الزمان والمكان والإنسان بين أوديسا كوبريك ومومياء شادي عبد السلام

محمد فاروق *

بالتزامن تقريبًا مع تصوير أحداث فيلم المومياء لشادي عبد السلام، كان المخرج الأمريكي الشهير ستانلي كوبريك يضع اللمسات النهائية لفيلمه 2001: أوديسا الفضاء الّذي سيصير أحد علامات السينما العالمية عبر العقود، ورغم أن صناع المومياء لم يتسنّ لهم مشاهدة فيلم كوبريك، ورغم أن فيلم كوبريك هو فيلم خيال علمي عن الفضاء بينما فيلم المومياء هو دراما متعلقة بالتاريخ المصري القديم، فإن المومياء يكاد يكون أكثر الأفلام مشابهةً لأوديسا كوبريك رغم كل محاولات التأثر بها التي تستمر حتى الآن من كل سينمائيي العالم.

المومياء والأوديسا يبدوان مختلفَين كليًا وفي كل شيء لكن في الحقيقة هما يتناولان نفس المواضيع الكبرى، يتناول فيلم كوبريك المكان والزمان بالمعنيَين المُطلقين فيلعبان الدور الرئيسي فيه، يطغى الزمان بمعناه المطلق على فيلم المومياء لكن لا يمنع أن المكان يلعب دورًا كبيرًا فيه، فنقرأ في افتتاحية الفيلم النصية ما يشير إلى المكان بالمعنى المطلق، السماء والأرض والبحار، لأن كل الأماكن تطولها الوعود المقدسة أو الحقيقة الثابتة، كما أن المكان بالمعنى المحدود، أي مكان الأحداث، هو شخصية رئيسية في عمل شادي عبد السلام بلا شك. يتمادى كلا الفيلمين في تبيين مدى ضآلة الشخصيات مقارنةً بما يحتضنها من محيط، المهمة سهلة للغاية في فيلم يتمسرح في الفضاء، وما ننفك نرى رائد الفضاء أو الكبسولات الفضائية غارقة في سواد شاسع، وفي فيلم المومياء تبيّن الكادرات من زاوية عين الإله ذلك تمامًا، وتُذكر إشارة صريحة لمدى تضاؤل الإنسان بالنسبة للمكان قرب بداية الفيلم، حينما يقول العم لابني أخيه «ما أنتما إلا حبات رمل في جوف هذا الجبل»، إذ أن تضاؤل الإنسان في وسع هذا العالم هي ثيمة رئيسية في فيلمين يتناولان البحث عمّا يجوز تسميته بحقيقة كبرى.

أما عن الزمان فهي نقطة في غاية التجلّي، يمكن تقسيم خط الزمان في كلا الفيلمين إلى عصور أو حُقب أو أزمنة بعيدة عن بعضها كل البُعد، وكل زمن منها يضفي معنى جديدًا ويدهس معانيَ أخرى، ونلاحظ في كلا الفيلمين أن عنصرًا غامضًا ما يبدو واقفًا عبر الزمان أو حتى خارجه، شيئًا راسخًا لا يشاركنا حبكة الزمان ومعانيه المتبدّلة. يمكننا ملاحظة تلك الأزمنة المتبدّلة في فيلم كوبريك بمقاييس كونية كالآتي:

  1. زمن الحضارة الكونية القديمة الّتي صنعت اللوح الأسود الغامض. [قبل ملايين أو ربما مليارات من السنين]
  2. سلف الإنسان، لحظة عثور القردة العُليا على اللوح الأسود وانتقالهم إلى حلقة جديدة من التطوّر، تمثلت في تحولهم لأكل اللحوم واستخدام الأدوات. [قبل أربعة ملايين سنة]
  3. الإنسان الحديث، الّذي يعثر على اللوح الأسود ثانيةً مدفونًا هذه المرة تحت تربة القمر، ثم يدبّر رحلة إلى المشترى للبحث عن حقيقة اللوح الأسود. [الوقت الحاضر أو المستقبل القريب، عام 2001]
  4. ما بعد الإنسان، بعد تعاقب الأجيال، واكتمال المسار النيتشوي نحو الإنسان الأعلى متمثلًا في طفل النجوم. [المستقبل البعيد أو الموغل في البُعد]

ويمكننا ملاحظة أزمنة مشابهة في فيلم المومياء، تشترك معها في التباعد والانفصال والتأثير الهائل على معاني الأمور والأشياء، وإن كانت الأزمنة هنا بمقاييس تاريخية أو أرضية وليست كونية، فمثلًا نرى:

  1. زمن الفراعنة العظام، الأسرات 17 إلى 21. [قبل حوالي أربعة آلاف سنة]
  2. زمن الفراعنة المتأخرين، كهنة آمون الّذين نقلوا المومياوات بعدما تعرضت للنبش والنهب إلى جوف الجبل. [قبل ثلاثة آلاف سنة]
  3. تاريخ قبيلة الحُربات، انتقالهم للعيش في الجبل، واعتياشهم فيما بعد على الدفينة. [قبل خمسمائة سنة]
  4. الإنسان الحالي، ونيس وأخوه، عندهما تنتهي حلقة العيش على الموتى ليبدأ بعث جديد. [زمن أحداث الفيلم في صيف عام 1881]

بل إننا يمكن أن نضيف كذلك زمن تصوير الفيلم نفسه (أواخر ستينيات القرن العشرين) كزمن فعّال في عالم الفيلم، ففيلم المومياء يبدأ بصلاة تعيد إلى الميت اسمه، تُفسَّر تلك الصلاة بأن أي روحٍ بلا اسم تهيم في عناء دائم، فضياع الاسم يساوي ضياع الشخصية، وهو ما يمكن إبصاره في حال البلاد بأكملها وقت صدور الفيلم، فمصر آنذاك كانت محرومة من اسمها تحت مسمى الجمهورية العربية المتحدة، ورغم خروج سوريا من الوحدة منذ عام 1963 فإن مصر لن تسترد اسمها إلا عام 1971.  

العنصر المتجاوز للأزمنة موجود كذلك في كلتا الحبكتين، في فيلم كوبريك يجد إنسان كل عصر نفسه أمام لوحٍ غامض يخبره أنه جزء من حقيقة أكبر، ينقل چيروم آچيل في كتابه عن فيلم أوديسا الفضاء تصريحًا صحافيًا لستانلي كوبريك يقول فيه أن مبدأ الإله موجود في قلب الفيلم وإن كان ليس على أي صورة مُشخّصة (Anthropomorphic) بمعنى آخر هو العنصر المتجاوز للزمان أو الخارج عنه، والّذي يمنح اتصالًا بين الأجيال وبعضها كلما ازداد الانفصال وبعدت المسافات، لا يخفى أن هذه الفكرة موجودة في فيلم شادي عبد السلام بشكل بارز، فكرة جوهر لا يبليه الزمن أو لربما هو قابع خارجه ينظر ويراقب ويقطع وعودًا نافذة، فكلما يخيّم الموت على كل شيء يأتي البعث والنهوض، وكلما تبعد المسافة بين الأجداد والأحفاد يبزغ الاتصال مجدّدًا.

إن العنصر المتجاوز للزمن يبقى مصدرًا للحيرة والتأمل للإنسان على مر العصور وباختلاف أدواته، في أوديسا الفضاء يحاول سلف الإنسان فهم اللوح الأسود بيديه العاريتين ثم تمر ملايين السنين ويحاول الإنسان فهمه ببذلة رائد الفضاء وأدواته العلمية الهندسية، وفي المومياء يتعامل أهل الجبل مع الدفينة بأدواتِ أهل الماضي مثل المشاعل النارية والحبال، وأفندية القاهرة الّذين هم في موضع الإنسان الحديث سيتعاملون مع المقابر لاحقًا بالمصابيح والسقالات، تتغير العصور وتختلف الأدوات ويبقى جوهر الحقيقة رابضًا هنالك يلم شتات ما انفصل ويثير الحيرة والفضول. أحد أشهر بوسترات فيلم كوبريك هو ما يجمع بين رائد الفضاء وسلف الإنسان على جانبين مختلفين من العنصر المحيّر لهما على حد سواء، وأحد أشهر كادرات فيلم المومياء هو ما يجمع التمثال الفرعوني مع ونيس الّذي سيوصف بأنه «تمثال قد عادت إليه الحياة»، لقطة أكثر تعبيرًا من ألف كلمة تُسهَب عن الاتصال الغامض بين جنبات التاريخ.

يشترك الفيلمان أيضًا فيما هو أكثر من ذلك، كلا الفيلمين يمتاز بإيقاع تأملي بطيء يفرضه غموض الحبكة وكبر معانيها، ويناسب هذا الإيقاع نوعٌ راسخٌ وقورٌ من التمثيل، يعبر عن أعمق المشاعر الإنسانية وأكثرها اضطرابًا بشكلٍ ينفث سكونًا يكاد يكون روبوتيًا، فمثلًا في مشهد من فيلم كوبريك نجد أحد رواد الفضاء يحتفل بعيد ميلاده بكل برود ولامبالاة، هي روبوتية صنعتها قسوة تجربة الانعزال التام في الفضاء، ولو رأينا حتى قدرًا ضئيلًا من الحميمية في هذا المشهد لانشرخ إيقاع الفيلم على نحوٍ سافر، وفي إحدى مسودات فيلم المومياء المبدئية أراد شادي عبد السلام أن تحرك الأحداثَ قصةُ حب بين زينة وونيس، لكنه تراجع عن هذه الفكرة وحسنًا ما فعل، فمشاعر الحب والحبكة الرومانسية كانت لتحدث صدعًا بالإيقاع الراتب للفيلم، وحتى محاولات الإغراء لو ارتسمت بالصورة التقليدية لكانت كفيلة بنفس الأمر أيضًا، لذا صاغ الفيلم ما بين ونيس وزينة في صورة نظرات وحركات بين الطرق والأزقة هي أشبه ما تكون بأبيات مُقفاة داخل قصيدة بصرية منظومة، وهو طبعًا خير ما يلائم طبيعة الفيلم وبنائه.

تمتد تأملية الإيقاع في الفيلمين حتى تطول مشاهد العنف والقتل، ويمكننا أن نرى تماثلًا بين مونتاچ اغتيال بول في فيلم ستانلي كوبريك ومونتاچ اغتيال الأخ الأكبر في فيلم المومياء، فحركة الكبسولة الفضائية الّتي تدور في بطء قبل وقوع الحادث في الأوديسا يمكن أن تشابه تهادي المركب النيلية في المومياء، ثم نلقى في كلا التتابعين نظرة مترقبة تلقيها الكاميرا على مدبّر الجريمة (الحاسوب هال في الفيلم الأول والرجل الملثم في الثاني) ثم وقوع الضربة القاتلة المفاجئة، وكما يبدو لا مكان لحركات عنيفة هنا، فالأمر كله أشبه برقصة موت أو طقسٍ أسود، وحركات القتل والضرب في فيلم المومياء تتسم بالبطء والهدوء لدرجة غير واقعية، فهي بدورها جزء من نظم القصيدة البصرية، ولا عجب أن أعنف مشاهد الفيلم ليس قتل الأخ ولا ضرب ونيس ولا الاعتداء على الغريب، فهي كلها أشبه بمشاهد عناق من نوعٍ خاص أو تناغم كوريوجرافي، وإنما هو مشهد انتهاك جسد المومياء لاستخراج الحليّ، وهو ما يميّز هذا الفعل من منظور عينٍ علوية تراقب وتنظر، فكل الأفعال الأخرى على جرمها وشناعتها هي جزء من عجلة التاريخ المتسم بالعنف في كل مواضعه، أما الاعتياش على لحم الموتى فهو فعل يجسّد الانفصال والانسلاخ العنيف عن التاريخ في حد ذاته.

عناصر أخرى توحي بالتماثل بين الفيلمين، فموسيقى ماريو ناشيمپيني تشبه إلى حد كبير جدًا موسيقى جيورجي ليجيتي الأتموسفيرية، وتقدّم ذات الدلالات بالوسع والسرمدية والوجود الخارجي للآخر، يتشارك الفيلمان كذلك في رونق شبحي للتكوينات البصرية على نحو لا يمكن الادعاء بإغفاله أو عدم استقباله، فعناصر مثل اللوح الأسود والقردة تحت نور الفجر وعناصر مثل أفراد قبيلة الحُرَبات وقبورهم تحت نفس نور الفجر يقدمان دلالات متشابهة، شتات وغفلة وطبيعة شبحية تفتقد للهويّة، وخضوع تام لشيءٍ أكبر حتى لو لم نعرف ماهيته ولم نقدر على الاعتراف به.

النهايتان في كلا الفيلمين تنطويان على فكرة البعث بشكل يفقد الموت قدرًا كبيرًا من معناه، في المومياء نجد المشهد الجنائزي المهيب الّذي يحمل الموتى من مخبأهم حيث انتُهكوا فيه (أو ماتوا فيه) لسنين ماضية إلى موقعهم الجديد بعدما استرد كلٌ منهم اسمه، وفي الأوديسا نشاهد تتابعًا من تسليم الأجيال لبعضها حتى يولد طفل النجوم الّذي قد يعبّر عن الإنسان الأعلى في فلسفة نيتشه، إذن في كلا الفيلمين يصبح الموت محض مرحلة أو حركة ضمن حركات كثيرة فات منها ما فات وآتٍ منها ما هو آت، وبالتالي يمكننا أن نرى في التقليل من شأن الموت ما يحرر الإنسان من حملٍ ثقيل وخوفٍ كبير، ما يحرره من العناء الدائم.

  • كاتب من مصر
Visited 14 times, 1 visit(s) today