام إسماعيل يس في: (الجيش – البوليس – الطيران – الأسطول – في مستشفى المجانين) وكنا ونحن أطفال نموت على أنفسنا ضحكا علىتلك الأفلام،ورحم الله إسماعيل يس والذي وضع ضحكات الطفولة على شفاهنا في وقت مبكر جدا بالرغم من أن قيمتها الفنية قليلة بالقياس لأقوال النقاد، وكان أحد أسباب الأفلام العسكرية لإسماعيل يس هو محاولة الحكام العسكر في تحبيب الشعب المصري في جيشه بكافة فروعه، ولا أنسى أبدا الشاويش عطية (رياض القصبجي) الذي كان في كل أفلام إسماعيل يس العسكرية، حتى أنه في فيلم إسماعيل يس في الأسطول وهو فيلم تالي لفيلمه الأول “إسماعيل يس في الجيش” قال قولة مشهورة صارت مثلا: (هو ..هو بغباوته ووشه العكر) ويمكن مشادة المشهد على الربط التالي:

اسماعيل يس

وبعد حقبة إسماعيل يس إكتشفت سينما إيزيس بالسيدة زينب وكانت تعرض فقط أفلاما أمريكية قديمة، وهناك فتحت لي طاقة أشبه بطاقة ليلة القدر، فشاهدت أفلاما بمستوى آخر تماما، وكنت أشاهد ثلاثةأفلام في نفس البروجرام، وهناك تعرفت على شارلي شابلن ولوريل وهاردي وكلارك جيبل وجون واين وإنجريد برجمان ومارلين مونرو وهمفري بوجارد وجريجوري بيك وجاري كوبر، ووقعت في غرام أفلام الكاوي بوي ثم انتقلت إلي مرحلة الأفلام الموسيقية الغنائية الإستعراضية وحلمت بأن أرقص مثل فريد إستير وجين كيلي وجنجر روجر وأغني مثل ودرويس داي.

وفي مرحلة الجامعة تعرفت إلي دور سينما وسط البلد في القاهرة: سينما مترو وسينما كايرو وسينما راديو وسينما قصر النيل وسينما أوبرا وهناك شاهدت أفلاما عظيمة مثل لوارنس وفيلم مدافع نافرون وطفل روز ماري وسيدتي الجميلة وصوت الموسيقى وأفلام جيمس بوند ووقعت في غرام نجوم مثل جاك ليمون ووالتر ماثاو وشيرلي ماكلين وجولي أندروز وشون كونري، ثم كانت مرحلة الإعجاب مرة أخرى بأفلام الكاوي بوي عند إكتشافي ل كلينت إيستوود.

ثم بدأت رحلة أفلام الخيال العلمي مع حرب النجوم وإي تي والقائمة تطول، وأنا أعتقد أن السينما هي أعظم الفنون لأنها تضم كل الفنون: الأدب (القصة) الموسيقى والتصوير والتمثيل والإضاءة والماكياج والملابس والديكور.

لقطة من فيلم “بحب السيما”

ولقد نشأت في أسرة شديدة التدين وكانت السينما في منزلنا من الممنوعات، وأذكرأن والدي الأزهري قد حكى لنا أنه دخل السينما مرة واحدة في حياته وذلك بإيعاز من الشيطان وبصبحة صديق سوء (على حد قوله) ، ووصف شعوره أنه عندما دخل السينما وتم إطفاء الأنوار شعر بإكتئاب شديد ولم يعجب أبدا بالفيلم المعروض، وعندما حان وقت صلاة العشاء ترك مشاهدة الفيلم وفرش على ممر السينما الجريدة وبدأ في الصلاة حتى أن الناس في دور العرض تركوا مشاهدة الفيلم وأخذوا في مشاهدة والدي وهو يؤدي صلاة العشاء في ممر السينما!

شيء مقدس

وعندما كنت أذهب للسينما كنت كأنني أذهب لأداء شئ مقدس أو كأنني ذاهب لمقابلة محبوبتي، وفي معظم الأحيان كنت أذهب بدون أخذ أذن من والدي، والقاهرة كانت مدينة شديدة الأمن والأمان حتى أنني بدأت الذهاب للسينما بمفردي أو مع زملاء من عمري ولم أتجاوز سن العاشرة وفي المرات القليلة التي أستأذنت والدي للذهاب إلي السينما كنت أقول له أنني أريد مشاهدة فيلم “ظهور الإسلام” وكان يسمح لي بالذهاب وكنت أعتمد على أن ذاكرته ضعيفة بعض الشئ، ولكنه ضبطني في مرة من المرات بعد أن تكرر موضوع “ظهور الإسلام” فقال لي مرة:“هو السينما إللي بتروحها دي مافيهاش إلا فيلم ظهور الإسلام”، وبعدها تغيرت قصتي مع والدي وبدأت أقول له :”أنا ذاهب لمشاهدة فيلم الناصر صلاح الدين” وأعتقد أن والدي رحمه الله كان “ياكلها بمزاجه”!!

وعندما تخرجت من كلية الهندسة فكرت في دخول معهد السينما لدراسة كتابة السيناريو، ولكنني جبنت أن أواجه والدي واسرتي وأكتفيت بالعمل كمهندس ومشاهدة الإفلام.

وعندما هاجرت إلي أمريكا إستمر ولعي بالسينما الذي إنتقل لحسن حظي لإبنتي الكبرى والتي درست السينما في جامعة فلوريدا وتعمل حاليا في نيويورك في طريقها بأول السلم لكي تصبح مخرجة ومنتجة وأنا أرى حلمي في السينما يتحقق فيها بشكل لم أكن أحلم به.

وللسينما الفضل الكبير في تكويني الثقافي فقد جعلتني أحلق في أنحاء العالم وفي الخيال قبل إختراع الإنترنت بكثير، جعلتني أحب الحياة وأحب الفكاهة وأحب الرومانسية، خلقت لدي عالم ممزوج من الواقع والحلم وجعلتني أؤمن بأن الخير سينتصر أخيرا دائما مثلما يحدث في الأفلام، حتى لو بدا أن الشر أقوى من الخير، ولكني وبفضل السينما فعلت وسأفعل الخير دائما حتى ينتصر “شجيع السيما” دائما وقبل ظهور كادر النهاية السعيدة.

في غزة

في عام 1994 كنت أذهب كثيرا إلي غزة للعمل كمدير مشروع لبناء مجمع سكني ممول من الحكومة الأمريكية في منطقة جباليا، ولأول مرة كنت أتجول في وسط غزة شاهدت مبنى وعليه آثار حريق، وسألت صديق فلسطيني: ما هذا المبنى؟ فقال: تلك كانت دار السينما الوحيدة في غزة؟ فسألته وكيف حدث الحريق؟ فقال: جماعة من حماس قاموا بحرقها! ولم يجرؤ أحد بعدها على إصلاحها. فقلت له: البلد التي لا يوجد بها دار سينما لن تعرف الرومانسية ولا الفن وتقع خارج التاريخ.

Visited 158 times, 1 visit(s) today