السينما كأداة للمقاومة (3 من 4): جلاوبر روشا نموذجًا

كان جلاوبر روشا (1939- 1981) أشهر مخرجي سينما نوفو، وبرغم أن حياته لم تمتد أكثر من اثنين وأربعين عاما، إلا أن حصاده الفني كان كبيرًا نوعًا ما: عشرة أفلام روائية طويلة، وستة أفلام قصيرة، وعدد لا بأس به من المقالات والأبحاث، وفيلم لم يستطع أن يكمله.

جاءت أعمال روشا كلها متوافقة من حيث الأهداف مع السينما الثورية أو السينما الثالثة، مع فارق هام أن روشا حاول جاهدًا أن يحقق نوعا من التوازن بين الجانب الجمالي والأهداف القومية الاجتماعية لأعماله، لهذا نالت بعض أعماله استحسان النقاد، واعتبره البعض من كبار السينمائيين أصحاب المشاريع “فهو لا يقل من حيث الأهمية عن روسيلليني Rossillini وجودار اللذين كان هو نفسه معجبا بهما”([i]).

وعندما عرض روشا فيلمه مورتيس(Antonio das Morteسs (1969)- الذي استخدم فيه الألوان للمرة الأولى في فيلم روائيطويل (كان قد استخدمها في أفلامه القصيرة)- في مهرجان “كان”1969، أثار هذا الفيلم حماس الحضور، وقد وصفت إيفون بابي ناقدة “لوموند” Le Mondeالفيلم بأنه “مدهش في استلهامه وحريته وشاعريتهوغناه. إنه فيلم يمزج بين السامي والمأسوي، ويبدو درامياً وأوبرالياً في الوقتنفسه”)[ii](.

لم يقف روشا موقفا عدائيًا من التقنيات والأساليب التي استخدمت في تجارب سينمائية أخرى حتى لو كانت خارج أمريكا اللاتينية، وهذا هو فارقه الثاني عن تيار السينما الثالثة. ولعل المثال البارز على هذا الانفتاح فيلمه إله أسود شيطان أبيضDeus O Diabona Terra do Sol 1964))إذ نجد فيه “إدماج للعديد من العناصر المتباينة: تكنيك المونتاج عند إيزنشتين Ejzenštejn، شعر المنطقة الشمالية من البرازيل، وثراء النسيج السينمائي في أفلام فيسكونتيVisconti، وحيوية أفلام “الويسترن” Western، والاهتمامات الاجتماعية للأفلام التسجيلية، وتصميم الحركات التي تشبه الرقص، وغنائية الألحان الفولكولورية البسيطة، والتفاصيل الخاصة بالمنطقة التي نشأ فيها روشا، والمشكلات العامة للتخلف”)[iii](.

5.1 في ماهية الجوع

 ألقى روشا بيانه الموسوم بـ”جماليات الجوع”خلال تظاهرة أقيمت لأفلام “سينما نوفو” في مدينة جنوى الإيطاليةبمبادرةمن منظمات كاثوليكية يسارية وعدد من المثقفين الإيطاليين التقدميين. والغريب في هذا الشأن هو أن التنظيمات اليسارية الكاثوليكية كانت هيالمبادرةفي معظم الأحيان، مع أن أفلام روشا، الأولى على الأقل، كانت من ضمنمواضيعهاالأساسية مهاجمة الشعائر والطقوس الدينية لاسيما في الريف البرازيلي([iv]).

    وفي مقابل ثقافة الجوع، يعلن روشا تبنيه ما أطلق عليه استطيقا الجوع: “إن بطلنا سيكون ذلك الإنسان البرازيلي الذي يعيش الأزمات في تنوعاتها. إن السينمائي سيساهم في اكتشاف ما هو برازيلي، وذلك عبر بحثه الدؤوب بواسطة الصورة المباشرة وباستفادته مما يعرف- أو ما يعتقد معرفته- عن واقع الإنسان البرازيلي”([v]).

    لم يقصد روشا بجماليات الجوع “التعبير عن الجوع في الأفلام” أو حتى “جعل الجوع عملا فنيا”، فربما تكون هذه نتيجة غير مباشرة لما قصده هو من بيانه. فما أراده روشا هو القول بأن الجوع سمة مميزة، ليس للمجتمع البرازيلي فقط، بل لشعوب العالم الثالث بأسره. ليس الاستهلاك كما هو الحال في أمريكا، وليس الانشغال بالقضايا الفلسفية والثقافية كما هو الحال في المجتمع الأوروبي، بل الجوع: “إن الجوع في أمريكا اللاتينية ليس مجرد عرض ينذر بالخطر، بل هو جوهر مجتمعنا. وهناك تكمن الأصالة المأساوية للسينما الجديدة بالنسبة لعالم السينما. وأصالتنا هي مما لدينا من الجوع، والبؤس الأكبر بالنسبة لنا هو أننا نشعر بهذا الجوع ولكننا لا نستوعبه فكريًا”([vi]). هذا الجوع ليس جوعًا للطعام فقط، بل هو جوع لكافة الحقوق الإنسانية التي سلبها المستعمر. إنه جوع بالمعنى العام لكلمة جوع “نحن نفهم الجوع الذي لم يفهمه الأوروبيون وغالبية البرازيليين. فهو بالنسبة للأوروبيين سريالية غريبة. أما بالنسبة للبرازيليين فهو عار وطني. فهو لا يأكل ولكنه يخجل من أن يصرح بذلك، ومع هذا فهو لا يعرف من أين يأتي هذا الجوع” ([vii]).

    هذا الجوع، وفقا لروشا، يتحول إلى بؤس يظهر في شتى مظاهر الحياة. وقد تكون نتيجة هذا البؤس هي العنف،والعنف قد يتحول الى إرهاب إذا ارتبط بالكراهية، وقد يتحول إلىأعمالفنية إذا ارتبط بالوعي والرغبة في تغيير الواقع.

ويفرق روشا في نصه بين نظرة الغربي- الأوروبي والأمريكي- لسينما أمريكا اللاتينية بشكل عام، وبين الواقع الفعلي لها، فيقول “إن المشاهد الغربي يتابع عملية الخلق الإبداعي في العالم غير المتطور ليشبع حنينه للبدائية”)[viii](، وذلك بعد أن أكد على أن أميركا اللاتينية لم تستطع التعبير عن همومها بشكل يؤثر في المتلقي الغربي، نظرًا لافتقادها أدوات التواصل معه، وتلك هي وظيفة السينما الجديدة في رأيه.

كما يقارن روشا بين نمطين من السينما: سينما العالم الثالث وما تقدمه من ما أطلق عليه “معرض لشعب جائع”، وما يسميه “السينما الهاضمة” digestive cinema، والتي هي على حد تعبيره، أفلام عن أناس أغنياء في منازل جميلة وسيارات فاخرة؛ أفلام مرحة سريعة الإيقاع فارغة من المعنى وذات أهداف تجارية بحتة. وبنبرة تذكرنا بعمل فرانز فانون المعذبون في الأرضTheWretched of the Earthيدين روشا القمع الاستعماري الجديد للبرازيل، داعيا البرازيليين لأن يقرروا مصيرهم السياسي والسينمائي على حد سواء. وهو مثل فانون، يرى العنف، بكل أشكاله، إحدى وسائل التعبير الأصيل لشعب جائع([ix]).

لقد رأى روشا أن استطيقا العنف، لا تعبر عن الهمجية بقدر ما تعبر عن نزعة ثورية ممكنة. فهي اللحظة الأولي التي يعي فيها المُستعمر وجود من يستعمره “فعندما يواجه بالعنف يفهم المُستعمر، عبر الهلع الذي ينتابه، قوة الثقافة التي يستغلها. ومادام أنه لا يحمل السلاح، فسيظل المٌستعمَر عبدًا؛ وقد كان من اللازم أن يقتل الشرطي الأول حتى يعي الفرنسيون وجود الجزائريين”([x]).

5.2 عالم روشا: الوجود في العالم ضد الأسطورة

    “البرازيل دولة غنية بالأساطير، ولا يوجد عمل إبداعي واحد يخلو من الإشارة إلى أسطورة ما، سواء كان ذلك بصورة واضحة أو مضمرة”)[xi](، هكذا قال روشا في أحد الحوارات التي أجريت معه، حول حضور الأسطورة في أعماله. والمجتمع البرازيلي، في هذا الجانب، شديد الخصوصية. إذ تمارس الأسطورة فيه، على المستوى الشعبي، دورًا فعالًا.  لذا يصعب على أي فنان صاحب رسالة اجتماعية أن يسقطها من حساباته، فهي أداة فعالة من أدوات الجذب والتأثير على المتلقي.

ولأن أفلامه كانت موجهة للجمهور البرازيلي في المقام الأول، فإن أعمال روشا يمكن النظر إليها بوصفها “وثيقة تاريخية” يمكن أن نستخلص منها ملامح التراث الشعبي البرازيلي، ولعل حضور الأغنية في أعماله هو أحد أبرز تلك الملامح. وقد قال جيمس فيلبس James Phillipsعن فيلم إله أسود، شيطان أبيض لروشا “نجد أن الشخصيات الرمزية التي يحويها الفيلم: المقدسين beatos، القتلة المأجورين jagunços ، العصابات cangaceiros ، نتاج الخيال الشعبي لمنطقة شمال شرق البرازيل، وهي شخصيات مألوفة في يوميات إيوكليدس دا كونيا Euclides da Cunha، وأعمال فيتالينو Mestre Vitalino، وعدد لا حصر له من الأغاني الشعبية الإقليمية”)[xii](. وربما لهذا السبب أيضًا يصعبالتعمق في جماليات سينما روشا، وسينما نوفو عمومًا، ما لم يكن الباحث ملما بهذا البعد الهام من الثقافة البرازيلية.

 في كتابه سينما2:الزمن Cinema-2: L’Image-temps 1985  يتناول الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز Gilles Deleuze(1925-1995) سينما روشا، في سياق حديثه عنسينما العالم الثالث، ضمن الجزء الذي خصصه للحديث عن السينما السياسية. وقد رأى أن الامتياز الحقيقي لهذه السينما يتمثل في ربطها ما هو اجتماعي-سياسي بما هو فني. ولأن العالم الثالث قد خضع لفترات طويلة للاستعمار سواء من الخارج أو الداخل؛ فإن سينمائيي هذا العالم قد تحملوا عبء مواجهة ومقاومة هذا الاحتلال عبر خلق لغة جديدة تتجاوز ما هو سائد وعبر استنهاض واستحضار الشعب الغائب أو المتغيب )[xiii](.

    ثمة سمة أخرى، بحسب دولوز، لسينما العالم الثالث تتضح في أعمال روشا، وهي ذلك “الارتباط بين العام والخاص”([xiv])، بين السياسي والذاتي. فالحياة الشخصية للمؤلف أو صانع الأفلام في العالم الثالث تأخذ مكانها داخل الفيلم لتعبر عن وجهة نظره إزاء التناقضات والمشكلات الاجتماعية. ليس ثمة موضوعية، أو تعدد في وجهات النظر داخل الفيلم، بل فقط رؤية للمجتمع من خلال عيون المؤلف أو صانع الأفلام، وهي تمتزج في الغالب بالتاريخ الشخصي لهم. لهذا نجد روشا في أعماله يعود للأساطير السائدة محاولا هدمها، ومن هنا لقب بـ”هادم الأساطير”)[xv](

والسمة الثالثة لسينما العالم الثالث، والتي تظهر في أعمال روشا، تتمثل في كونها “تعبيرا عن الأقليات والطبقات المهمشة”([xvi]). والواقع أن هذه السمة فرضها الوضع الاجتماعي والسياسي لشعوب هذا العالم (الاستعمار، الاستبداد)، بحيث يغدو الشعب بأكمله في وضع أقلية، إنها حالة تشظي للمجتمع يصعب الحديث فيها عن أي وضع من أوضاع الوحدة والاتحاد. الشعب في حالة شتات، مقسم إلى طبقات، وداخل الطبقة الواحدة ثمة طبقات أخرى عديدة، بحيث يؤدى هذا في النهاية إلى غياب مفهوم “الشعب”، الذي يشير في الأصل إلى “جماعة موحدة تجمعها صفات مشتركة”، لذا فإن مهمة السينمائي في العالم الثالث التعبير عن هذا الشعب الغائب “فالمؤلف يثير رعشة القلق في أجزاء الشعب كي يساهم في خلق شعبه، الذي هو وحده قادر على أن يشكل المجموع”)[xvii](.

وإذا كان الجمال، مثل اللغة، أحد الأسلحة التي تستخدمها الطبقة الحاكمة للسيطرة على المحكومين والإبقاء عليهم داخل أطر الأوضاع الاجتماعية التي تخدم مصالحهم (الحكام)، فإن أحد المهام التي اضطلع بها روشا هي تطوير هذا السلاح وجعله يعمل بصورة عكسية ضد العدو، وما العدو هنا إلا السادة والمستعمرين. أولى الخطوات لتحقيق هذه المهمة هو جعل إدراك الجمال يسيرا، أي عدم الحديث بلغة المجاز والرمز والشفرات، وهذا لا يعني الوقوع في الابتزال، بل هو محاولة لجعل الجمال مدركا من قبل قطاع عريض من الجمهور. حقا إن العمل الفني كلما كان محملا بالدلالات والرموز التي تحتاج إلى عمليات تأويلية من قبل المتلقي، ازدادت قيمته الفنية وظل محتفظا بتلك القيمة زمنا طويلا، إلا أن المسألة مرتبطة بهدف الفنان من العملية التعبيرية:هل هو جمالي خالص أم جمالي اجتماعي؟ ومهمة الفنان تحقيق حالة من التوازن بين الاثنين، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر. هذه النقطة هامة جدًا لدى كل فنان يجعل لفنه هدفًا اجتماعيًا، وربما إغفال البعض لها حال دون تواصله مع الجمهور)[xviii](. لهذا عمد روشا في أعماله الحديث بلغة مباشرة، وأحيانا بطريقة تعليمية فجة، يمكن استيعابها من كافة طوائف الشعب.

على أن الوجه الآخر لهذه الخطوة هو الأكثر صعوبة وأهمية، وهو المتعلق بإعادة إرساء القيم الجمالية، أي ابتكار مناطق جديدة للتعبير الجمالي تكون بديلًا للمفهوم البرجوازي للجمال. فالبورجوازية ساهمت في إرساء أطر وقوالب نمطية للجمال تتوافق ووضعهم الطبقي، هذه الأطر والقوالب أفرزت بمرور الوقت مجموعة من المفاهيم تسربت لمنظومة القيم السائدة لتحدث نوعًا من الإزاحة والإحلال، وتغدو بمرور الوقت هي القيم السائدة والمعبرة عن المجتمع بأسره. من أمثلة ذلك “اللون الأسود قبيح” والتي ستتحول بمرور الوقت إلى “اللون الأسود رمز الشر”، وهذه الأخيرة ستصبح بمثابة قاعدة في التعبير الجمالي بحيث يغدو اللون الأسود مرادفا للتعبير عن الشر، ومن ثم تتحول هذه المقولة بمرور الوقت إلى ما يشبه قاعدة جمالية سواء بالنسبة للفنان أو المتلقي، حتى في مجتمعات ذوي البشرة الداكنة.

كان روشا واعيا بتلك المسألة، لهذا جعل من هدم الأفكار والقيم الجمالية السائدة هدفًا له، محاولًا بذلك اكتشاف مناطق أخرى للتعبير الجمالي، كما فعل ذلك في عمله الأكثر شهرة إله أسود، شيطان أبيض.

جميع أفلام روشا في حقبة الستينيات تبحث عن طريقة لإحياء وتحرير الوعي السياسي لدى الشعب المقهور. ونستطيع أن نلمس ذلك في أفلامه الروائية الثلاثة الإله الأسود والشيطان الأبيض 1964، الأرض في محنة 1967، وأنطونيو داس مورتيس1969.

في الإلهالأسود والشيطان الأبيض([xix])Deus e o Diabo na Terra do Sol 1964  يتناول روشا القوى الاجتماعية بمنطقة الشمال الشرقي، وهي منطقة قاحلة فقيرة (ينجح المشهد الأول من الفيلم في تجسيد هذا المعنى بقوة- صحراء قاحلة بها ثور نافق، تقترب الكاميرا منه لترينا تضاريس وجهه، والمعنى أن الثور لم يحتمل العيش في تلك البيئة، فما بالنا بالبشر). لكن الأهم من ذلك أن الفيلم يدرس العلاقات المعقدة بين السلطة الدينية والفلاحين المقهورين والقتلة المأجورين والعصابات، وهي كلها بمثابة مفردات الواقع الاجتماعي البرازيلي آنذاك. والجو العام للفيلم يتشابه مع جو أفلام الويسترن، ربما لأن الشخصية المؤثرة في الأحداث، أنطونيو داس مورتيس، تتشابه إلى حد كبير مع شخصيات أفلام الويسترن، من حيث الملبس والسلوك والأداء. فهو قاتل مأجور يعرض خدماته مقابل المال. لذا تستعين به السلطة الكنسية لقتل المزارعين، والقضاء على تمردهم.  

    والخط الدرامي لتلك الشخصية يوازيه خط آخر لأحد الفلاحين (مانويل) وزوجته وطفلهما الرضيع وهما في خط هروبي منذ بداية الفيلم. فقد قتل مانويل صاحب الأرض وبالتالي عليه الهرب هو وأسرته، لكنه يهرب من جريمته ليقع أسيرًا نفسيًا في يد جماعة من المتعصبين دينيا.

جلاوبر روشا

للعديد من شخصيات الفيلم جذور تاريخية حقيقية بمنطقة الشمال الشرقي، بينما بقية الشخصيات من بنات أفكار روشا وتجاربه. فهناك العصابات التي تسرق من الأغنياء لصالح الفقراء وهناك الاتجاه الشعائري الروحاني للفلاحين فى تلك المنطقة. وهناك السلطة الدينية المزيفة، والمتمثلة في شخصية البابا، التي تسعى للحفاظ على الوضع القائم، لأنها تخشى التمرد والعصيان.

    لكن السمة البارزة في هذا الفيلم، وهي من السمات الحاضرة أيضًا في أفلام أخرى عديدة لروشا، هي الصورة التي يُظهِر بها روشا الفلاحون:فهم خاملون، يائسون، مستسلمون، ميتون في واقع الأمر.وبالتالي فهم عرضة دائمًا للتضليل، لأنهم لا يملكون أمرهم، ولا يمتلكون أية فاعلية. أنهم في انتظار دائم- بما فيهم البطل- لأي قائد مهما كانت أغراضه حتى ينصبون منه قائدًا له. وتبدو هذه الرؤية نابعة من قناعات روشا نفسه، غير أنها تتناقض بالضرورة مع مسعاة في خلق حالة من الوعي لدي الشعب تمكنه من أن يكون فاعلًا. وعلى الرغم من أن روشا يلجأ للتاريخ دائمًا، فإن رؤيته هذه تفتقد تماما لأي سند تاريخي، حيث لا تعكس هذه الرؤية أي واقع تاريخي. “فتاريخ تلك المنطقة (سرتاو) على وجه التحديد– وخاصة التاريخ الحديث– يؤكد عكس هذه الرؤية تماما، فقد كانت هناك عصبة قوية ضمت الفلاحين وكانت تتصف بالعزيمة والتنظيم الجيد”([xx]). وبالإضافة لهذا، هناك التحول المفاجئ في شخصية البطل، والتي يعزوها روشا إلى تغير “أخلاقي روحاني”، وهي طريقة غير منطقية للقفز بالأحداث إلى مستوى آخر، وهو أسلوب يتبعه روشا في العديد من أفلامه.

وكما هو الحال في باقي أعماله الأخري، يستخدم روشا الموال الغنائي في الفيلم ويسند إليه العديد من الأدوار بوصفه أداة من أدوات الفيلم: فالجيتار يصاحب غناء المغني عن مانويل وروزا وهما يعملان في أرض سرتاو بأيديهما، ثم يحدث تغير في طريقة العزف عند الحديث عن سباستياو، للإيحاء بالأمل. وفي مشهد آخر يتغير الإيقاع الموسيقي ليناسب المشهد الذي يقوم فيه مانويل بإغلاق عيني والدته التي لقيت مصرعها خلال القتال مع رجال موريس. وقد يحل الموال محل الحوار، كما في مشهد المبارزة الأخيرة بين كوريسكو وأنطونيو، حيث يغني الراوي:

“استسلم، كوريسكو!

لا، لن أستسلم!

أنا طائر لا يرضى بالعيش داخل قفص”.

وقد توجه الأغنية حركة الكاميرا كما حدث في مشهد تقديم كوريسكو؛ حينما ينشد الراوي: “كوريسكو الشرير يدخل حياتهما”، حيث تتنحي الكاميرا يمينا كي تضع كوريسكو في الكادر، كما لو أن هذه الكلمات قد نبهتها إلى مكانه ([xxi]).

    أظهر روشا موقفًا قويًا من توظيف الموسيقى في الفيلم، فهو لا ينظر للموسيقى على أنها تقوم بإضفاء جو شعوري على الفيلم فقط، بل هو يعتمد عليها لأداء مهام أخرى عديدة أيضًا- التنظيم والتعليق وتوصيل معنى اللقطة والمشهد بل والفيلم بأكمله، وقد قال روشا في أحدى حواراته “البرازيل بلد يحب الموسيقى، وأنا أعتبر أن السينما ما هي إلا مونتاج موسيقي ذي فواصل وإيقاعات موسيقية”([xxii]).

  بعد الإله والشيطان أخرج روشا فيلمه أرض في محنة([xxiii])Tierra em Trance 1967وهو من نوعية الأفلام السياسية- الخيالية. يبدأ الفيلم بلقطة يتم تصويرها من طائرة مروحية، بينما يسمع قرع الطبول على شريط الصوت، ويظهر منظرًا عامًا للأرض الاستوائية، وتخبرنا العناوين أنها بلاد “إلدرادو”، لكننا نعرف أنها ليست إلا البديل السينمائي للبرازيل، وسرعان ما تصبح الكاميرا في مستوى الأرض ليغلق الكادر على  شخصية خوسيه ليوجوي وهو يتصبب عرقًا، إنه يلقي ببعض الأوراق في الهواء، وتطارده مجموعة تبدو أنها من الصحفيين، بينما ينقض البطل اليساري “باولو”- الذي لعب دوره الممثل البرازيلي جارديل فيلهو  Jardel Filho– على مسدس يحمله الحارس الشخصي لخوسيه ويوجهه إليه، ليبدأ اطلاق النار. وينطلق “باولو” هاربًا عبر حواجز الشرطة، وبعد قليل يلقي مصرعه على يد حارسين فوق دراجات نارية، وبينما يلفظ أنفاسه الأخيرة يتمتم بكلمات عن البرجوازية والنظام العسكري والإبداع والشعر ودولة الجماهير. ثم يبدأ الفيلم بعد هذا المشهد ليوضح لماذا أفضت الأحداث لقتل “باولو”. وفي هذا الفيلم يناقش روشا علاقة الفنان، متمثلة في شخص الصحفي “باولو” الذي يكتب الشعر، بالسلطة السياسية والدينية، وهما وجهان لعملة واحدة عند روشا، فكلاهما يهدفان للسيطرة على الشعب عبر تزييف وعيه، وتلعب وسائل الأعلام دورًا فعالًا لتحقيق هذا الهدف. أما الفنان، فإذا تجاوز حدود المسموح به وأصبح يشكل خطرًا وتهديدًا للسلطة بشقيها الديني والسياسي، فينبغي التخلص منه، إما بالقتل أو بالنفي. وتبدو هذه الرؤية نابعة من تجربة شخصية لروشا، حيث تعرض هو لتضييق الخناق عليه، ما أفضى في النهاية لنفيه من قبل الحكم العسكري في البرازيل عام 1968.


[i]))كلينجر، جابي: “جلوبير روشا: جماليات الجوع والعنف”، ترجمة أحمد يوسف، مجلة عالم السينما،جمعية نقاد السينما:العدد الخامس، 2007، 70.

[ii]) )إبراهيم العريس:السينما والتاريخ والعالم، دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 2008، 87.

[iii]) ) يوسف، أحمد (مترجم): “سينما نوفو البرازيلية: ثورة ثقافية على الشاشة”، عن مطبوعات اليونسكو، مجلة عالم السينما: العدد الخامس، 2007، 76.

([iv]) السينما التاريخ والعالم، 95.

([v] السينما في أمريكا اللاتينية، 12.

([vi])Glauber Rocha.” An esthetic of Hunger.”, 70.

([vii])“An esthetic of Hunger.”, 70.

([viii])“An esthetic of Hunger.”, 70.

([ix])“An esthetic of Hunger.”, 68.

)[x](“An esthetic of Hunger.”, 70.

)[xi](Kollker, Phillip. The altering Eyes: Contemporary International Cinema. Cambridge: Open Book Publishers, 2009. 208.

)[xii](Phillips, James”Glauber Rocha: Hunger and Garbage.” Cinematic Thinking:Philosophical Approaches to the New Cinema. EdJames Phillips. Stanford: Stanford University press, 2008, 104.

)[xiii]( Deleuze, Gilles.Cinema 2: The Time-Image. Trans Hugh Tomlinson and Robert Galeta. Minneapolis: University of  Minnesota Press, 1989,220.

)[xiv]( Cinema 2, 217.

)[xv]( Cinema 2, 222.

)[xvi]) Cinema 2, 218.

)[xvii]( Cinema 2, 224.

([xviii])  ربما المثال الأوضح على ذلك في السينما المصرية يوسف شاهين، فلسينما شاهين رسالةسياسية-اجتماعية واضحة، وهو من المخرجين الذين ارتبط الهام الخاص لديهم بالهم العام. لكن في معظم أفلامه افتقد شاهين التواصل مع جمهوره، فرغم الحضور الطاغي للاجتماعي والسياسي في أعماله، إلا أن الجمهور كان يتأفف دائما من صعوبتها- باستثناء البعض منها- وبالتالي كان يعزف عن مشاهدتها، ويتهمها بأنها غير موجهة له وإنما للنخبة. وربما هذا ما دفع شاهين في آخر أعماله هي فوضى 2007أن يتحدث بلغة مياشرة وغريبة جدا عن روح أعماله.

([xix])Glauber Rocha, Director, Deus e o Diabo na Terra do Sol, Versatil / Mr Bongo, 1964.

:  راجع([xx])

Klinger,Gabe.”Glauber Rocha.” Sense of Cinema

(http://archive.sensesofcinema.com/contents/directors/05/rocha.html).

([xxi] (Bruce, Graham. “Music in Glauber Rocha’s films.” Jump Cut, no. 22, May 1980, 16- 17.

)[xxii](“Music in Glauber Rocha’s films.”,15.

([xxiii])Glauber Rocha,Director, Terra em transe, Versatil,1967


Visited 20 times, 1 visit(s) today