“الطوق والإسورة”.. في هجاء القيود والأغلال

شريهان وفردوس عبد الحميد في "الطوق والاسورة" شريهان وفردوس عبد الحميد في "الطوق والاسورة"

فيلم مصري وحيد استلهمته السينما المصرية من أعمال القاص والروائي الراحل يحيى الطاهر عبد الله، الذي عاش حياة قصيرة، ولكنها خصبة وصاخبة، والذي ترك أعمالا تشهد بالموهبة والتفرد: تنقل أجواء خشنة عن حياة الصعيد، وترسم ملامح شخصيات مثيرة للرثاء في العاصمة التي عاش فيهأ، كان حكاء عظيما، وصاحب أسلوب شاعري ومصور، وقدرة فائقة على قراءة البشر، وبعث الروح في الأماكن، كان حكاية تسير على قدمين.

لحسن الحظ، فإن الفيلم الوحيد عن أعماله وهو “الطوق والإسورة” (عرض في 1986) ظهر بصورة باذخة الإتقان والتأثير، من خلال سيناريو ممتاز كتبه يحيى عزمي وخيري بشارة، وأخرجه خيري بشارة، وتم تصوير الفيلم في قرية الكرنك بالأقصر، مكان الأحداث، وموطن يحيى الطاهر عبد الله.

جاءت التجربة ناضجة وقوية، لاتحكي فحسب عن واقع شديد القسوة، وعن حياة تكرر نفسها، ولكنها أيضا ترسم ملامح تراجيديا هائلة، يبدو الإنسان فيها ترسا في آلة ضخمة، لا يستطيع أن يتجاوز دوره، ولا يمكنه أن يخرج عن الحركة المحددة، أو كأنه سيزيف، الذي يحمل الصخرة، يصعد بها قمة الجبل، فتعود لتتدحرج من جديد، فيعود ليحملها بلا توقف.

صخرة “الطوق والإسورة” هي العادات والتقاليد البالية، وهي الخرافة والخزعبلات، وهي أيضا القيل والقال، وسيرة الناس، والمجتمع المغلق المحدود، إنها الأطواق والأساور التي تشد الرقاب، وتكبل الأيدي والأرجل، حياة راكدة، وأجيال تكرر نفس التجارب، والمرأة، بصفتها الحلقة الأضعف في سلسلة هذا المجتمع المغلق، هي التي تتحمل العبء الأكبر، وهي التي تدفع الثمن الأعظم.

حصار الخرافة

استلهم الفيلم رواية “الطوق والإسورة” ليحيى الطاهر عبد الله، ولكنه دمج ضمن أحداثها بذكاء وبراعة استلهاما لقصة قصيرة ليحيى الطاهر عبد الله أيضا هي قصة “طاحونة الشيخ موسى”، والتي تمثل في الفيلم الخط الخاص بحكاية منصور التاجر، الذي أراد أن يبني طاحونة في القرية، ولكن أهل القرية قاموا بالإعتراض عليه، ورجموه بالحجارة، اعتقادا في خرافة تقول إن الطواحين لا تدار إلا بتقديم قرابين بشرية، أطفال يذبحون وتسيل دماؤهم، فتدور ماكينة الطاحونة!

يغذّي الخرافة الشيخ هارون الذي يتبرك به أهل القرية، فيضطر التاجر هارون الى تقديم الهدايا له، لكي يوافق هلى فكرة إنشاء الطاحونة الموعودة، وهو ما سيحدث بالفعل، مما يدل على سيطرة الخرافة، وعلى محاولة البعض استخدامها في الإتجاه المعاكس، من أجل ترويضها، وليس مواجهتها.

اندمجت القصة في عالم الرواية فبدت كما لو كانت جزءا منها، لاتنافر ولا اختلاف، بل إن استلهام قصة الطاحونة أثرى أحداث الفيلم، حيث تكاملت مع عالم القرية التي تحكمها الخرافة، وظهر عمدة القرية وهو يستخدم هذه الخرافة أيضا، يبيع الأرض للتاجر منصور، ولكنه يتفهم رفض الناس لعدم إنشاء الطاحونة على الأرض، بسبب خرافة القرابين البشرية.

لكن “الطوق والإسورة” هي بالأساس حكاية ثلاثة أجيال من أسرة واحدة، خلال أكثر من عشرين عاما تبدأ من العام 1933، وفي إطار أجواء قرية الكرنك النائمة بين النيل والصحراء، والتائهة بين البر الشرقي والبر الغربي.

أجيال ثلاثة تدور في حلقة مفرغة، وتكاد تكرر نفس الماساة، بتنويعات مختلفة: الجيل الأول تمثله حزينة وزوجها بخيت البشاري، والجيل الثاني تمثله الابنة فهيمة وأخوها المسافر مصطفى، والجيل الثالث تمثله الحفيدة فرحانة.

حزينة التي ماتت أمها وهي تلدها، فأطلقوا عليها اسم حزينة، زوجها بخيت البشاري كان يعمل في مناجم القصير، ولكنه عاد مريضا، وصار قعيدا تحمله من مكان الى آخر، ما زال يضحك ويسخر رغم كل شيء، تتذكره حزينة في قوته، وهو يساعد الرجال حول البئر، وتخبز حزينة الخبز للآخرين، لكي توفر له ثمن الدخان، يصرخ بخيت العاجز:”حاموت خرمان يا ولاد الرفضي”.

فهيمة الجميلة التي تتفجر أنوثة، تتزوج من الحداد العاجز حدّاد الجبالي، عجزه الجنسي، يتحول الى شراسة وعنف، تحكي له، وتحاول أن تجعله “يزرع أرضه”، ولكنه تنويعة جديدة على نغمة العجز الذكوري الذي نعاينه، لا شيء يشغله سوى ألا ينفضح، حتى لو تطلب الأمر أن تحمل زوجته فهيمة من حارس المعبد، توظف الخرافة من جديد في سبيل التواطؤ، حزينة تستغل خرافة التبرك بالمعبد، لكي تحل مشكلة ابنتها وزوجها.

محمد منير مع عزت العلايلي

أما مصطفى الذي يسير في ركاب الإنجليز من السودان الى فلسطين، يحفر الترع ويبني السكك الحديدية، ويرسل الخطابات والأموال، فيعود بعد أن وقعت مأساة أخته فهيمة، وبعد أن ماتت، يجد في قريته أطواقا وأساور أشد، حياة تدور حول نفسها ولا علاقة لها بالعالم، هو نفسه جزء من هذا العالم مهما سافر أو حاول أن يتغير، في الشام طلق زوجته لأنها لم تنجب، وفي الكرنك سيكون جزءا من مأساة فرحانة، حفيدة البشاري، اختارو اسمها بعيدا عن الحزن، ولكن الحزن والموت ظل قدرها الذي لا يتغير.

تولد فرحانة ومعها قدرها ومصيرها، رجل آخر عنيف يريدها، ولكنها ترفضه، وشاب متعلم يحبها، ولكنها تتهم بسببه، تدفن حرفيا في التراب، ويقتلها سعد بعد أن يعطيها الماء لكي تشرب، سعد يقتل فرحانة، هذه الأسماء لا تعني شيئا في هذا الجحيم المؤلم.

الشيخ والتاجر والمثقف

عائلة البشاري جزء من قرية صامتة تغرق في الخرافة، شخصيات كثيرة متناقضة تكمل الصورة: المتعلم المثقف محمد أفندي لا يملك إلا الغناء، يحاول أن يساند منصور في موضوع الطاحونة بلا جدوى، يرفض الخرافات، ويعلم التلاميذ، ولكنه حزين ومهمش، وعندما يلقي خطبة تحية للعائدين من حرب فلسطين، يتم اعتقاله.

منصور التاجر شخصية عملية، يريد أن يصنع مشروعا طموحا، ويتحايل على تحقيقه، لا يتردد في استخدام العاهرة قدرية من أجل ذلك، قدرية باسمها الدال نموذج آخر على مواقع ثابتة لا تتبدل أبدا، تؤدي دورها كجزء من آلة عتيقة وصدئة.

الشيخ فاضل رجل مستنير الى حد ما، ولكنه صوت ضائع لايستطيع أن يمنع موت فهيمة، بسبب جلسات الحجامة البائسة، الصورة يسيطر عليها الشيخ هارون، ونقيبه السابق يوسف الذي كان جزارا، والصورة تزيدها كآبة أم السعد، التي مات زوجها، وتريد الآن أن ترث شقيقها حداد، تطارده مثل غراب بائس، وتحصل في النهاية على ما تريد.

وبقدر براح الطبيعة نيلا وسماء وأرضا، بقدر ضيق الأفق، وقسوة العادات، وقهر التقاليد للبشر، العجز تنويعة نجدها عند الرجال: بخيت القعيد، وحداد الذي لا يستطيع أن يلمس زوجته، حتى مصطفي عجز عن تغيير حياته، فعاد من جديد الى نفس المكان، والى نقطة البداية، والقهر نجده عند النساء: حياة حزينة الصعبة، ضرب حداد لفهيمة، ضرب فرحانة ودفنها ثم قتلها، والطقوس لها سطوة العلامات المقدسة: طقوس ليلة الزواج، وإعلان الزوج لبكارة الزوجة بالمنديل الأحمر، طقوس الذهاب الى المعبد، لحل عقدة فهيمة وحداد، طقوس محاولة فك الربط الذي يعاني منه حداد، طقوس الكشف على عذرية فرحانة، طقوس استقبال الشيخ هارون المبروك، وأخيرا طقوس التحقيق مع فرحانة وعقابها، رغم أن ما نراه يرجح أنها لم تخطيء مع أحد.

الطقوس والعادات التي اخترعتها الجماعة أقوى من البشر، بل هي أقوى من الدين، وبينما يطير الحمام في سماء الكرنك، فإن البشر مقيدون وعاجزون عن تغيير حياتهم ومصائرهم، وكأنهم محكوم عليهم بالجهل والتخلف، حتى فكرة القربان البشري الذي تدير دماؤه الطاحونة، تتحقق رمزيا عندما يقوم سعد بذبح فرحانة، ثم يدير الآلة، فكأن الطقوس والخرافات تعمل حتى في قلب محاولة تغيير الحياة، بإنشاء طاحونة بسيطة.

عاد مصطفى ليبدأ من جديد، وليشترك في مأساة فرحانة، لا يمكن فهم ثورته في المشهد الأخير على القرية كلها، إلا باعتبارها ثورة على نفسه أيضا، هو أيضا لم يستطع أن يتخلص من الأطواق والأساور، رغم انتقاده لوجودها واستمرارها في القرية، مصطفى أيضا قهر فرحانة مثلما قهر حداد شقيقته فهيمة، دائرة محكمة تقود لنفس النتائج، يطير الحمام سعيدا بحريته، وتتغير ألوان الأشجار الى اللون الأخضر، ولكن البشر كما هم لا يتغيرون: رجل عليل في الفراش، وامرأة تطعم الطيور.

الحرية المفقودة

شريهان بطلة الفيلم

“الطوق والإسورة” يعالج في جوهرة فكرة الحرية المفقودة، والقيود التي تمنع الناس من التغيير، ومن جعل حياتهم أفضل أكثر ثراء، وهذه الأغلال ليست منظورة، ولكنها تعشش في العقول والقلوب، هي في الداخل، تمكنت حتى صار من الصعب اقتلاعها، دور المتعلم والمثقف محدود وضئيل، إنه يبدو غريبا في بلده، لا يملك إلا أن يغني، الجهل نشيط، والخرافة لها جنود، والزمن لا يتحرك إلا خارج القرية، عالم يتغير وحروب تدور، والقرية ساكنة كما هي، والدائرة هي قانون اللعبة.

لايستخدم السيناريو العناوين إلا مرة واحدة، بتحديد تاريخ 1933 كبداية للأحداث، بعد ذلك نشعر بالزمن من خلال ميلاد شخصية جديدة، أو ببعض الخصلات البيضاء في الشعر، ولكن الأساس هو أن يبدو الزمن بلا قيمة، لأن قيمته تتحدد في الواقع بتغير حياة الناس، وهو أمر لا يتحقق أبدا.

 ممثلة واحدة تلعب دور فهيمة ودور فرحانة هي شيريهان، وممثل واحد يلعب دور بخيت البشاري ودور ابنه مصطفى هو عزت العلايلي، ولولا أن أم حزينة لا تظهر في الفيلم ، لكان مقبولا أن تلعب دورها أيضا فردوس عبد الحميد، شخصيات تكرر نفس المأساة، فلا تحتاج حتى الى  تغيير الشكل والهيئة، فرحانة وفهيمة تموتان مقهورتين، ومصطفى يعود مهزوما مثلما عاد والده بخيت مريضا من القصير، الموت والمأساة هما قدر القرية والعائلة معا.

طاقة عنف هائلة تخرج من عجز الرجال، باتجاه نساء البلد، يصل الأمر الى الضرب والركل كما فعل حداد مع فهيمة، وكما فعل مصطفى مع فرحانة، ويصل أيضا الى الحرق، كما فعل حداد مع نعيمة، التي تزوجها بعد طلاق فهيمة، نعيمة وفهيمة على نفس وزن الاسم، وبنفس المأساة مع نفس الرجل، ويصل الأمر الى درجة الوأد كما فعل مصطفى مع فرحانة، والذبح كما فعل سعد مع فرحانة.

تتكرر في الفيلم ثلاث مرات لقطة من طفولة فهيمة وأخيها مصطفى، تراه وهو يدخن، فيطاردها في خفة ومهارة، صورة تلقائية لعلاقة طفولية سرعان ما تتحول من اللعب الى الجد، تكرار اللقطة يكشف عن حنين لحياة بلا قيود، ولعلاقة قديمة جميلة بين البنات والأولاد، سرعان ما تتبدل بقسوة بسبب العلاقات والتقاليد، فهيمة ماتت قبل وصول مصطفى، ولكنه طارد ابنتها فرحانة ودفنها، ولأن نفس الممثلة تؤدي دور فهيمة ودور فرحانة،ليلك يبدو مصطفى  وكأنه ضرب ودفن أخته فهيمة، وليس فرحانة فحسب.

لم يكن ممكنا أن تقدم هذه الصورة القاسية إلا بتفاصيلها الواقعية، التي حاول عبد الرحمن الأبنودي، كاتب الحوار، التخفيف منها بجمل شاعرية تتسلل أحيانا على لسان أبطاله، وخصوصا في عبارات فهيمة لزوجها حداد.

 رأيي أن المعالجة هنا واقعية خشنة تماما، ولذلك كان من الأفضل أن يقتصر الأمر على العبارات المباشرة، وبتفاصيل اللهجة التي يتقن الأبنودي مصطلحاتها، لا مجال في هكذا معالجة لأي مستوى آخر، وخشونة اللهجة هنا ليست مجرد اتساق مع المعالجة الواقعية، ولكنها تعبير عن حياة ضيقة، قاسية ومحدودة، وتعبير عن صلابة وقسوة داخلية تظهر عند اللزوم.

المخرج خيري بشارة

خيري بشارة القادم من عالم السينما التسجيلية جعل كاميرا طارق التلمساني تتأمل الشخصيات والأماكن، ليس من منطلق جمالي، وإنما من زاوية التعبير عن التناقض بين طبيعة  المكان، وبين طبيعة البشر، في بعض المشاهد بدا كأننا أمام لوحات تأثيرية ينسكب فيها نور الشمس على المكان، فلا نعرف للأجسام حدودا، ولكن ملابس الناس السوداء، وخصوصا من النساء، تتناقض مع زرقة النيل والسماء، واللون الأخضر الذي يغطي بعض المزروعات.

رسم التلمساني أيضا بالنور ملامح شخصياته في الليل، إضاءة ناعمة تبرز جمال فهيمة في كل الأحوال، وفي اللقطات القريبة، والقريبة المكبرة، وإضاءة تبرز حدة معالم وجه حداد، الرجل يبدو كما لو كان تمثالا من الصخر.

رغم أهمية الحوار، ورغم براعة موسيقى انتصار عبد الفتاح، التى تردد جملة أقرب الى العدودة الحزينة، والتي تعيدنا بطبولها وطرقاتها الى عالم بدائي قديم، إلا أن الصورة في هذا الفيلم تسجل وتتأمل وتتعاطف، وتصنع معادلا لا ينسى لرتابة الحياة، ولقسوة البشر، بينما تبدو الطبيعة أكثر حنانا وعطاء من الناس، مطرا وشجرا ونخيلا ونيلا، وطيورا لا تتوقف عن التحليق في السماء، وثراء الصورة يرتبط بالتأكيد بدور محمود محسن، مهندس الديكور والمشرف الفني للفيلم.

كان الفيلم اكتشافا كبيرا لموهبة شيريهان، التي اشتهرت بفوازير استعراضية لا علاقة لها بالتراجيديا الصعيدية، لعبت شيريهان دور فهيمة بامتياز، كما قدمت شخصية فرحانة كنصف طفلة ونصف أنثى، ونجحت في الحالتين، وأعتقد أن هذا النجاح كان سببا في اختيار رضوان الكاشف لها بعد سنوات طويلة، لكي تلعب بطولة فيلمه “عرق البلح”، وكان دورها في هذا الفيلم أيضا من أفضل وأهم أدوارها، ولكن خيري بشارة هو الذي سبق باكتشاف هذه القدرات عند ممثلة ارتبطت ببرامج استعراضي ترفيهي  ناجح.

فردوس عبد الحميد قدمت شخصية حزينة بمزيج من القسوة والحنان، حزينة ليست امرأة شريرة، ولكنها ابنة جهلها وظروفها ومجتمعها الذي يقدس العادات والتقاليد، وهي أيضا شخصية تراجيدية بامتياز، حاولت إنقاد فهيمة، فقتلتها، وحاولت حماية فرحانة، واختارت لها اسما مبهجا، طمعا في مستقبل أفضل، ولكن حزينة ستشهد أيضا نهاية حفيدتها فرحانة، هذا الحزن بلا أفق على الإطلاق، وقد جسدت فردوس عبد الحميد هذا الحزن الأزلي بمنتهي القوة والتأثير.

عزت العلايلي لعب باقتدار دورين مختلفين ومقتربين معا، مصطفى يكرر سيرة أبيه، ولا يستطيع أن يغير شيئا، هناك ملمح آخر بينهما هو حب الفكاهة، لكن مصطفى يكتشف في النهاية ضرورة أن يصرخ ويثور حتى على نفسه، بخيت معذور لأنه لا يتحرك إلا بمعاونة زوجته، بينما مصطفى سافر، وتعامل مع الأجانب، ومع ذلك ما زال جزءا من هذا العالم الذي تركه من عشرين عاما.

أحمد عبد العزيز قدم في هذا الفيلم أحد أفضل أدواره السينمائية، دور حداد العاجز العنيف ليس سهلا، كما أنه يمكن أن ينزلق  بسهولة من خلاله الى المبالغة، ولكن ذلك لم يحدث، لا شك أن خيري بشارة له دور كبير في أن يأتي التعبير أولا بالوجه وليس بحركة الجسد، في المشهد الذي تحكي له فهيمة حكاية، يظهر وجه عبد العزيز في لقطة قريبة، نراه يتلون بين الإهتمام والرغبة العجز والقهر، أحمد عبد العزيز موهبة حقيقية، ولكنه يحتاج الى إدارة واعية من المخرج، حتى لا ينطلق ويجتهد من نفسه، فيعود الى مرجعيته المسرحية.

محمد منير كان جيدا في دور المدرس المثقف المغترب، وقدم أغنيات جميلة ومثيرة للشجن، نوبية وصعيدية، هذا مكانه، وتلك بيئته، أحمد بدير أيضا كان اختيارا موفقا في دور التاجر، لقد منح الشخصية حيوية فائقة، مع بعض اللمسات الكوميدية، بالذات في مشهد ذهابه بالهدايا الى بيت الشيخ هارون.

يتألق عبد الله محمود دوما في تلك الشخصيات المركبة، سعد الذي رفضته فرحانة، يعبر ببراعة في مشهد واحد متصل عن تعاطفه معها باعطائها الماء، ثم يذبحها بقسوة في الحركة التالية، يتغير تعبير وجه عبد الله في لمح البصر، سعد، واسمه أبعد ما يكون عن حياته مثل  أسماء نعيمة وفهيمة وبخيت ومصطفى، هو الحصاد المر لهذا العالم القاسي، يتلصص دوما على أسرة بخيت من فوق الشجرة، كل شيء لديه يحتاج الى الغلظة والشراسة، هو خلاصة أجيال القهر والمأساة.  

في الفيلم ممثلة كانت واعدة في تلك السنوات لعبت دور نعيمة، اسمها دينار، لفتت الأنظار لفترة ثم اختفت، لابد من الإشادة كذلك بالممثلة التي لعبت دور أم السعد، وبالممثل محمد درديري الذي لعب دور النقيب يوسف، والفنان حسن العدل في دور صديق المدرس محمد افندي، بين تناول الخمر في قارب في النيل هروبا من مجتمع مغلق، وبين محاولة مقاومة الخرافة، يعيش محمد أفندي وصديقه مأزقا مستمرا يجعلهما على هامش القرية.

“الطوق والأسطورة”، الذي تنزل عناوين البداية فيه على صورة طيور لا تتحرك، ثم تتحرك الصورة فتتحرر الطيور، يريد لشخصياته أن تفك قيودها لتطير، هكذا حلمت فرحانة أيضا، فسخرت منها جدتها، الدائرة لا تسمح بالتحرر، ولكن تعود طيور السماء في النهاية، لتنوب عن المقيدين في التخليق والطيران، ولكي تذكرنا  من جديد بأهمية أن نحطم كل الأغلال.

في فيلم “آيس كريم في جليم”  للمخرج خيري بشارة تظهر أيضا الطيور المحلقة في نهاية الفيلم، كعلامة بصرية واضحة، تؤكد من جديد على انحياز المخرج الدائم للحرية، مهما اختلفت الموضوعات، ومهما تنوعت الأساليب.

Visited 128 times, 1 visit(s) today