حول صورة المرأة في السينما المغربية

من فيلم "العيون الجافة" من فيلم "العيون الجافة"
Print Friendly, PDF & Email

على سبيل التقديم البحث عن صورة المرأة في السينما المغربية، يجب أن لا يكون بأي حال من الأحوال مطابقا لصورتها في المجتمع المغربي، لان صورة المرأة في السينما تخضع لمتطلبات السوق السينمائية، فالهاجس التجاري يوجه الرؤية والمعالجة، لأن أية مغامرة إبداعية تتغيا تحقيق معادلة مع الواقع يكون مصيرها الفشل التجاري الذريع، وهذا سيجعل المخرج\ المبدع يفقد مصداقيته الفنية عند جمهوره، وقبل ذلك لدى منتج أفلامه، فلا غرابة إذا ما وجدنا صورة المرأة تتعرض للتشويه في كثير من الأحيان على الشاشة السينمائية، وهوتشويه لا يعادله في أي مجال من مجالات الإبداع الأخرى، اللهم في مجالي، الإشهار والفيديو كليبات.

السينما المغربية ووفق منطق التبعية للمنظومة السينمائية العالمية حاولت استنساخ النماذج النسائية العالمية مثلما هوالأمر بالنسبة لنماذج الرجال، نماذج دونية عاطفية ووجلة وقلقة، في مقابل نموذج الرجل، الأب والأخ والحبيب الفحل، حيث القوة والمغامرة ومواجهة الصعاب.

السينما المغربية طبعا ككل سينمات العالم تتوزعها تجارب متباينة ورؤى للواقع مختلفة، فيها التجاري الفج المنساق مع منطق السوق الباحث عن الربح والشهرة البراقة، وهوالسائد، والطليعي الجاد الذي يسعى لتقديم عوالم حقة بنكهة فنية، فيها الكثير من الجهد والإبداع، حيث هم تأسيس سينما وطنية بديلة .. تمييز يفرض علينا الحديث عن أفلام وأفلام، أفلام جادة حاولت تقديم صور ايجابية عن المرأة ودورها في بناء المجتمع ووقوفها إلى جانب الرجل ندا وقوة رغم ما يحيط بها من احباطات وقوى رجعية قاهرة تحاول جرها إلى القاع وتكريس مكانتها الدونية في سلم تراتبية المجتمع، وأفلام تجارية فجة تحكمت في عمليات إنتاجها متطلبات السوق ورؤى إخراجية متخلفة لا تستند على ثقافة فكرية وبصرية حقة.

1 – صورة المرأة الخاضعة لمتطلبات السوق والمستندة على الرؤى الخنوعةيمثل هذا “الاتجاه” مجموعة تجارب فيلمية تجارية مستوحاة من الأفلام المصرية الاستعراضية والهندية الرخيصة بل وحتى المسلسلات المكسيكية الصابونية والتركية الفجة، يكفي أن نذكر العناوين التي يذكرها الجمهور الواسع : “الحياة كفاح” و”الصمت اتجاه ممنوع” و”دموع الندم” و”للا شافية” و”الجمرة” و”أمينة” و”شبهة” و”مصير امرأة” و”محاكمة امرأة” و”حب بلا فيزا” و”زنقة القاهرة ” و”رهان” و”كلاب الدوار” و”ذاكرة من طين”..

أفلام عديدة متعددة بعضها حقق نجاحا تجاريا لا بأس به، غير أنها جميعها تفتقد للعمق والامتداد في طرح الإشكالية، فكانت النتيجة توالي سيل من المشاهد يسيطر فيها بساطة الخطاب  على لغة الصورة بل الأكثر من ذلك يبدوفي جل هذه الأفلام البناء الدرامي هشلكون الأدوار النسائية جاءت في هيئة متداعية مسلوبة بالمطلق، إذ حتى لوسلمنا بأن مواصفات القهر والإستسلام حالات واقعية في مجتمعنا فإن تناولها بشكل تبسيطي يصل في كثير من الأحيان عمق السطحية يدفع المتفرج إلى الإيمان بأن موضوعة الفيلم عولجت كغاية في ذاتها بصرف النظر عن مستلزمات الكتابة الإبداعية.الجسد وضجيجه في هذه الأفلام يحيل الفرجة إلى استعراضات مفرطة أصابت الجسد والجنس بكثير من الترهل والإطناب بل انه صياغة رؤية الجسد من خلال أحداث تغييرات على مستوى المفاهيم والقيم وبات حضور الجسد يرسم تحولات مختلفة ثقافية واقتصادية وأخلاقية واجتماعية بل وربما سياسية.

فالمتتبع للمشهد العام لهذه الأفلام يجد أنها على الدوام تحتفي بالجسد الأنثوي لما يحقق من كسب وجذب، بل إن الجسد اللقطة يشكل الموضوعة الرئيس لهذه الأفلام فأصبحنا أكثر قربا من”سينما الجنس”، الرسالة المعلنة للمخرج هي بث الإثارة من خلال الأجساد المتراكمة والموزعة بالمجان هنا وهناك، لكن للحقيقة والتاريخ، المخرج المغربي (المنتمي للفئة المتحدث عنها هنا)، رغم محاولاته اليائسة تلك فإن توزيعه للأجساد يظل غارقا في الفجاجة والسطحية لنحاول جميعا أن نتأمل في محاولات توظيف جسد الممثلة المغربية أسماء الخمليشي في العديد من الأفلام دون جدوى،”فيها الملح والسكر وما بغاتش تموت”( بأجزائه الثلاث) و”محاكمة امرأة”و”منى صابر”و”قصة وردة”و”رهان”، وغيرها من الأفلام، إن مخرجي هذه الأفلام وهم يعرضون العلاقات الخاصة بدعوى”مكاشفة المجتمع”إنما كانوا يحاولون محاكاة السينما الأجنبية، الأمريكية والأوروبية بل والأسيوية، لم يكن مجتمعهم أولنقل مجتمعنا يعرف هذه الأشياء، بل جاءت أفلاما مصورة لمخرجين مغتربين ثقافة وفكرا، ونحن نتساءل معهم أين المرأة الفلاحة والمرأة العاملة الكادحة بل نساء العلم والمقاومة؟

2 –  صورة المرأة والكتابات السينمائية الجادةصورة المرأة التي تنبع من كتابات سينمائية جادة تهدف إلى ملامسة مستويات الوعي لدى”جمهور عارف عالم”، جمهور الملتقيات والمهرجانات والأندية السينمائية أساسا، ويمكن أن نمثل له بأفلام محدودة كـ “وشمة”لحميد بناني و”الشركي” لمومن السميحي و”عرائس من قصب”و”شاطئ الأطفال الضائعين” للجيلالي فرحاتي و”باب السما مفتوح” لفريدة بليزيد و”حب في الدارالبيضاء” لعبد القادر لقطع و”نساء ونساء” و”عطش” لسعد الشرايبي و”باديس” و”العيون الجافة” لنرجس النجار، و”الراكد” لياسمين قصاري و”العيون الجافة” لنرجس النجار و”المنسيون” لحسن بنجلون و”وداعا كارمن” لمحمد أمين بنعمراوي و”جوق العميين” لمحمد مفتكر، أفلام تعتمد على رؤى فكرية واضحة تعكس صراع الأفكار حول تحرير المرأة، فالمرأة هنا تعاني من وطأة أفكار وتقاليد تعود لقرون ماضية بموازاة الانفتاح إلى أقصى حد على نمط وقيم الحياة الأوروبية من خلال النموذج الفرنسي أساسا، وتظهر هذه الازدواجية بالإضافة  إلى شبكة من العلاقات الاستغلالية باعتبارها السبب الرئيس لصفة البؤس والتشتت والضياع التي تطبع حياة المرأة المغربية.

والخلاصة التي تقدم هنا هي أن سطح المجتمع هوالذي يتحرك ويتغير لكن عمقه وبنيته لم يمسسها التغيير ولهذا لن نصاب بالدهشة والاستغراب إذا ما وجدنا اغلب هذه الأفلام تقدم نماذج نسائية تعيش حيوات ومصائر متشابهة، بعضها تبدوثائرة على القانون الاجتماعي لأنها مأخوذة برغبة التمرد والهروب رغم مخاطر الموت أوالعقاب الذي ينتظرها، فأمينة في”شاطئ الأطفال الضائعين”كانت قادرة على رج أحاسيسنا بكل قوة وقسوة لأنها كانت تعيش حياة الألم، حيث اليتم والحمق والقسوة، قسوة زوجة الأب، الاغتصاب والعزلة، لهذا جاء هروبها وتحديها لأعراف وتقاليد القرية بخروجها نحوالبحر حاملة على ظهرها وليدها غير الشرعي .

أمينة الجيلالي فرحاتي نجد لها امتدادات في أفلام مغربية أخرى كتمرد نساء المخرج سعد الشرايبي في فيلم “نساء ونساء” اللواتي يمتزن بكونهن شخصيات تراجيدية حيث الواقع والمجتمع يحد من طموحاتهن وتحقيق آمالهن وأحلامهن، ف”زكية”بطلة الشريط تواجهها مشاكل خاصة تنبع من واقع ممسوخ حيث الحرب المعلنة ضدها، لهذا تهرب جسديا وروحيا من المدينة إلى البادية كإدانة للواقع الممسوخ والعلاقات الزائفة.ورغم أن البادية والطبيعة عموما قد ترمز إلى عدالة مثالية مفتقدة هي عدالة الطبيعة، إلا أن الأب الغائب جسديا الحاضر سلطويا يجعلها دائمة التيهان وسط أزقة القرية أوعلى ضفاف النهر الذي تختار الاستحمام فيه كمحاولة لغسل الجسد وإزالة أدران العلاقات الزائفة.

إن الاستحمام هنا هوتواصل روحي مع الطبيعة الحقة والهروب من المصطنع والمزيف.إن الواقع بطبعه يهين الإنسان يحرمه ويسبب عذاباته لكن الفن/ المتخيل قد يعوضه مؤقتا ورمزيا عن كل هذا، قد تكون الطبيعة قاسية لكن قد نصادف امرأة ونعطيها وظيفة رمزية هي وظيفة الأم، قد نكون يتامى لكن الفن يعوضنا عن ذلك تماما كبطل فيلم “الباب المسدود” حيث تحل زوجة الأب محل الأم بل والأب، في هذا الإطار يمكن فهم ما تعنيه الروائية الفرنسية”مارجريت دوراس”بقولها :”ليس هناك يتامى، هناك ناس دون متخيل”.

3- “باديس” نساء يبحثن عن الحرية اختيار شريط “باديس” كأرضية للتفكير في العلاقة بين السينما والمرأة في المغرب، ناتج من كونه فيلما متكاملا فنيا وتقنيا وقبل ذلك مكتوب بحرفية عالية، من طرف سيدة مشهود لها بالكفاءة السينمائية خاصة في مجال كتابة السيناريو، السيناريست والمخرجة فريدة بليزيد ومثقف سينمائي مشهود له بسعة اطلاعه وثقافته الفنية الشاملة، نور الدين الصايل، إضافة إلى أن طاقميه الفني والتقني مختار بعناية، حيث ضم أجود التقنيين بقيادة المخرج محمد عبد الرحمان التازي، وأحسن الممثلين، أساسا منهم، البشير السكيرج ونعيمة المشرقي والجيلالي فرحاتي وزكية الطاهري وسعد الله عزيز والممثلة الاسبانية ماريبل فيردو(أدت دور مويرا).

لكن الاختيار يأتي أساسا من كون الشريط استطاع تقديم نماذج نسائية مختلفة يسمح لنا بتناول صورهن من زوايا عدة، تتقاطع مرة وتتعارض مرات، نساء محمد عبد الرحمان التازي في هذا الشريط، نماذج نسائية متنوعة ورغباتهن متباينة، لكن الواقع يحاول أن يفرض نموذجا واحدا موحدا، امرأة بمواصفات متشابهة، يتحالف ضدهن الزمان والمكان والإنسان بخلفياته الثقافية التقليدية الحاملة لبؤس التفكير ومسح حرية الأنثى الراغبة في مسك خيوط مصيرها.الشريط يبدأ زمنيا في الصباح لتدور الدائرة وينتهي أيضا في الصباح، دائرة زمنية مغلقة تتقاطع وتتآلف مع المكان المحاط بجبال جرداء من الوراء وبحر ممتد هادر بأمواجه من الأمام،”سجن” يتقاطع ويتقابل مع القلعة الرابضة هناك في شبه الجزيرة المقابلة للقرية (جزيرة محتلة من طرف الإسبان منذ القرن 16 م)،  أية عملية للهروب أومحاولة الانفلات من دائرة هذا الواقع التقليدي، حتما سيكون مآله الفشل، واقع يؤكده المخرج من خلال لازمة ((leitmotiv  رمي الصيادين لشباكهم، رمي يترجم عملية تسييج هذا الفضاء المنغلق، فضاء مغربي واحد لا يتغير، راكد لا حرية فيه للتصرف أوأخذ المبادرة  خاصة من طرف المرأة.

محمد عبد الرحمن التازي

المخرج محمد عبد الرحمان التازي النموذج الأول”مويرا”:

شابة من أب مغربي وأم اسبانية، أي خليط ثقافتين متعارضتين إن لم نقل متصارعتين، نظرا لعدم تجانسهما، فالثقافة الاسبانية تتجلى من خلال مويرا عبر رقصة الفلامينكو، الرقص له ارتباط بالجسد، الجسد كشيء مادي، فالثقافة هنا ثقافة مادية، بالمقابل هناك الثقافة الإسلامية  تتجسد في الفيلم من خلال قراءة القرآن أساسا، ثقافتين لا يمكن التعايش بينهما، الأب يخاطب مويرا عندما يجدها تقرأ سور من القرآن بقوله : “وشتي من نهار اللي بديتي تقراي القرآن الله عفا عليك من الشطيح، الله يرضي عليك”(منذ أن بدأت تقرئين القرآن،أبعدك الله عن الرقص..)، لقد أضحت مباركة وقريبة من قلب الأب لأنها أوهمته أنها تسير في الطريق الصح، طريق المعتقدات الإيمانية السليمة، بمعنى تقتفي إيمانه  ومعتقده، بعدما كانت في البداية تسير في طريق الأم، أي حب الرقص والإيمان بحرية الجسد، الجسد النجس الكافر، كانت متعارضة مع قناعاته لهذا خاطبها  بغلظة، عندما فاجأها وهي ترقص مانحة لنفسها كامل الحرية : “زريعة وحدة بحالك بحال أمك” (بذرة فاسدة كبذرة أمك)

مويرا يمكن اختزالها في جسدها، فعندما تقوم بشغل ما، كإعطاء البذور للدجاج، فإنها تقدمه بطريقة راقصة، لكن عندما حرم عليها الرقص، أي حرمت من جسدها، من مصدر رغبتها،فقد الجسد حيويته، فما يحرك مويرا هي الرغبة، إنها كائن متحرر وجسد كله توق للحرية، ما يشدها للواقع الذي تعيش فيه، هي أصولها المغربية، أصول العادات والتقاليد المحافظة خاصة في المناطق الريفية الشمالية .رغبات مويرا لا متناهية، أساسا رغبتها في امتلاك حريتها، حرية الاختيار، اختيار الرجل الذي تحب، مقاومتها لنظرات/ تحرشات الآخرين، رجال القرية الذي يطاردونها، سواء عبر نظراتهم الذئبية أو مضايقاتهم المباشرة، مثلما يتصرف معها ساعي البريد،  يجعلها أكثر إصرارا على الرضوخ للنزوات المكبوتة والنظرات المفترسة، فتحرير الجسد لا يتم عبر رغبة الرضوخ لرغبات الآخر بل يمر أساسا عبر رغبات الذات من خلال اختيار رجل معادل لها في الرغبة، أي ثقافة مشابهة ورغبة مشتركة، في الهروب من أسر المكان والزمان.

هذا ما وجدته في الجندي الاسباني الذي يبادلها الحب في أول لقاء بينهما عند حافة البئر الوحيدة بالقرية، التي يسقي منها المغاربة والجنود الإسبان.رغبة الإنفلات ومحاولة التحرر حاضرة بقوة في أجواء الشريط، فمويرا، على طول المدة الزمنية للفيلم، تحتفظ بصورة الأم ولباس رقصها، وهذا ما يبرر محاولة الهروب والانعتاق والالتحاق بفضاء ربما أكثر حرية، انه الفضاء الأصلي للأم، لقد كانت ضحية انتماء لأصول الأب، والصراع صراع غير متكافئ بين ثقافتين، رغبتين لأن فصوله تدور في زمان ومكان مغربيين بامتياز، وبالتالي كفة الثقافتين العربية والأمازيغية الريفية، كان لهما الكلمة الفصل من خلال عملية الرجم، رجم الروح المتمردة لمويرا ومعه جسدها الباحث عن حرية مفقودة هنا (لكن موجودة هناك)، لحظة محاولة الهرب والالتحاق بالضفة الشمالية الأوروبية رفقة ثريا.النموذج الثاني”ثريا” زوجة المعلم: المعلم رمز للثقافة والانفتاح (على العموم)، لكنه في الفضاء العربي والإسلامي قد تحيد مهمته عن تعليم مفاهيم التنوير ومبادئ الحرية، نحوالقيام بدور الحارس للتقاليد والعادات المتوارثة ..

المعلم هنا ينتقل للعيش من مدينة الدارالبيضاء إلى قرية باديس، أي من فضاء حداثي إلى فضاء تقليدي،واختياره هذا جاء كرغبة منه لقهر رغبة زوجته في الاعتناء بجسدها وإعطاء الحرية لإظهار مفاتنها، في هذه القرية المرمية بين صخور الجبال الريفية، حيث البحر والجبل والتقاليد الضاغطة، الاعتناء بالجسد غير مرغوب فيه، هناك منع للتزين والتزيين” ديكشي اللي كنت كتديري في كازا مغديريهش هنا” (ما كنت تقومين به في الدارالبيضاء لن تستطيعي القيام به هنا)، هكذا يخاطب المعلم / الزوج  ثريا /الزوجة. 

 إلتقاء ثريا الساخطة  على وضعها بمويرا الجامحة المتمردة، سيعمق لديها نزعة التحرر، حيث ستحاول مويرا تعليمها  الرقص، فالأصول البيضاوية إضافة لوجود سند للنزعة التحررية لمويرا، سيدفعها إلى محاولة الانفلات بعيدا، حيث الهواء أكثر نقاءا، المحاول ستفشل وثريا في النهاية ستفهم أن الفضاء قاهر والتقاليد ضاغطة يستحيل تجاوزهما بسهولة، من هنا جاءت محاول كبح  جماح رغباتها خاصة عندما أحست بالخطر، أي خطورة الموقف لحظة وقوعهما في”الأسر”، لهذا ستحاول كبح جماح رغبة مويرا، لحظة اطلاق العنان لتمردها وتحديها لأهل القرية، من خلال تعرية شعرها والبدء في الرقص بكل حرية أما أنظار أهل القرية ، إنها رقصة الموت النهائية، ثريا تخاطب مويرا  بلهجة يائسة :”براكة حشمي ..”( يكفي، اخجلي من نفسك .. )، إنها أكثر وعيا بإستحالة الانفلات والتحرر والحصول على حزمة ضوء، وعي جاء بشكل متأخر فكان معادله الموت رجما. 

 النموذج الثالث، صاحبة المقهى : ما يحرمه المجتمع تمارسه في الخفاء، تتحايل على الواقع، تقدم له ما يرغب في معرفته، ومع ذلك لا تقمع رغباتها بل تترجمها من خلال علاقة سرية محرمة مع ساعي البريد، فهي امرأة مغربية تقليدية في العلن لكن جد متحررة في السر، امرأة تساير رغبات المجتمع الذي يتحرك سطحه بشكل خادع، لكن قاعه جد راكد.جسد صاحبة المقهى مغيب إذا ما قارناه بجسد مويرا، طموحها يتمثل في بناء فندق يستقطب السياح، لأن المرأة الناجحة في المجتمع التقليدي المغربي، هي من تحقق رغباتها في الخفاء تستمتع بملذاتها بعيدا عن عيون الرقباء والمجتمع، مجتمع بأناسه وتقاليده، هوالآخر، يقدم التزكية والمقابل، يغمض العيون ويسد الآذان ويمنح شهادة العذرية، مجتمع مغربي لا يمنع من تحقيق الطموحات إذا ما تم تحقيق التصالح معه ( على الأقل في الظاهر )، امرأة تعي جيدا أنها تعيش في مجتمع ذكوري بإمتياز، تعرف فن المراوغة والمناورة، تخون الزوج، في نفس الوقت الذي تستثمر الأموال التي يبعث لها بين الحين والآخر، صحيح أنها محرومة من حب الزوج ودفئ الفراش إلى جانبه على اعتبار أنه عامل بالخارج، لهذا تسعى لتلبية رغباتها الجنسية بشكل سري.

صاحبة المقهى الحالمة بفندق، نموذج آخر من نساء يتعاملن مع الواقع بشكل براغماتي إلى حد أنهن يصبحن حليفات موضوعيات للرجل في مراقبته وحصاره للمرأة، فلا عجب أن كانت هي العين المسلطة على مويرا وثريا بل هي من ستشعر ساعي البريد والمعلم ومعهما أهل القرية بهروبهما فجرا، فجر شرقي بنور خادع وآمل قاتل.النموذج الرابع، وهن نساء القرية المتعددات لكن المتوحدات في ذات واحدة، أولنقل نماذج نسائية مختلفة لكن متآلفة مع الثقافة الذكورية السائدة بالقرية، حليفات حقيقيات للرجال وللقوانين الجائرة، بحكم العادة والتقاليد ومفاهيم الدين والأخلاق، ففي المشهد الأخير للفيلم تتطوع امرأة، امرأة واحدة من بين هؤلاء النسوة، تتقدم لرمي الحجر الأول على مويرا وثريا، لقد فتحت باب الرجم، مترجمة بذلك الفكر السائد، فكر يقضي بضرورة الحفاظ على ما هو موجود، قوانين  تكرس دونية المرأة وتجعلها أسيرة التقاليد والعادات.لكل ما سبق، يبقى شريط “باديس” فيلم مغربي استثنائي في طرحه لصورة المرأة، بل استثنائي في مقاربة الإشكالية الصعبة والمعقدة الجامعة بين الرجل والمرأة في مجتمع مغربي تنتصر فيه قيم النكوص على قيم النهوض وتميل فيه كفة التقليد على كفة الحداثة، وتغلب السينما الفجة (كإنتاج) على السينما الجادة وتنكسر الأقلام النقدية ذات الإمكانيات الثقافية العالية، مثلما يتراجع الجمهور عن ارتياد القاعات السينمائية لمشاهدة الأفلام القادرة على رج أحاسيسه وتطوير مشاعره الفنية.

 إلى حين الخروج من واقع المسخ الثقافي الفني وذائقة الفكر السينمائي المنبوذ والرغبات الرجالية المأفونة، نتمنى للسينما المغربية استقلالية إبداعية وتراكما إنتاجيا وإبداعيا، في مقاربة مواضيعنا الوطنية العاكسة بشكل خلاق صورنا الإنسانية الحقة.  

Visited 53 times, 1 visit(s) today