“الفنار” احتفال بفن الصورة السينمائية
لابد أن يكون فيلم “الفنار”، ثاني أفلام المخرج الأمريكي روبرت إيجرز، أكثر أفلام 2019 جنونا وطموحا وجموحا، وخروجا عن المألوف. إنه عودة إلى أصول فن السينما، كما كان أو ربما كما يجب أن يكون: الأبيض والأسود، أبعاد الصورة التي تقترب من المربع المتساوي الأضلاع (الحقيقة أنه مصور بنسبة 1.19 إلى 1)، المكان الواحد الرئيسي الذي تدور فيه الأحداث معظم الوقت، الملامح التعبيرية الواضحة التي تعيدنا إلى أفضل إنجازات السينما في عشرينات القرن العشرين، والمؤثرات الأدبية والفلسفية الواضحة.
“الفنار” The Lighthouse ليس فيلما أدبيا أو مسرحيا كما قد يتراءى للبعض بسبب محدودية المكان وهو فنار في جزيرة منعزلة في تسعينات القرن التاسع عشر، بل عمل يمتلئ بالحيوية والحركة والقدرة المذهلة على التعبير بالصوت والصورة.الصورة بأبعادها الخاصة المحددة والاضاءة الخافتة التعبيرية التي تساهم في توصيل إحساس معين من اللقطات داخل الفنار، ومكونات المكان المغلق المحدود نفسه، تصبح عالما بأسره وليس مجرد ديكور محدود، ويمكن القول أيضا إن شريط الصوت في هذا الفيلم لا يقل أهمية عن شريط الصورة، فإذا كانت الصورة هي جسد الفيلم، فشريط الصوت هو “قلب الفيلم” أو روحه، ومن دونه لا يوجد فيلم.فكيف يمكن لنا أن نشعر بما ينقله لنا الفيلم من مشاعر وأحاسيس، من دون أصوات صفير الريح، وصراخ طيور النورس، وصفير التحذير الذي يصدر عن آلة التنبيه في الفنار نفسه، تحذر السفن من الاقتراب مع انتشار الضباب.. هذه الصرخات تصنع عالما موازيا ينبع من قلب الصورة، كما لو كان “صوت القدر”.
أفضل استخدام الكلمة العربية “الفنار” لترجمة عنوان الفيلم وهو The Lighthouse بدلا من كلمة “المنارة”. ليس انحيازا للطابع “الذكوري” للكلمة، بل لأنها تبدو أقرب إلى الجو السحري الغامض الذي يخفي في جوفه أكثر مما يظهر. إننا أمام فيلم شديد التركيب. يحمل أبعادا رمزية تختلف طريقة استقبالها وتفسيرها من شخص لآخر. فمن الممكن اعتبار الفيلم تصويرا للصراع بين الإنسان ونفسه، وبين ماضيه وحاضره، مخاوفه وواقعه، يقينه الموروث وهواجسه الدفينة عندما تظهر وتطارده وتجسد له صورته أمام نفسه ربما كما تتمثل في “الآخر، فتصيبه بالرعب (من ذاته) وتدفعه إلى محاولة قتل الصورة التي يرفضها ويرفض أن ينتهي إليها. وربما أنه أيضا صراع بين الإنسان والله.. بين ما يريده المرء وما هو “مكتوب له”، غير مسموح له بتجاوزه. وإذا عصى وانشق وخالف التعاليم التي لُقن إياها، يلقى مصيره المأساوي.
الأكبر والأدنى
يدور الفيلم داخل سياق يجمع بين السيكودراما والرعب والخيال والأسطورة. يتصارع بطلا الفيلم وهما شاب وكهل، حول احتكار المعرفة. فالشاب يبدو مدفوعا بالرغبة في الوصول الى الضوء، أي إلى القبض على الحكمة والمعرفة، بينما يقهره العجوز الكهل ذو اللحية الكثة البيضاء والعينين اللتين تومضان تارة بالمكر والدهاء، وتارة بالبراءة الطفولية. والصراع بينما هو صراع بين القادر والخاضع، الأعلى والأدنى، الأكبر الذي يؤكد باستمرار للأدنى بأنه صاحب الأمر والنهي، والأصغر الذي أصبح مكتوبا عليه التواجد مع رفيقه العجوز في ذلك المكان الموحش المنعزل: الجزيرة الصخرية المحاطة بالماء، وفي قلبها يقبع الفنار الذي يخفي أكثر مما يظهر، وكأنه رمز لاختبار قدرة الإنسان على الصمود أمام طغيان الطبيعة نفسها.
الرجلان هما: العجوز “توماس واك” (وليم دافو) الذي يدير الأمور داخل الفنار، و”افرايم وينسلو” (روبرت باتينسون) الذي يستجيب ويتجاوب ويسعى لارضاء رئيسه وقائده ولكن بلاجدوى، فهو يبدو مثل “سيزيف” الذي يحصد الفشل تلو الفشل، فيحاول الهرب من مصيره القدري أي الجنون.
توماس يلقي بالتعليمات والأوامر التي تصل لدرجة الإهانة والازدراء والقسوة المفرطة والتهديد بقطع الراتب. يريد أن يفرض سيطرته من اللحظة الأولى على رفيقه الشاب “افرايم ” الذي جاء للعمل لمدة أربعة أسابيع من أجل كسب ما يكفيه من مالٍ لكي يبني بيتا له في مكان ما (كما سيكشف الفيلم لنا مع تطور العلاقة بين الرجلين). وهو الذي ينظف المكان، ويضع الفحم في الموقد الذي يدير الفنار، ويحفر لكي يأتي بصناديق الخمر المدفونة من بقايا سفن قديمة اصطدمت بصخر الجزيرة، كما يعد الطعام، ويصنع القهوة لسيده، وفي نوبات الراحة، يتناول الرجلان الخمر، التي توحد بينهما لدرجة الرقص الهستيري وهما عاريين واحتضان بعضها البعض لو كانا على وشك التوحد في علاقة جسدية بين الأعلى والأدنى.
في العهد القديم “افرايم” هو ابن يوسف، واسمه معناه “المثمر”. أما “توماس” (أو توما” فهو الحواري الذي تشكك في قيام المسيح الى أن رآه بعينه ووضع يده عليه وداوى جراحه. ولا شك أن اختيار الاسمين مقصود تماما في سياق تلك الرؤية الرمزية المليئة بالإشارات الدينية المباشرة.
رموز الفيلم
توماس العجوز كان بحارا في الماضي. والواضح أن لديه ما يخفيه من ماضيه، لكنه يبوح ببعضه لافرايم تحت نوبات السُكر. وهو نموذج قريب الشبه من “الكابتن أهاب” بطل رواية “موبي ديك” بل هو أيضا مثله، يعاني من عاهة قديمة في ساقه تجعله يعرج. وهو يطارد الحوت يريد اقتناصه. ولكن بينما كان الحوت في “موبي ديك” هو رمز الإله، إلا أن “توماس” في “الفنار” هو “يد الإله”.
أما افرايم فهو يرفض ويحتج ويلعن، لكن لديه شيئا أكبر يخفيه، يحاول الهرب منه، من ماضيه حينما كان يزرع الأشجار ويرعاها في منطقة أخرى شديدة الاختلاف. هل قتل زميله وجاء الى هذه الجزيرة هربا من ماضيه؟ أم أن توماس هو الذي قتل مساعده السابق الشاب الذي أصيب بالجنون ودفن جثته في الجزيرة. في الفيلم جثة تتراءى باستمرار لافرايم، بل تعود إليها الحياة وتزحف وتصعد السلم الحجري للفنار بصعوبة ومعاناة.. ربما كان الرجل أيضا يريد أن يصل إلى أعلى، إلى حيث الضوء لكنه فشل أو عوقب على تطلعه للاقتراب من السر بالموت.تتراءى لتوماس أيضا امرأة فاتنة تغويه فيضاجعها ولكننا سرعان ما نكتشف أنها جنية البحر
وفي مشهد آخر نراه وهو يمارس الاستمناء بينما يتطلع الى تمثال صغير لامرأة عارية يقبض عليه بيده الأخرى، بينما تتداعى في ذهنه صور المرأة- الجنية المغوية التي تنتهي شهوته معها وهو يكتشف أنه يضاجع صورة مخيفة لجنية تصدر ضحكات مجنونة قبل أن تختفي.أكثر ما يعذب افرايم، رغبته المستعرة في الوصول إلى مصباح الضوء في أعلى الفنار. لكن توماس يخبره من البداية ويكرر هذا كثيرا فيما بعد، أن الضوء ملك له وحده، ويحظر عليه الاقتراب منه، تماما كما يحظر عليه أن يمس طيور النورس بأذى قائلا إنها تحمل أرواح البحارة الغرقى، وأن من يؤذيها ينتهي الى مصير سيئ، إشارة إلى ما سيصل إليه افرايم بالفعل من جنون يدفعه للقتل من أجل معرفة الحقيقة.
هذا الخيال المجنون الذي يصل الى السيريالية في بعض المشاهد، هو ما يساهم في تكثيف الرؤية في هذا الفيلم بحيث لا يصبح من الممكن اختزاله في فيلم من أفلام الرعب والاثارة أو مجرد استكمال لما سبق أن صوره المخرج نفسه في فيلمه الأول “الساحرة” The Witch (2015) رغم ما فيه من عناصر هذا النوع من الأفلام، فليس من الممكن أن تشاهده وتستمتع به سوى في سياق فلسفي ذي علاقة بالمثيولوجيا والقصص المستمدة من عالم البحار، وفي ضوء تلك العلاقة المعقدة بين السيد والتابع، وبين الخالق والانسان
وفضلا عن هذا كله، يجب التطلع إليه أساسا باعتباره عملا من أعمال الفن المتحرر من قيود الصنعة وقيود السوق معا، فهو ينشد العودة إلى أصول فن السينما، من خلال استعادة أصول الصورة: أبعادها واضاءتها وظلالها التي تنعكس على جدران الفنار من الداخل، وأصوات آلة التنبيه التي تبدو كنذير شؤم، وصراخ طيور النورس التي يتابع أحدها بطلنا كما لو كان يترصده، يطرق زجاج نافذة غرفته، ثم يهاجمه غير مرة في الخارج، وهي نفس الطيور التي ستنهش لحمه في النهاية كما لو كانت مبعوثة من قوة أعلى لإنزال العقاب بهذا الانسان- الضال الذي تجرأ على تجاوز ما هو مسموح له، واطلع على المحظور.عن أسلوب الإخراج
مخرج الفيلم روبرت إيجرز فنان سينمائي موهوب يعرف كيف يسيطر على مشاهد فيلمه: خلق الحركة داخل المشهد ليس عن طريق تحريك الكاميرا بل بواسطة المونتاج من خلال الانتقال بين اللقطات لكسر حدة المكان الضيق، التركيز على التفاصيل، الاهتمام الكبير بتوزيع قطع الأثاث إن جاز أن نسميها كذلك أو بالمحتويات الكثيرة المرئية في اطار الصورة، توزيع الضوء مع تكثيف كتل الظلال القاتمة السوداء في الجانبين، والتركيز على اللقطات القريبة للوجه لتقريبنا من المشاعر والانفعالات الداخلية للشخصيتين، وتكسير قيود المكان، عن طريق اللقطات التي تأتي بالتداعي من خارج المكان بل وخارج الزمان الذي تدور فيه الأحداث أيضا، مع المزج بين الحلم واليقظة، وبين الواقع والتخيل أو الهلوسات البصرية التي تنتاب افرايم كثيرا، وتساهم في دفعه نحو مصيره.
عن التمثيل
يعبر الممثل الكبير وليم دافو ببراعة ملفتة عن شخصية “توماس واك” التي تجمع بين البعدين: الواقعي والأسطوري، وهو يبدو حينا كما لو كان يمتلك حكمة الدهر في يقينه المستمد من الموروث الديني (حرصه على ترديد آيات من الانجيل قبل تناول الطعام كل ليلة والتعاليم التي يلقيها على رفيقه الشاب بلغة دينية)، واقتباساته من الأدب بل ومن الحكمة اليونانية (اشارته على سبيل المثال إلى ” نبتيون” إلهة البحر عند الاغريق).. وحينا آخر، يتحول الى اللهو والمجون والمداعبات الصاخبة المجنونة تحت تأثير الخمر الذي يصبح المادة الوحيد القابلة للشراب بسبب تلوث بئر الماء في أعقاب العاصفة الهوجاء التي تضرب الجزيرة.أما روبرت باتينسون فهو يقدم في دور ” افرايم وينسلو” أفضل وأقوى أدواره حتى الآن.
إنه لا يعبر فقط بالنظرات والإشارات وتلوين الصوت بل يصل إلى أقصى درجات التجسيد “الفيزيائي” لرجل يتدهور جسمانيا، يتجرد من إنسانيته، يتفاعل بوحشية مع هواجسه ومع طائر النورس الذي يصبح خصمه الشرس، يملأ الشك نفسه، يتمرد على سيده ويرفض الانصياع له، يصارعه كما لو كان يعقوب الذي يصارع “إيل” حسب القصة التوراتية المتداولة، ثم يتبادل الاثنان الأدوار وصولا إلى المصير النهائي.
البطولة الأولى للفيلم قبل الممثلين، تعود دون شك إلى الفنار نفسه، ثم إلى مدير التصوير يارين بلاشيك الذي يعود إليه الفضل في إضفاء كل هذا السحر على الفيلم بالتعاون مع مصمم الإنتاج ومنسق المناظر والمخرج بالطبع. وقد تم بناء ديكور للفنار ودار التصوير لمدة 34 يوما، في جزيرة نوفا سكوتيا احدى الجزر الكندية حيث تعرض طاقم التصوير خلال العمل في الفيلم لعواصف قاسية ومتاعب كادت أن تتسبب في وقوع حوادث مؤسفة، فقد تشبث المخرج بضرورة تصوير جميع التفاصيل على أرض الواقع، رافضا الاستعانة ببرامج الكومبيوتر التي تولد الصور.
أما منسوب الصورة الذي اختاره للتصوير أي (1: 1.19) ارتفاع وعرضا، فهي ترجع تحديدا إلى المنسوب الذي كانت تستخدمه شركة فوكس في تصوير الأفلام الصامتة في العشرينات.
فالمخرج روبرت إيغرز أراد أن يبدو فيلمه الحديث كما لو كان مرتبطا بهذا العصر من الكلاسيكيات، كما أنه أراد أن يبقي بطليه داخل إطار الصورة الضيقة الخانقة. ويوحي بالطبيعة الجافة الجرداء المنعزلة للمكان من خلال التصوير بالأبيض والأسود، مع زيادة التعريض الضوئي لكي يظهر الأبيض الناصع الذي يجسد تأثير ضوء الشمس في اللقطات الخارجية.
إن “الفنار” تحفة سينمائية يجب أن يتم تدريسها في معاهد السينما، ليس فقط بسبب براعة التصوير والإخراج والتمثيل ولكن لأن الفيلم يدفع أيضا إلى البحث والتنقيب والقراءة والمعرفة. أليست السينما أفضل وسيلة للبحث عن المعرفة وراء الصورة!