“كل لا يتجزأ” بين الواقع والأسطورة والفانتازيا

Print Friendly, PDF & Email

حصل الفيلم الإيطالي “كل لا يتجزأ” للمخرج إدواردو دي أنجليس، على الجائزة الكبرى لأحسن فيلم روائي طويل في مهرجان تطوان السينمائي الذي اختتم مؤخرا. وكان هذا الفيلم قد عرض للمرة الأولى في قسم “أيام فينيسيا” بمهرجان فينيسيا، ثم بقسم “سينما العالم” في مهرجان تورنتو حيث أحدث أصداء جيدة.

يعتبر “كل لا يتجزأ” Indivisiblio عملا إبداعيا يجسد قدرة الخيال الفني على التحليق بالمشاهد في آفاق عالية، تأخذه في رحلة تأملية في المصير الإنساني ولكن دون أن تبتعد كثيرا عن ما يحدث في عالمنا. ولعل من أهم مزايا هذا الفيلم المشغول بعناية كبيرة، وجود ذلك البعد الإنساني الشامل universal بحيث يمكن استقباله بسهولة ويسر من جانب الجمهور في شتى أنحاء العالم.

صحيح أنه يتمتع بصفات ترتبط بواقع المنطقة التي تقع فيها أحداثه الغريبة، بالقرب من نابولي في جنوب إيطاليا، وهي تحديدا منطقة فولتورنو المعروفة بتركز عصابة المافيا “غومورا” التي تناولها المخرج الإيطالي ماتيو غاروني في فيلمه الشهير. وصحيح أيضا أن اللغة التي تتحدثها بطلتا الفيلم لغة خاصة، بلهجة قد تبدو غريبة حتى على الإيطاليين أنفسهم، لا أن هذا الطابع “المحلي” لا يمنع الفيلم من التحليق في آفاق العالمية بالمعنى الإيجابي أي بمعنى التوجه الإنساني العام.

بين الواقع والخيال

قد يكون من بين الأسباب التي تجعل الفيلم يصل بسهولة إلى الجمهور في العالم ويترك تأثيره عليه، أن مخرجه يسبح في منطقة تقع بين الواقع والخيال والأسطورة، ويبدو في كثير من الأحيان، وكأنه يروي قصة خرافية من تلك القصص التي كانت ترويها الجدات عادة للأطفال قبل النوم، ومن خلال طابع في الصورة يتميز بالنعومة والرقة وبالألوان البديعة، مع اختيار جيد لأماكن التصوير الطبيعية التي تضفي جمالا خاصا على اللقطات والمشاهد، مع تحريك الكاميرا بنعومة وانسيابية لكي تبرز طبيعة الأماكن، وتضفي سحرا خاصا غامضا على الفيلم، وتوحي أيضا ببعض الغرابة، وأجواء المتاهة.

في أحد مشاهد الفيلم تقول إحدى الشقيقتين للأخرى إنها لا تصدق ما تراه وتشعر إنه ربما يكون حلما. شقيقتها تهزها بعنف، تحاول أن تردها إلى الواقع، تؤكد لها أن ما تراه ليس حلما. لكن ما سيأتي فيما بعد هذا المشهد مباشرة، يشي بزوال الحلم بعد ان يحل محله كابوس عنيف يكاد ينتهي إلى مأساة.

تشوه أخلاقي

موضوع الفيلم يدور حول الرفقة الإنسانية، عن حاجة الإنسان إلى من يرتبط به ويحبه ولا يتصور أن من الممكن أن يستغنى عن وجوده بجواره، لكن يأتي وقت يتعين فيه أن يحدث هذا الانفصال. إنه فيلم عن الخوف من الفراق ومواجهة الإنسان للعالم بمفرده مجردا من الرفقة، محروما من السند.. فيلم عن ذلك التشوه الخلقي الذي يبدو كالقدر الذي لا يصبح ممكنا الفكاك منه. ولكنه من ناحية أخرى فيلم عن الاستغلال البشع للإنسان من جانب أقرب الناس إليه، حيث لا يصبح هناك من ملجأ سوى رجل الدين، لكننا نكتشف أنه يفضل الإبقاء على الأمر الواقع، أي تكريس الاستغلال، والتكسب من العاهة الخلقية، بل اعتبارها أيضا معجزة قدرية.

يكثف الفيلم التناقض بين البراءة والجمال والشباب من جهة، والقبح والشراهة والاستغلال من جهة أخرى، كما أنه على نحو ما يجسد صراعا بين جيلين ، ينتميان إلى عالمين مختلفين.

المعجزة

لدينا شقيقتان توأم، شاءت العناية الإلهية أن يولدا ملتصقتين من جانب الفخذين، لكنهما بلغتا الآن الثامنة عشرة من عمرهما، وهما تتمتعان بدرجة عالية من الجمال والسحر والجاذبية، ترقدان معا، تنهضان معا، تسيران متعانقتان، لا يمكنهما الافتراق ولو حتى بالفكر عن بعضهما البعض. إذا تناولت أحداهما الطعام خارج الموعد المحدد، شعرت الأخرى بنوع من الغثيان، وإذا شربت أحداهما الخمر شعرت الأخرى بالثمالة. هناك ارتباط شرطي فيما بينهما. أما ما يراه الآخرون معجزة حقيقية فهو صوتهما الجميل البديع الخلاب. لهذا السبب يستغل والدهما “بوب” هذه الموهبة فيكتب لهما كلمات يلحنها لهما العم ومساعده ويجعلان الفتاتين تغنيان هذه الأغاني في حفلات أعياد الميلاد الخاصة أو التجمعات الكنسية وغيرها، وسط سعادة الكثيرين، بل إن القس الذي ينتقل مع تمثال ضخم للمسيح، لجمع التبرعات لكنيسته ملقيا بالمواعظ في تجمعات المهاجرين الأفارقة ، لا يمانع من استغلال موهبة الشقيقتين من أجل جمع التبرعات.

يجني الأب الكثير من المال من وراء ما تقدمه الشقيقتان، لكنه لا يمنحهما شيئا منه. الشقيقتان- واسمهما “ديزي” و”فيولا”، يراهما ذات يوم طبيب يبدي استغرابه من تقاعس والديهما عن البحث عن حل طبي لهذه المعضلة، وبعد إجراء الفحص الطبي لهما يقرر إمكانية فصل جسديهما دون أي خطورة. وعندما يشاهد أحد منظمي الحفلات ديزي يوهمها أنه وقع على الفور في حبها، وأنه على استعداد للتضحية من أجلها.. تحلم ديزي بالوقوع في الحب، وبالذهاب إلى لوس أنجليس، وتبدو منذ تلك اللحظة وقد تشبثت بفكرة الانفصال جراحيا عن شقيقتها، أما فيولا فهي أكثر خضوعا لا يمكنها أن تتخيل الانفصال عن ديزي.

رغم ذلك تخوض الفتاتان معا مغامرة الخروج عن “الأسر” العائلي، والتمرد على واقعهما، فتهربان معا بحثا عن تدبير مبلغ 20 ألف يورو تكاليف إجراء العملية الجراحية. بعد ان اكتشفا أن والدهما بدد المال الذي كسبه خلال السنوات الماضية في القمار، وبعد هروبهما تنشب مشاجرات حادة بين الأب الذي يتخلى عنه مساعدوه، والأم الغارقة من البداية في الخمر والمخدرات. 

ما الذي سيحدث لهاتين الشقيقتين الملتصقتين، وهل يستسلم والدهما للأمر الواقع، ومن الذي يمكنهما التعويل عليه، هل سيساعدهما القس، وهل سيفي منظم الحفلات بوعده، وما هذا العالم الغريب الذي يتحول من الواقع إلى الخيال المتوحش الذي يتتالى أمامنا على الشاشة وكأننا ارتددنا من القرن الحادي والعشرين إلى الماضي السحيق؟ كلها تساؤلات يجيب عنها الفيلم في مشاهده النهائية، من خلال لغة سينمائية رفيعة، واستخدام بديع للموسيقى والأغاني. ويظل الأداء التمثيلي أكثر العوامل قوة في الفيلم إلى جانب التصوير والمونتاج والسيطرة الكاملة على المكان، وتصوير العلاقة بين الشقيقتين.

عن التمثيل

لدينا ممثلتان مبتدأتان هما أنجيلا فونتانا وماريانا فونتانا، وهما شقيقتان توأم ولكن غير ملتصقتين، ورغم ذلك فقد أجادا كثيرا القيام بدور التوأم الملتصق، والأهم أنهما عبرتا بصدق وبشكل مؤثر عن معاناة الالتصاق، والمعاناة الأخرى التي ستولد من الفراق عندما يحدث. ويتميز أداء الاثنتين في أول أفلامهما، خاصة في مشاهد الغناء (هما أصلا مغنيتان) والمشاجرات التي تقع فيما بينهما بسبب إصرار ديزي على إجراء العملية ورفض فيولا التي تميل أكثر إلى القبول بالقدر والمكتوب.

ماسميليانو روسي الذي قام بدور الأب (بيب) ينجح بملامحه الذابلة، وشعره الطويل الفوضوي، وحركات جسده وتعبيرات وجهه التي تشي بنوع من الجشع والجنون، في تجسيد شخصية الأب الذي يستغل عاهة الابنتين للحصول على المال، كما يتميز أداء أنطونيا تروبو في دور الأم المدمنة التي يستيقظ وعيها تدريجيا لتدرك كيف ساهمت بسلبيتها وأنانيتها في دفع ابنتيها إلى الفرار نحومصير كاد يفضي إلى مأساة.

تكمن براعة المخرج إدوارد ودي أنجليس في قدرته على قيادة فريق العاملين بالفيلم، من تقنيين وممثلين، بحيث يشعر كل من يشاهد العمل بأنه أمام “كل لا يتجزأ” من الناحية الفنية، فجميع العناصر تتضافر معا لتقديم تلك الرؤية البديعة لموضوع مبتكر يحمل من المتعة والتشويق بقدر ما يحمل من فكر وفلسفة. وهذه هي عظمة الفن الأصيل.

Visited 50 times, 1 visit(s) today