“أشلاء نقدية” لخليل الدمون: عندما تشتبك الذات مع الذاكرة

Print Friendly, PDF & Email

انطلاقا من تسعينيات القرن الماضي، بدأ الكثير من النقاد السينمائيين المغاربة يفكرون بجدية في جمع منجزهم النقدي، ولم شتاته ضمن مؤلف يتم طبعه و نشره وتداوله. ولاشك أن ما دعاهم إلى ذلك خوفهم على هذا المنجز من التلف والضياع حتى وإن كان الكثير منه قد عرف طريقه إلى النشر في بعض الجرائد والمجلات سواء داخل المغرب أو خارجه.
 

 لكن اللافت للانتباه أن جزءا كبيرا من نقاد الجيل الأول– الذي تربى في أحضان الجامعة الوطنية لأندية السينما– قد تأخر كثيرا في دخول مغامرة التأليف لأسباب لا يعرف الكثير من خفاياها إلا صاحبها، ومن ضمن هؤلاء النقاد خليل الدمون الذي ولج حلبة النقد السينمائي ولو في بعده الشفوي نهاية السبعينيات من القرن الماضي، واشتهر منذ ذلك الحين بنشاطه الدؤوب ومساهمته الفعالة في الشأن السينمائي المغربي، فقد شغل مهمة كاتب عام الجامعة الوطنية للأندية السينمائية، وكان عضوا بهيئة تحرير مجلة دراسات سينمائية، ومديرا للمجلة المغربية للأبحاث السينمائية،  وهوالآن رئيس الجمعية المغربية لنقاد السينما.   

                                                                                    

تنوع في المواضيع
لم يفرج خليل الدمون عما في ذاكرته النقدية المكتوبة من شذرات سينمائية إلا بداية العقد الثاني من القرن العشرين، من خلال تأليف كتاب نقدي سماء أشلاء نقدية. ويقع هذا الكتاب في مائتين وثمان وعشرين صفحة من القطع المتوسط، وقد صدر عن مطبعة سليكي أخوين بمدينة طنجة سنة 2014. ويضم بين دفتيه بالإضافة إلى مقدمة أربعة فصول يتشكل كل واحد منها من مجموعة من المباحث.                                       

في المقدمة أكد الكاتب أن مجال السينما بالمغرب لم يؤسس بعد ثوابته الأساسية سواء على مستوى الإبداع أوعلى مستوى النقد، وفي الفصل الأول عرض لجملة من قضايا السينما بالمغرب ويتعلق الأمر بخصائص القراءات الأولى للفيلم المغربي، وواقع الإنتاج السينمائي المغربي، ومشاكل دعم السينما بالمغرب، ومآل المناظرات التي عقدت حول السينما بالمغرب، وعثرات المهرجان الوطني للفيلم، ووضعية ثقافة الصورة بالمدرسة المغربية. وفي الفصل الثاني أثار مجموعة من القضايا النقدية كصورة المرأة في الفيلم المغربي، وتطور النقد السينمائي المغربي، وعلاقة الأدب بالسينما. وفي الفصل الثالث لامس جملة من قضايا السينما العربية كسؤال الهوية في النقد والإبداع السينمائيين العربيين، وإشكالية الواقع في السينما العربية، ومكونات مشروع يوسف شاهين السينمائي. وفي الفصل الرابع أنجز مجموعة من المقاربات النقدية لأفلام مغربية  وغربية ويتعلق الأمر خصوصا بفيلم ذاكرة معتقلة للجيلالي فرحاتي، وفيلم الحال لأحمد المعنوني، وفيلم الشركي لمومن السميحي، وفيلم القربان لتاركوفسكي. كما ضم هذا الفصل قراءات مختصرة لمجموعة من الأفلام العربية والإفريقية، وحديثا عن ثوابث الصنعة السينمائية عند المخرج المغربي الجيلالي فرحاتي.
                                                        
تعدد في الأطروحات
ولاشك أن القارئ الفاحص لهذه المواضيع سيكتشف أن الكاتب قد سعى إلى الترويج لمجموعة من الأطروحات المتصلة بالسينما المغربية والعربية والإفريقية، وتمس هذه الأطروحات قضايا النقد والإنتاج والدعم والاستغلال والتوزيع والإبداع.  

            
          
فالقراءات الأولى للفيلم المغربي استنفذت مهامها، لذلك أصبح لزاما على النقاد المغاربة أن يجددوا أدواتهم النقدية حتى يتمكنوا من مسايرة التحولات  التي عرفتها السينما المغربية، وأن يتحدثوا بصوت عال عن إبداعاتهم لا عن مشاكلهم. والإنتاج السينمائي المغربي بالرغم من تزايد وثيرته، فإنه لا يزال عليلا، ويحتاج إلى استراتيجية جديدة تبعث الحياة في مفاصله. ودعم السينما بالمغرب يشتغل بدون بوصلة لذلك لابد من إعادة النظر في قوانين اشتغاله. واللقاءات التي تنظم حول السينما بالمغرب لا تعدوأن تكون صيحة في واد لأن التوصيات الصادرة عنها لا تجد طريقها إلى التنفيذ. والمهرجان الوطني للفيلم لايزال يراكم الأخطاء التنظيمية والفنية، ولم يستطع بعد التخلص من سلطة القرار المركزي. والمدرسة المغربية – وبفعل إجهاض المحاولات التي سعت إلى جعل الصورة مكونا من مكونات البرنامج الدراسي– لا تتيح إي إمكانية لاستبطان الثقافة السينمائية.


 والمرأة في السينما المغربية لا تقدم في الغالب إلا في صورة مشوهة. والعمل السينمائي المقتبس من الإبداع الأدبي لا يمكن أن تتوفر له أسباب النجاح إلا إذا تخلص من آثار المكتوب. والسينما الهامشية – بالرغم مما تعانيه من حصار في الوطن العربي بكامله –  هي التي بإمكانها أن تقود قطار السينما العربية. والنقد السينمائي العربي الجاد لا زال محاصرا داخل قلاع الأندية والملتقيات. والفيلم الإفريقي قد يتوقف عن الوجود إذا غابت عنه المساعدات الأجنبية. 

                                                                        

تماثل وتباين
تكاد الأطروحات التي يحفل بها هذا الكتاب تكون موضوع اتفاق بين العديد من نقاد السينما في المغرب والعالم العربي. من ذلك مثلا القول بأن الأفلام المغربية لا زالت تعاني من هشاشة إبداعية على الرغم من الإمكانيات المالية التي أصبحت توفرها الدولة للقطاع السينمائي، وأن التوصيات الصادرة عن اللقاءات التي عقدت حول السينما المغربية يطولها من النسيان ما طال الكثير من الأفلام المغربية، وأن السينما الهامشية والنقد المصاحب لها يتعرضان مع سبق الإصرار والترصد لعملية حصار ممنهجة سدت في وجههما  أبواب التداول والانتشار.  

                                                            

والحق أن التطور الذي عرفه الإنتاج السينمائي المغربي على مستوى الكم لم يوازيه تطور على مستوى الكيف، وأن مجمل التوصيات الصادرة عن اللقاءات التي تم تنظيمها حوا السينما المغربية لم تفعل على مستوى الواقع على الرغم من تقدمها سواء على مستوى الصياغة أوعلى مستوى المضمون، وأن الموزعين وأرباب القاعات بالعالم العربي لا يلقون بالا لا إلى السينما الهامشية ولا إلى النقد المصاحب لها.                    

كما يعج الكتاب بمجموعة من الأطروحات من الصعب الأخذ بها والاتفاق بشأنها فنقاد المغرب والعالم العربي مختلفون حولها، من ذلك مثلا القول بأن السينمائيين المغاربة يصنعون أفلامهم في صمت، وأنهم حين يتكلمون يبكون وينتحبون، وأنه لا وجود لتيار واقعي في السينما العربية، مادام السياق الذي أفرز الواقعية في الثقافة الغربية لم يتحقق بعد في العالم العربي.

                                                                             

والواقع أن الصمت الذي يلاحظ على بعض السينمائيين المغاربة ليس خيارا استرتيجيا ولا فلسفة متبناة، وإنما هو نتيجة من نتائج الهامش الضيق الذي تخصصه وسائل الإعلام للشأن السينمائي المغربي بشكل عام، وأن التعبير عن الواقع سواء في صيغته الميكانيكية أو في الإبداعية لا يحتاج لأن يتحقق في السينما العربية إلى نفس السياقات التي أفرزتها في السينما الأوروبية. وإلا لقلنا أن لا مبدع يستطيع أن يعبر عن الواقع في قصيدته أو روايته أو فيلمه غير ذلك الذي نشأ في أحضان الثقافة الغربية.   

    

تفصيل وإجمال
بخصوص القراءات النقدية التي أنجزها الكاتب، نلاحظ أنها اتخذت مسارين اثنين: مسار ركزفيه الكاتب على تجربة السينمائي في بعدها العام، ومسار اختارفيه عملا سينمائيا واشتغل عليه. وهكذا خصص مبحثا لتجربة الجيلالي فرحاتي السينمائية، وخصص المباحث الأخرى لأفلام ذاكرة معتقلة للجيلالي فرحاتي والشركي لمومن السميحي والقربان لأندري تاركوفسكي والحال لأحمد المعنوني. كما نلاحظ أن الكاتب قد اختار أن يقترب من تجارب سينمائية مختلفة منها ما ينتمي للسينما المغربية (فيلم ذاكرة معتقلة) ومنها ما ينتمي للسينما العربية (فيلم بعد الموقعة) ومنها ما ينتمي للسينما الإفريقية (فيلم تيزا) ومنها ما ينتمي للسينما الغربية (القربان).                           


ومن الملاحظ أن الكاتب لم يكن وفيا لمنهج في القراءة  واضح المعالم يستند إلى خلفية نظرية معينة، بل كان يختار في كل مرة مسلكا معينا في المعالجة تغلب عليه في الغالب النزعة الانطباعية التأثرية. ففي تحليله لفيلم ذاكرة معتقلة حقق نوعا من التوازن بين ملامسة البنية الفكرية للحكي والاقتراب الفني من علامات الصورة، فهناك مصاحبة نقدية ناضجة لمجمل مكونات الفيلم من موضوع وحكاية وشخصيات وسيناريو وتصوير ومونتاج وتمثيل. وفي تحليله لفيلم الشركي حضرت طنجة بتاريخها وحاضرها وعشق السينمائيين لها، وغاب النقد وما يفترضه من تفكيك لإشارات العمل المنقود وتأويل لرموزه، ففي هذه المقاربة حديث عن طنجة كفضاء استهوى السينمائيين العالميين وعن محاولة مومن السميحي تصوير هذا الفضاء بكل ما يحمله من دلالات ثقافية وفكرية . وفي تحليله لفيلم الشعب يريد انساق مع لغة المدح والثناء فراكم مجموعة من الأوصاف التي تنوه بالعمل وبمن أنجزه. فبدا التحليل وكأنه تعليق شفوي لا أثر فيه لمقومات المقاربة النقدية الرصينة الواعية بأدوات اشتغالها.     

                                                          

توتر في البناء
الكتاب في أصله مجموعة من المقالات التي كتبت في فترة زمنية ممتدة من سنة 1985 إلى سنة 2014. ولا شك أن الكاتب قد اشتبك مع ذاكرته لكي يجمعها ويلم شتاتها مع ما يقتضي هذا الاشتباك من أخذ ورد. لكن الملاحظ أن هذه المقالات تفتقد في كليتها إلى ذلك الخيط الناظم الذي يحكم اشتغالها، لدرجة يمكن القول معها أننا أمام مسودات لثلاثة كتب على الأقل : كتاب حول السينما المغربية، وكتاب حول السينما الإفريقية وكتاب حول السينما العربية. 

                                                                            

كما يشكو الكتاب من تضخم في المعلومات في بعض من مباحثه. ففي مبحث الإنتاج السينمائي الوطني، أية استراتيجية، هناك حديث عن أربع محطات مرتبطة بالإنتاج السينمائي المغربي خلال مرحلة التسعينيات تتضمن كل محطة مجموعة من المعطيات الرقمية، وهناك رصد لثلاثة أمراض يشكومنها الجسم السينمائي المغربي، وهناك سرد لسبعة مظاهر تجسد الحالة الشاذة التي يعاني منها القطاع السينمائي المغربي، بالإضافة إلى اقتراح ثمانية أهداف للاستراتيجية التي بإمكانها أن تخلص السينما المغربية من علتها. وقل الشيء ذاته عن المبحث المعنون بالسنة الأولى بعد المناظرة. ففي هذا المبحث أيضا الكثير من القضايا الفرعية أحصيت منها ستا وخمسين. 

                       

ومن الظواهر اللافتة للانتباه تقسيم الشق النظري من هذا الكتاب ثلاثة أقسام : قسم مخصص لقضايا السينما بالمغرب، وقسم مخصص لقضايا نقدية وقسم مخصص لقضايا السينما العربية. ودونما الدخول في تفاصيل إشكالية مدى انسجام العناوين مع محمولاتها فإنه من الصعب افتراض المبررات التي جعلت الكاتب يفصل بين قضايا السينما في المغرب وقضايا نقدية خصوصا وأن قضية كالنقد السينمائي المغربي قد تم الحديث عنها في القسم الأول مثلما تم الحديث عنها في القسم الثاني. أما القسم المتعلق بالقراءات فيبدو منفصلا عما ورد قبله اللهم إذا اعتبرنا أن كل حديث نظري عن السينما يستوجب قراءة فيلم سينمائي بغض النظر عما يكون بين الحديث النظري والقراءة الفيلمية من تباين واختلاف.



ومما يمكن أن نسجل في هذا الشأن أيضا أن مبحثين من مباحث هذا الكتاب قد تم إقحامهما في الشق التطبيقي، ويتعلق الأمر بمبحث السينما الإفريقية ومبحث السينما والثورة، فالمبحث الأول هو أقرب ما يكون إلى المقالة النقدية النظرية منه إلى المقالة التطبيقية، فمن أصل سبع صفحات هناك فقط صفحتان ونصف لقراءة فيلمين سينمائيين. أما المبحث الثاني فهوعبارة عن مقالة إخبارية كانت الغاية منها تقديم معلومات عامة عن جملة من الأفلام التي شاركت في مهرجان قرطاج، مع إصدار بعض الأحكام الانطباعية التأثرية عن هذه الأفلام.

                                                                        

قلق في العبارة
تبدو العبارة النقدية في هذا الكتاب قلقة تماما، وقد يكون مرد ذلك إحساس بالمرارة سيطر على الذات الكاتبة جراء رفضها لواقع وجدت نفسها متورطة في أوحاله بدافع من الحب والشغف. فإذا تتبعنا المعجم الذي وظفه الكاتب نجده مشحونا بمعاني التذمر محملا بنغمات الاحتجاج من ذلك مثلا : يكاد يكون الفيلم المغربي بالنسبة للمركز هو ذلك الابن العاق،سيكون صوتا للتحسر والبكاء، محصول جد هزيل، حالة صحية متدهورة، ندور في حلقة مفرغة، عجز مهول في الإنتاج، لعبة مكشوفة ظاهرها قانون وباطنها خلل، الإقصاء المطلق لأي نشاط ثقافي. 

                                                          

وقد يكون من آثار هذا القلق تسرب مجموعة من الظواهر المعيبة إلى البنية التركيبية للمكتوب كالتكرار والغموض، فالكاتب لم ينتبه إلى أنه كرر فقرات بعينها في أكثر من مبحث. من ذلك مثلا فقرة كاملة تكررت في مبحث المهرجان الوطني للفيلم وفي مبحث السنة الأولى بعد المناظرة. كما أن الكاتب قد سمح لبعض المركبات اللغوية بأن تسبح في عالم العموميات وكأن القارئ على علم مسبق بمضمونها وسياقها كالقول مثلا بأن المهرجان الوطني للفيلم سينطلق بعد ساعات قليلة، أو القول بأن المناظرة الوطنية للسينما انتهت بالرباط يم الخميس الماضي.       

                                                      

قوة في الاستدلال
ومن جوانب القوة في هذا الكتاب انبناؤه على الحجة والبرهان. فمجمل الآراء والمعطيات والأفكار التي ساقها الكاتب جاءت مسنودة بمجموعة من وسائل الاستدلال كالتعريف والوصف والمقارنة والسرد والاستشهاد كتحديد مفهوم السينما الهامشية ومفهوم السينما السائدة، ورصد خصائص النزعة الشفوية في النقد السينمائي المغربي، والمقارنة بين وثائقية فيلم الحال ووثائقية فيلم الذاكرة 14، وجرد مراحل تطور السينما المصرية، والاستشهاد بمجموعة من المعطيات الرقمية المتعلقة بالإنتاج السينمائي المغربي.           

غير أنه كان بالإمكان أن يكون الاستدلال أكثر قوة، لوأن الكاتب تجنب بعض الأحكام العامة، كالقول بأن جميع المهتمين بالشأن السينمائي المغربي متفقون على أن الصيغة الحالية لدعم السينما بالمغرب قد استنفذت مهامها، دون تقديم دليل علمي يِؤكد ذلك. أو القول بأن القاعات السينمائية تتزايد في بعض البلدان الأوروبية دون تحديد هذا البعض، أو الاستشهاد ببعض الإحصائيات الخاصة بالإنتاج السينمائي المصري دون توثيقها.

     

وبعد، فهل لازال التأليف النقدي حول السينما في حاجة  إلى مؤلفات تكتفي فقط بالعودة إلى الذاكرة وتوثيق مخزونها، أم أنه ينبغي أن يرقى إلى مستوى أعلى من الكتابة يحترم قواعد البحث العلمي ويلتزم بمقتضياتها؟ الحق أن واقع النقد السينمائي المغربي وبحكم حداثة تجربته لايزال في حاجة إلى العودة إلى الذاكرة لأنها مازالت تختزن الكثير مما ينبغي أن يقال. غير أن ما يلزم أن ينتبه إليه النقاد السينمائيون المغاربة وهم يلمون شتات منجزهم النقدي المتناثر هو أن ترميم الذاكرة وتوثيقها ينبغي أن يخضع لقواعد البحث المتعارف عليها ولعل أقلها وحدة الموضوع وانسجام مكوناته، وترابط التركيب ومتانة عناصره وقوة الاستدلال وتنوع أساليبه.   

Visited 24 times, 1 visit(s) today