“بتوقيت القاهرة”.. ثلاث رحلات لاكتشاف الذات والآخر

Print Friendly, PDF & Email

بدأ الموسم السينمائى المصرى بداية جيدة جدا بعرض فيلم “بتوقيت القاهرة” من تأليف وإخراج أمير رمسيس. الفيلم سيكون بالتأكيد فى قائمة الأفضل بين أفلام 2015، فهو عمل ذكى ومؤثر مع بعض الملاحظات، أفضل ما فيه السيناريو الذهبى النادر بشكل عام فى السينما المصرية، كما أن توزيع الأدوار جاء بشكل مميز ولافت، وجمع بين جيل الكبار وجيل الشباب، وأتاح ذلك أن يؤدى المخضرمان نور الشريف وسمير صبرى، دورين من أفضل أدوارهما، وأن يقدم شريف رمزى وآيتن عام دورين مميزين.

الفيلم  يقول أيضا أشياء هامة للغاية عن الماضى والحاضر، يدافع عن السينما ضد الأفكار المتزمتة، يسخر من أوضاع مجتمعية راهنة عجيبة، ويحمل شحنة إنسانية رائعة فى جميع علاقاته، لا يدين جيلا على حساب بقية الأجيال، ولكنه يقدم نماذج حية فى مواقف طازجة ومبتكرة، ويمنح شخصياته ثلاث رحلات فى يوم واحد، يعيدون من خلالها اكتشاف أنفسهم، واكتشاف الآخر.

يمكن أن نعتبر الفيلم ايضا بداية مخرجه أمير رمسيس الحقيقية فى مجال الأفلام الروائية الطويلة بعد ثلاثة أفلام مضطربة هى “آخر الدنيا” و”كشف حساب” و”ورقة شفرة”. وكان الفيلم الأخير أكثرهم نجاحا من الناحية الجماهيرية، وهو أول فيلم قام ببطولته الثلاثى الكوميدى الناجح شيكو وهشام ماجد وأحمد فهمى.

اتجه أمير بعد ذلك الى السينما الوثائقية ليقدم فيلمين هامين ومميزين شكلا ومضمونا هما الجزء الأول والثانى من عمل بعنوان “عن يهود مصر”،. وتثبت عودته الى السينما الروائية الطويلة بفيلم ناضج مثل “بتوقيت القاهرة” كتابة وإخراجا أنه موهبة مميزة فعلا، وأن اضطراب البدايات ربما كان مجرد جملة اعتراضية فى مسيرة أحد مساعدى يوسف شاهين الواعدين.

الفيلم الجديد صعوبته فى الإمساك بلحظات إنسانية عميقة، وفى رسم ملامح شخصياته المتباينة، وفى السير بثلاثة خطوط درامية معا حتى تلتقى فى النهاية، وقد تحقق ذلك الى حد كبير.

رحلة اكتشاف

هى إذن رحلة اكتشاف فى جوهرها، رغم أن الفيلم يحمل اسم “القاهرة” فإن إحدى الرحلات تنطلق من الإسكندرية. والحقيقة أن إحدى ملاحظاتى على الفيلم تتعلق باسمه  الضبابى، ربما يكون المعنى “بتوقيت مصر”، أو “حدث فى مصر فى وقتنا الحاضر”، لأن هناك خطا واضحا جدا فى تأمل تلك التغيرات التى حدثت  لنا بسبب الفتاوى المتزمتة، أو نتيجة ظهور أجيال متشددة لا ترى فى ضرب الأب المريض بالزهايمر أدنى مشكلة، شخصيات عصابية بامتياز، وهناك فتاة من الجيل الشاب تعانى من تناقضات مذهلة داخل شخصيتها، قوى تدفعها للإنطلاق، وتربية عتيقة تكبلها بالأغلال، المعنى إذن كما فهمت هو أن التوقيت الحالى صنع شخصياته المختلفة والغريبة، كلها إشارات لمحاولة إعادة إكتشاف علاقات مستقرة من زاوية مختلفة، قد يكون ذلك مبرر عنوان الفيلم الذى أراه ضبابيا، ومع ذلك فإن هذاالعمل، فى رأيى، أعمق وأفضل بكثير من أن يحمل هذا العنوان.

لدينا ثلاث رحلات تقوم بها ثلاث شخصيات: يحى (نور الشريف) الرجل العجوز المريض بالزهايمر، والذى يفتتح مشاهد ما قبل العناوين، إنه يتأمل صورة لامرأة شابة كان يعرفها فى الماضى، ولكنه لا يتذكر اسمها أو أى معلومات عنها، يعيش يحى مع ابنه مراد المتطريف دينيا، والذى ينفق عليه ويعاير والده الذى تاهت ذاكرته لأنه يشرب الخمر فى شقته، ولكن الأب يحتفظ بعلاقة مودة مع ابنته المتفهمة أميرة (درة)، عندما يصفع مراد والده العجوز، يقرر يحيى مغادرة الشقة بالإسكندرية، يحمل معه ساعة حائط قديمة من ذكرياته مع زوجته الراحلة نادية، ويبدأ رحلته بحثا عن تلك المرأة التى يعرف أنها هامة جدا بالنسبة له، دون أن يتذكر عنها أى معلومات أخرى.

الشخصية الثانية هى ليلى (ميرفت أمين) وهى نجمة سينمائية معتزلة، رغم أنها تقضى الوقت فى مشاهدة أعمالها القديمة، إلا أنها أصبحت الآن ربة منزل، مجرد أم تغطى شعر رأسها، وتقوم بتلبية أوامر ابن وابنة فى سن الشباب، ستبحث عن عنوان زميل ممثل قديم شاركته فى بطولة أحد الأفلام، وستبدأ رحلة غريبة فى الوصول إليه، إنها تعتبر لقاء زميلها خطوة جوهرية لإتمام زواجها من رجل “ملتزم دينيا”، ولكنه اشترط شرطا عجيبا لإتمام الزواج.

الشخصية الثالثة هى الشابة سلمى (آيتن عامر) التى توافق على أن تذهب أيضا فى رحلة ذات طابع خاص، تقوم بعد تردد بلقاء حبيبها فى شقة حصل على مفتاحها من أحد أصدقائه، هدف اللقاء هو التواصل الجسدى مع شخص تعرفه وتحبه منذ سنوات ثلاث، تبدو رحلتها أسهل، ولكنها ستكتشف بداخلها تناقضات صارخة، هى بالأساس نتيجة مجتمع يعامل الفتاة بطريقة تختلف جذريا عن الشاب، هى أيضا شخصية قلقة للغاية، خائفة ومضطربة، اهتمامها الزائد باستخدام المطهّرات، وبنظافة الأشياء والأماكن، ليس إلا وسيلة لإخفاء توتر وقلق هائلين، أنثى يتحرشون بها فى الشوارع، وامرأة لأول مرة مع حبيبها فى شقة تجمعهما.

هذه هى الشخصيات الثلاث التى ستكتشف نفسها ولكن من خلال الآخر: يحيى العجوز سيركب بعد أن تعطلت سيارته عربة شاب يدعى حازم (شريف رمزى) يعمل ديلر (أى رجل يقوم بتوزيع المخدرات)، حازم بشعره الطويل يبدو مغامرا نموذجيا وغير منتم إلا لنفسه، نراه وهو يتعامل مع امرأة فى الاسكندرية (كندة علوش فى دور قصير مميز)، يحكى لها حكاية عن سبب احترافه توزيع المخدرات، يتحدث عن أخته المريضة بالسرطان، التى يتكلف علاجها آلاف الجنيهات، ثم يحكى فى السيارة للعجوز يحى قصة مختلفة عن سبب احترافه توزيع المخدرات، يتحدث عن والده ووالدته وموتهما فى حادثة بالخليج، تتحول صورة أخته الى  خطيبة وجارة يريد الزواج منها، لا نعرف بالضبط أى الحكايتين أصدق، فى الواقع فإن ذلك لايهم، لأن حازم يمثل نموذجا لشباب كثيرين يجعلون من المغامرة حرفة، تتقاطع رحلة يحى بحثا عن امرأة ضبابية من ماضيه، مع هروب حازم من حاضره حيث يطارده الرجل الذى سلمه المخدرات، بعد أن تركها الشاب المغامر فى الطريق، خوفا من تفتيش الشرطة له.

الممثلة ليلى ستصل الى زميلها القديم الممثل سامح (سمير صبرى)، إنه يعيش وحيدا بعد هجرة ابنه الى كندا، يعلق على الحائط صور أفلامه، يمتلك بارا فى فيلته، ويحاول أن يغازل صحفية شابة زارته لإجراء حديث صحفى، تقتحم ليلى حياته لتطلب منه طلبا عجيبا هو أن يطلقها، زوجها القادم يريد – طبقا لفتوى أحد مشايخ الفضائيات- أن تتطلق ليلى من زميلها الذى تزوجها فى أحد الأفلام (!!) مشكلة عبثية ساخرة تكشف مهزلة كاملة لمجتمع صدروا إليه تحريم التمثيل وكل شىء تقريبا، الماضى يعود من خلال ليلى ممسوخة ترتدى طرحة وفستانا طويلا، وتريد لزميلها أن يطلقها، أو بمعنى أدق يطلّق أفلامهما وحبه للسينما، يطلق الماضى بأكمله.

فى الشقة تتعثر رحلة سلمى مع حبيبها وائل (كريم قاسم)، هو يريد إنجاز التواصل الجسدى بسرعة، وهى خائفة ومضطربة، تريده ولكن فى داخلها خطوط حمراء وهواجس ووساوس تتجعلها تتخيل أن الشرطة ستقتحم المكان، وتلفها فى ملاءة بيضاء كالعاهرات. تشوش سلمى وازدواجيتها هو جزء من ازدواجية مجتمع يمارس التحرش فى الشارع، ولكنه يحاسب الفتاة حسابا عسيرا إذا أقامت علاقة جسدية مع شاب، يصف الشاب بأنه مخطىء، ولكنه يفرح برجولته، بينما يصف المرأة بأنها ساقطة، فى لحظة تقرر سلمى أن تتخلص من العبء النفسى، تعلن أنها ستترك وائل نهائيا، من الواضح أنها تحاول أن تحسم صراعا بداخلها بين رغبة فى الجنس، وخوف كامن لايمكن السيطرة عليه.

نجاح واضح

ينجح أمير رمسيس فى تطوير كل رحلة لنصبح أمام ثلاث  قصص قصيرة ناضجة، كما ينجح بشكل عام فى الإنتقال بينها، رغم أننى أعتقد أن هذا السيناريو كان فى حاجة الى مونتير مخضرم بدلا من بتر بعض المشاهد بطريقة غير سلسة أحيانا، نجح أمير ثالثا فى إدارة الصراع سواء بين الشخصيات، أو من خلال بحث الابن مراد عن والده مرض الزهايمر، أو مطاردة تاجر المخدرات للديلر الذى ضاعت منه البضاعة، أو عن طريق مخاوف سلمى ووائل من اقتحام الشقة عليهما.

هناك نضج حقيقى فى الكتابة، ووعى بالخيوط والدرامية، وهناك جدل طوال الوقت بين الحاضر والماضى، يتم ذلك على مستوى القصص الثلاث، وتعمل أغنيات شادية التى نسمعها فى سيارة حازم على تذكيرنا بزمن قدمته، زمن سينما الأبيض والأسود، علاقات قديمة يسودها الحب، وتغلفها البهجة، تتنافر مع علاقات الفيلم ، ومع تناقضات شخصياته الداخلية والخارجية.

الغرابة هى أيضا ملمح أساسى فى قصص الفيلم الثلاث: الديلر يبدو وكأنه قد وجد أبا مفقودا، فيرافق العجوز فاقد الذاكرة الى القاهرة، وسامح الممثل المعتزل يسخر من شبح زميلته ليلى العائدة التى تريد الطلاق، فيؤكد لها أنه أصلا مسيحى، كما يحاول إقناعها بأنهما كان يؤديان دورين تمثيليين على الشاشة، ثم يصور نفسه وهو يطلقها فى مشهد تمثيلى حتى يقنعها بوسيلة فنية، بمدى عبثية ما تفعله، ووائل يقتنع بأن يجلس مع سلمى دون تواصل جسدى، ولكنه يرفض فكرة انفصالهما، ولا يرى ذلك حلا، تلك اللمسة الساخرة البارعة منحت الفيلم مزيدا من الجاذبية، المواقف أصلا عجيبة، وبالتالى يصبح التعامل الجاد معها أمرا متناقضا، الموقف الجاد الوحيد من الأوضاع الخاطئة هو تلك السخرية التى تجعلنا نضحك عما حدث من تغيرات وتناقضات فى الشخصية المصرية بين الأمس واليوم.

يمتد النجاح أيضا الى إغلاق الأقواس، بل والى تقاطع الخطوط عندما يذهب الديلر لتسليم مخدرات الى الممثل سامح، يجعل يحيى يسلم المخدرات لانشغال الديلر حازم بمطاردة العصابة له، فى الفيلا سيكتشف يحيى وجود ليلى حبيبة العمر التى كان يبحث عنها، وسنكتشف أن سلمى هى ابنة ليلى الممثة المعتزلة. سيعود وائل الى سلمى ، وسيصل يحيى الى ليلى بعد أن تركها الرجل المتزمت، وسيضربون حازم ضربا مبرحا، ستنكسر ساعة الحائط، سنسمع صوت شادية من راديو السيارة مع ضحكات سلمى ووائل، ربما كان الأفضل لو انتهى الفيلم على مشهد حديث يحيى مع ليلى فى نهاية لا يخرجها إلا صلاح ابو سيف كما يقول الممثل سامح.

يمتلىء الفيلم بالمواقف الإنسانية الرائعة مثل ادعاء يحيى أنه لا يعرف ابنته أميرة حتى يهرب منها للأبد دون أن يسبب لها المتاعب، ومثل استعادة سامح وليلى لمشاهد أفلامهم الرومانسية، وإن كان أداء الاثنين كاركاتوريا ومبالغا فيه، بينما كان يجب تأدية المشهد بصدق وبجدية كاملة، ومثل قيام سلمى بتزيين الشقة بالشموع انتظارا لوائل، وهو الأمر الذى حلمت به كثيرا، ويمتلىء الفيلم بالأفكار البارعة مثل حديث يحيى عن الكون الذى لايكتمل إلا بالإختلاف (زوجته الراحلة كانت مسيحية)، وحديث يحيى أيضا عن أن نشعر بالآخرين لا أن نعرفهم، مريض الزهايمر لايفقد مشاعره أبدا تجاه من قابلهم فى الماضى (حبا أو كرها) ، حتى لو تاهت أسماؤهم عن ذاكرته.

قدم أبطال الفيلم أدوارا لا تنسى: نور الشريف فى مشاهده المرحة والمؤثرة معا، فى نسيانه الفعلى أو فى ادعاء النسيان، سمير صبرى فى تصابيه وفى مشهد اكتشافه أن ابنه ألغى دعوته له لكى يقيم معه فى كندا، ميرفت أمين فى التزامها الشكلى، أسفل القناع مازالت  تلك الممثلة والعاشقة القديمة، شريف رمزى فى انطلاقه وروحه المغامرة وفى أكاذيبه وفى صدقه الإنسانى مع يحيى، وآيتن عامر فى أدائها البارع لشخصية صعبة متناقضة ومتقلبة تنتهى رحلتها بقهر الخوف، وكريم قاسم فى بساطة أدائه وروحه المرحة والتلقائية، ودرة فى مشهدها البديع مع والدها الذى أنكر معرفته بها، ولا ننسى الرائع بيومى فؤاد فى دور ضابط الآداب، كلهم أحبوا شخصياتهم فأضافوا إليها.

ما زلت أعتقد أن السيناريو كان فى حاجة الى مونتير مخضرم يضبط خطوطه وانتقالاته (مونتير متمكن فور سيفتى وليس فقط وان مور تيك فور سيفتى كما يقول سامح الممثل)،  كما أن شعورنا بتقدم الوقت واقترابنا من الليل لم يكن محسوسا من خلال الصورة، قفز السيناريو أيضا فلم نر مشهدا مهما هو هروب حازم مع يحيى من الكمين، وهو أمر صعب كان فى حاجة الى مشهد مصور يجعله ممكنا، كما كان يجب أن تفسر ليلى أكثر سر حرصها على الزواج، عبارة  مثل ” إحنا مش فى سن نختار فيها” ليست كافية ولا مقنعة، ولكن هذه الملاحظات لا تنفى أننا أمام فيلم استثنائى ، أراهن على أنه سيقى طويلا فى الذاكرة، تماما مثل صوت شادية التى أهدى إليها أمير رمسيس الفيلم، وتماما مثل أفلام ميرفت أمين وسمير صبرى الذى أجاد السيناريو توظيفها، وإذ يمتزج الحنين الى الماضى مع عشق السينما وتحيتها، وإذ يسخر الفيلم من التزمت ويرفض الخوف، فإن “بتوقيت القاهرة” لا يشهد فقط على زمنه وحاضره، ولكنه يعيد إلينا ذاكرة الماضى الجميلة، قبل أن يطمسها زهايمر الجهل والقسوة، وقبل أن تدهسها عجلات الردة الحضارية البليدة.

Visited 47 times, 1 visit(s) today