القطع وظل القطع وتعريف جديد لمعني المونتاج

في كثير من الأحيان، لا تكون الأشياء بيضاء ناصعة البياض، أو سوداء شديده العتمة، فقد نتعلم أكثر عن أي وسيط عندما نراه في حالات مغايرة، فمثلا يمكن للجليد والبخار أن يكشفا عن طبيعة الماء أكثر مما يمكن أن يكشفه الماء وحده، وعلي هذا فعند محاوله إيجاد تعريف مناسب منطقي لـ (فن المونتاج) أو (فن تركيب اللقطات) لا يمكننا أن نكتفي بتلك التعريفات المألوفة لندرك ماهيته، فهذه التعريفات في معظمها، تحدد أن (فن المونتاج هو فن ترتيب وتجميع وتوقيت اللقطات لسرد قصة منطقية).

 وهذا التعريف غير منطقي ولا يصلح لتعريف أي فن، لعدة أسباب، أولها: كيف يكون فناً وهو يخلو من أي ابداع، فهو عملية ترتيب منطقي للسرد؟ وثانياً كيف يكمن ذلك الخلق الجديد في ترتيب وتجميع وتوقيت لقطات وفق قصه منطقية؟ وثالثاً كلمة (قصه منطقية) تعني عدم التجديد فالمنطقي هو المتعارف عليه فأين الابداع والابتكار اذن؟

يخلو تعريف (فن المونتاج) منذ البداية من صفة الفن والتي وبالضرورة تلازم كلمة ابداع واظهار ما هو جديد مبتكر ليس له شبيه أو مثيل، لذا فمن القصور أن نكتفي بهذا التعريف للبحث عن المعني الحقيقي للمونتاج.

ولنقترب أكثر من معني (فن المونتاج) عن طريق النظر وبعنايه لفيلم “سفر الرؤية الآن”  (Apocalypse Now) لفرنسيس فورد كوبولا، ومونتاج ريتشارد ماركس وولتر ميرش وجيرالد جرينبرج وليزا فروشتمان  وهو واحد من أفضل الأفلام في تاريخ السينما، وذلك وفقاً لرأي الكثير من المختصين والنقاد السينمائيين، ويُمكننا أن نقول أنه المعادل السينمائي للجليد والبخار، فوفق كل المعايير السينمائية من حيث الجدول الزمني والميزانية والطموح الفني والابتكار التقني، تعدي الفيلم المدة الزمنية لمونتاج أي فيلم سينمائي، فطول المدة الزمنية التي استغرقها، هي عام كامل للمونتاج، وعام آخر لمرحلة التفكير والتحضير للقطع ومزج الصوت، وبالطبع لنا هنا أن نتساءل لماذا استغرق تلك المدة الزمنية الطويلة؟ ولماذا قام بعمل المونتاج ثلاثة مونتيرين وليس واحدا فقط؟

 قد يُرجع الكثيرون طول فترة المونتاج في هذا الفيلم، الي المغالاة وشدة التدقيق عند الأجانب، كذلك قد يُرجع البعض الآخر السبب الي اتساع الوقت لدي صناع الفيلم الأجنبي وأنهم لا يعنيهم المدة الزمنية ولا التكاليف المهدرة، وردا على هؤلاء وبغض النظر على مقدار الوقت المهدر والفراغ الذي نعيشه في مجتمعاتنا العربية، فإن صناع الفيلم الاجنبي يدركون قيمة الوقت والمال جيداً.

ومع كثير من الحسرة والأسي أقول إن المونتاج عند هؤلاء يأخذ المعني البسيط له،  فبالفعل لا يستغرق تركيب أو وصل لقطة باللقطة التي تليها أقل من عشرة ثوان،  وبالتالي فإن أخذنا بمعني المونتاج لديهم، فإن مونتاج الفيلم بأكمله لا يستغرق سوي يومين علي الأكثر، وللأسف ايضا أن هذا هو تفكير الكثير من صانعي الافلام وخاصة منتجين السينما العربية، وهو بالفعل ما أدركته عند عملي في الأفلام المصرية، فلا يتم اتاحة الوقت الكافي لمرحلة المونتاج، بل يدمجون المونتاج مع كافة المراحل التي تليها مثل تركيب مؤثر بصري وتركيب ومزج الصوت وغيرها من المهام الأخرى، ويطلقون عليها جميعا (مرحلة المونتاج).

 فكيف إذن، يكون لمرحله المونتاج فقط وقت كاف ومخصص لها وحدها؟ ناهيك عن (مرحلة ظل القطع) التي من الضروري أن تدرج ضمن مراحل العمل السينمائي، لذا جعلني هذا الأمر أناقش الحالة الخاصة المعمول بها في فيلم Apocalypse Now– “سفر الرؤية الآن” لمحاوله تسلط الضوء على ماهية (فن المونتاج)، وبالتحديد عن مصطلح (ظل القطع).

  فن المونتاج ليس مجرد تجميع للقطات الفيلم ووصلها معا لسرد قصه منطقية كما هو معروف ويدرس في معاهد السينما المتخصصة، فذلك أحد التعريفات الساذجة (لفن المونتاج) التي تقلل من دوره وتجعل الجميع، سواء صناع الفيلم أو دارسي فن صناعة الأفلام، لا يُدركون الأهمية الحقيقة لهذا الفن الفريد الذي يميز السينما ع سائر الفنون الأخرى.

من فيلم سفر الرؤية الآن

 ففن المونتاج هو (اكتشاف طريق)، فمعظم وقت المونتير لا يقضيه في وصل أجزاء الفيلم ببعضها فقط ولكن هناك (ظلال للقطع)، والمقصود بهذا المصطلح، أن الكثير من الافلام على شاكلة فيلم “سفر الرؤية الآن”، يكون لكل وصلة بالفيلم النهائي ربما أكثر من خمسة عشر تجربة في عمل وصلات “ظل”، وهي (وصلات يتم صنعها، وأخذها في الاعتبار، ثم التراجع عنها أو رفعها من الفيلم).

والتوصل لمرحلة الوصل بين لقطه وأخرى هي مرحلة أخيرة تأتي بعد تفكير ومناقشات وتجارب ويمكن هدم ما نفذ سابقاً والبدء من جديد، أما تقليص كل هذا الجهد والاكتفاء باللحظة الأخيرة فقط فهو أمر شديد السطحية.

 نعم.. عملية وصل لقطه باخري امر بسيط ولا يستغرق سوي ثوان معدودة ولكن وراء هذا القطع ساعات عديدة من المناقشات، قد تصل في كثير من الأحيان الي الخلاف بين المخرج والمونتير، وعلى ذلك فإن (فن المونتاج) لا يعني القطع بل يعني بالضرورة (ظل القطع) أي الطريقة التي توصل اليها المخرج والمونتير معا، لسرد قصه من أجل تحقيق ما يهدف اليه الفيلم، وإلقاء الضوء على الطريق الذي سيتم العمل خلاله والمناقشات، وإعادة العرض، والاجتماعات والجدولة وحفظ الملفات وتدوين الملاحظات والكثير من التفكير، وهو ما يعني أن (ظلال القطع) هي (المونتاج).

لقطة أخرى من فيلم سفر الرؤية الآن

بالطبع قدر هائل من التحضير، للوصول الي تلك اللحظة القصيرة (القطع) – لحظة الانتقال من لقطة إلى أخرى – وهو أمر يبدو بسيطًا وسهلًا، حتى أنه لا يلاحظ في الاغلب الأعم، ولكنه ليس المعني الحقيقي لفن المونتاج.

وإذا تم استخدام مصطلح (ظل القطع) في تعريف المونتاج،  سيدرك الجميع اهمية تخصيص وقت كافٍ له،  وهذا بالفعل ما يتم العمل به بمعاهد الفيلم الاجنبية،  وهذا هو سر اختلاف دارس السينما بمصر و البلدان العربية عنه في الخارج،  فمثلا الطالب المصري يستغرق الكثير من الوقت المخصص لفيلمه لمرحله التصوير والتصوير فقط، ويخصص بضع ساعات لعمل المونتاج وتركيب المؤثرات الصوتية والبصرية، ولا وقت للتفكير في القطع أو لمرحلة (ظل القطع)، هذا علي العكس تماما اذا تمت مقارنته بدارس السينما بالخارج، فمرحلة المونتاج هناك تُقسم الي – مرحله التحضير للمونتاج والتفكير في القطعات التي تتطلب الكثير من المناقشات والجدال بين المخرج والمونتير والمصور ومهندس الديكور ومهندس الصوت، تليها مرحله تركيب اللقطات فقط، ثم تركيب الصوت فقط، ثم تركيب المؤثرات فقط،  وأكرر كلمه فقط لأشير لأهمية عدم الجمع بين الكثير من المهام في مرحلة واحدة هي (مرحله المونتاج).

خلاصة القول أن مرحلة المونتاج هي أهم مراحل الفيلم على الاطلاق، ويجب أخذها علي محمل الجد، والا ننتبه لتلك التعريفات القديمة الساذجة التي لا تعطي تلك المرحلة حقها وبالتالي نهج صناع الفيلم ذلك النهج أيضا وجعلوا مرحلة المونتاج مجرد تجميع للقطات الفيلم، وكأنها العُلبة التي سيتم وضع الهدية فيها ومصيرها في النهاية سلة القمامة.

البداية يجب أن تكون من التعريف الصحيح لفن المونتاج وإعادة النظر في تلك التعريفات السطحية لنُعرف الطلاب الدارسين بقيمة المونتاج والدور الحقيقي له، ومن ثم سينُّشأ جيل جديد من صُناع الأفلام، يدرك قيمة المونتاج والذي بواسطته تُنتج أفلام عظيمه مثل فيلم “سفر الرؤية الآن” Apocalypse Now.

Visited 5 times, 1 visit(s) today