الرمز ودلالاته في فيلم “البحث عن سيد مرزوق”

يُشكل فيلم ” البحث عن سيد مرزوق” علامة فارقة في تاريخ السينما المصرية، وكغيره من عيون الأفلام جاء تلقي الجمهور العريض للعمل دون مستوى استقبال النقد وسحب من القاعات السينمائية بعد أسبوع واحد،  فوجئ متذوقو السينما الرفيعة بأن الفيلم لم يدخل قائمة نقاد السينما في 1996عن أفضل 100فيلم في تاريخ السينما المصرية رغم ولوج أفلام عدة لا تقارب مستواه الفني،و في أحاديثه الصحافية الأخيرة أبدى داوود عبد السيد نوعا من الندم عن نهجه في السيناريو حين تعالى على الجمهور وكلفه فهم أشياء كثيرة في الفيلم كان من المفروض أن يكشفها ولا يتركها عرضة للتأويلات، وهو رأي يصعب مسايرة المخرج في إبدائه، لأن سحر الفيلم إنما جاء من كونه لا يكشف عن كل خيوطه بمجرد المشاهدة الواحدة، وإنما ينبغي تكرار مشاهدته لتفكيك كافة رموزه والوقوف على دلالات أحداثه وخلفيات شخوصه.

بعد كل هذه السنوات من طرح الفيلم، لم يعد مطلوبا من أي جهد نقدي يتوخى إنصاف الفيلم أن يقف عند الأبعاد التقنية والجمالية، وإنما عليه أن يرتد إلى ما هو أولي وهو إجلاء الحقيقة عن كل ما قد يكتنف البناء السردي من غموض عبر محاولة تفكيك رموز الفيلم، وهو ما ستتفرغ الدراسة لكشفه من خلال تركيزها على ستة رموز دالة في الفيلم معتمدة في المنهج على الاشتغال على حوار الفيلم والارتباط بين الدال والمدلول في نطاقه.

1- الإنسان المصري العادي المنتمي للطبقة الوسطى

يُجسد يوسف كمال (نور الشريف) شخصية الإنسان المصري العادي الذي يمكن أن يجد فيه أي شخص في المجتمع ذاته، فهو أعزب في منتصف العمر، يشتغل موظفا في شركة، وينتمي إلى الطبقة الوسطى التي تشكل عماد نهضة كل مجتمع، وفي الفيلم عبر يوسف عن التآكل التي تعرضت له الطبقة الوسطى في مصر، حين أخبر سيد مرزوق بأنه يمتلك قطعة أرض في البلد تُدر عليه إيرادا سنويا قدره 600جنيه، ويضيف أن هذا المبلغ كان يكفيه زمان إلا أنه أصبح اليوم أقل من احتياجاته بكثير.

يُحاكم داوود عبد السيد في شخص يوسف كمال تخلي الطبقة المتوسطة عن الاهتمام بكل ما يتعلقبالشأن العام وانغماسها في الحياة اليومية بتوجيه من السلطة وفعلا يحكي يوسف أنه لم يبرح بيته لمدة عشرين سنة، إذ أن آخر مرة خرج في مظاهرة أمره رجل طويل يرتدي معطفا بالرجوع إلى بيته بلهجة تجمع بين النصح والتهديد، وقد يوحي طول الرجل ومظهره وطريقة تقليد يوسف لصوته بانصراف الرمز إلى عبد الناصر، لكن الرجوع  بالأحداث عشرين سنة من تاريخ الفيلم، ينبئ بأن الأحداث المقصودة تدور في بدايات حكم السادات حين تكاثرت مظاهرات الطلبة والعمال مطالبة بحرب تغسل عار نكسة 1967.

خروج يوسف لاكتشاف التغييرات التي طرأت على المجتمع طيلة غيابه الطويل، لم يكن عن رغبة مسبقة وإنما جاء عفويا وبالصدفة، وهو يحكي لسليمان الحكيم “الحكاية ابتدت لما صحيت غلط، رحت الشغل لقيت النهارده أجازة وبس”.

منتشيا بالطاقة الايجابية التي استمدها من جو الحديقة الصباحي، قرر يوسف على غير عادته ألا يعود إلى بيته، مما شكل بداية تحرره من القيود التي وضع فيها طيلة عشرين سنة، قابل سيد مرزوق وأسر بعالمه وتعقب منى التي جسدت فتاة الأحلام التي كان يبحث عنها.

في جزء من يوم وليلة، قابل عدة أشخاص وتعرض لمجموعة مواقف، وكان تأثير سيد مرزوق كبيرا عليه، لكن بعد مشاعر الافتتان بالرجل، ستأتي مشاعر الكره عندما ألبسه جنحة لم يرتكبها، فيقرر الانتقام. وهو يلخص لسليمان الحكيم التحول الذي طرأ على شخصيته بقوله: “قررت أرفض السجن والحدود اللي حبست نفسي فيهم عشرين سنة، حسيت بقوة غريبة ورغبة في التحرر”.

عبر الفيلم عن القيود التي كانت تكبل يوسف بالأصفاد التي رٌبط بها إلى كرسي في قسم الشرطة، إذ ترمز الأصفاد إلى القيود فيما يرمز الكرسي بدلالته اللغوية “مقعد” إلى الاستكانة والقعود، ويتحقق المعنى بالربط بين الشيئين؛ فتكون القيود سبب استكانة يوسف وغيره من أبناء الطبقة الوسطى، ويدرك بعد طول معاناة مع قيده المربوط إلى كرسي أن التخلص من الأصفاد من السهولة بمكان، ويكفي فقط إرخاء اليد بطريقة مرنة على منوال التمارين الرياضية في إشارة رمزية إلى أن إعداد النفس وتهيئتها هي السبيل لتغيير الواقع.

عندما ينفرد يوسف كمال أخيرا بسيد مرزوق، يكتب له الأخير إقرارا بمسؤوليته عن الحادثة ويسلمه مبلغا من المال على سبيل التعويض ومسدسا، يرفض يوسف التسوية، ويحاول إطلاق النار من المسدس على سيد مرزوق، إلا أن المسدس كان فارغا في دلالة على الافتقار لآليات القضاء على قوى الفساد في البلاد.

2- مصر

تعتبر شخصية مُنى (آثار الحكيم) من أصعب رموز الفيلم، فقد أحاطها المخرج- السيناريست بهالة من الغموض، فهي لا تظهر إلا عابرة وعلى فترات متباعدة وفي مشاهد محددة، ونادرا ما حدث في السينما أن جعل فيلم المتفرج يجهل كل شيء عن الشخصية النسائية الرئيسية الأولى في العمل، فالشخصية بدت مقطوعة من شجرة، ولم يظهر أي فرد من عائلتها ولم تقع أية إشارة لحياتها العاطفية ولا لطبيعة عملها، والظاهر أن داوود عبد السيدتعمد طمس كل هذه البيانات، حتى يحتفظ لهذه الشخصية برمز خاص هو مصر ذاتها، بدليل أن يوسف كمال لم يجد وهو يستقصي عنها لدى سيد مرزوق إلا سلسلة أسماء ترمز إلى الهويات المختلفة التي شكلت مصر، فالأميرة رضا من أسرة محمد علي ترمز إلى العنصر التركي في الهوية المصرية، وعبلة بدلالة اسمها المتجذر في التراث الجاهلي ترمز إلى العنصر العربي، وكونها فتاة اسكندرانية يحيل على العمق المتوسطي في الهوية المصرية، أما اسمي سهير ونجوى فهما من الأسماء المحايدة المنتشرة بين أقباط مصر ويحيلان بدورهما إلى مكون آخر في الهوية المصرية، لكن الشخصية حين عرفت بنفسها في قسم البوليس اكتشف المتفرج بأن اسمها الحقيقي هو منى؛ والاسم في المعجم جمع مُنية والمنية ما تطلبه النفس وتسعى إليه، دلالة لغوية تطابق إيحاء الرمز أو أليس الوطن القائم على المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية في الأخير إلا منية كل إنسان في أي مكان من العالم؟

يعزز الدلالة، أن يوسف كمال حين كان في قمة سلبيته لم يستطع أن يمد لها يد العون في أي موقف كانت في حاجة فيه إلى مساعدته، لكنه حين قرر أخيرا أن يتمرد على قيوده ويعزم على قتل سيد مرزوق بكل ما يمثله، نجدها تدين له وتدخله بيتها وكأن استعادة الوعي مصالحة مع الوطن، وحتى حين يلج بيتها أخيرا يغرق حدائه في المياه المتسربة من إفراغ حمام السباحة في الفيلا المجاورة التي لم تكن سوى فيلا سيد مرزوق، لتتحقق دلالة أخرى، فالمياه العادمة ليست إلا كناية عن الفساد المستشري الذي يغرق الوطن، وما الرغبة الوحيدة التي عبرت عنها منى طيلة الفيلم “مسافرة ومش راجعة ثاني” إلا تعبيرا عن السخط على ما ألت إليه أوضاع الوطن، والتفكير في الهجرة لم يكن قط انسلاخا من الجذور بقدر ما هو رغبة مشروعة في التغيير.

لم يكن غريبا أن يختار داوود عبد السيد المرأة ليرمز بها لمصر، فقد اعتادت السينما المصرية أن تعبر عن مصر بالمرأة؛ ويمكن أن نستحضر في السياق شخصيات كزهرة في فيلم “ميرامار” لكمال الشيخوفؤادة في فيلم ” شيء من الخوف”لحسين كمال، وبهية في فيلم “العصفور” ليوسف شاهين.

3- سحر بورجوازية ما قبل الثورة الخفي

لم تُسل أي شخصية في الفيلم مداد النقد مثلما أسالته شخصية المقاول محمد سيد مرزوق (علي حسنين)، وجنَحَ كثيرون بخيالهم حين ذهبوا إلى أن شخصية سيد مرزوق ترمز إلى الذات الإلهية. من حسن حظ داوود عبد السيد أن الذين تعرضوا لفرج فودة ونجيب محفوظ لم يأخذوا مأخذ الجد أن عبد السيد قدم إلها يأكل الطعام ويدخن السيجار الكوبي ويمشي في الأسواق، وكان هذا الأخير واضحا حين صرح في بعض أحاديثه بأن الفيلم بسيط وحمل أكثر مما يحتمل، مما يعني بكيفية ضمنية أنه يستعبد أن يكون قد قصد ما اتجهت إليه تأويلات بعض النقاد.

في تقديمه لشخصه ليوسف في جلسة الحشيش يقول سيد مرزوق “وأنا صغير، كنت مهراجا، كان عندي فيل، فيل حقيقي، بس صغير، كان عنده كسوة وزينة جاية م الهند.. كنت ألبس لبس مهراجا هندي، وأركبه في البيت.. الجنينة تقريبًا بقت جنينة حيوانات..
مرّة عبد الناصر قال لأبويا: إيه يا مرزوق، عامل جنينة حيوانات قطاع خاص؟!.. أبويا قعد مهموم، سألته: مالك؟. قالي: خايف ولاد الكلب يأممونا، وفعلاً، بعد أقل من سنة، كانت الشركة أتأممت، بس جنينة الحيوانات قعدت قطاع خاص.. أبويا أتبرع بجزء كبير من الحيوانات للسيرك والحكومة، ومنهم الفيل طبعًا.. ومن ساعتها، بقيت مهراجا من غير فيل، وانتهى أمان الطفولة”.

وفي الحمام يسترسل في الحديث عن نفسه على لسان منى التي خاطبته مرة “إنت عندك عقدة الفيل، لأن الفيل هو اللي بيديك التمييز؛ الفيل هو اللي بيخلي الناس تحترمك”.

تتضافر كل هذه الإيحاءات لتشكل ملامح شخصية سيد مرزوق، يرمز المهراجا إلى الأصول الاجتماعية الراقية، فيما يرمز الفيل إلى الثروة والوجاهة الاجتماعية معا، يستبق والده قرارات التأميم، ويخفي الجزء الأكبر من ثروته على شكل سبائك ذهب، ولا يحتاج المتفرج إلى كبير ذكاء ليكتشف بعدها أن سيد مرزوق استخرج كنز أبيه بعد سياسة الانفتاح ليستعيد ثروته دون أن يستعيد كلية وجاهته الاجتماعية قبل ثورة يوليو.

ينتمي سيد مرزوق إلى البورجوازية الزراعية التي شهدت أوج ألقها قبل ثورة يوليو، فالأب عندما أراد أن يخفي ثروته عن عيون عبد الناصر ورجالاته اختار بيت الجد في البلد بما يرمز له الريف عامة من عمق مادي وحضاري.

لقد امتازت البرجوازية المصرية قبل الثورة بأنها ضاهت البورجوازية الأوروبية في رقيذوقها وحبها للحياة، لذلك لاقت دائما احتفاء خاصا من الأدب والسينما المصريين، مقابل سخريتهما اللاذعة من أغنياء الحرب في الأربعينات والقطط السمان التي اغتنت بعد سياسة الانفتاح في السبعينات دون أية خلفية اجتماعية وطبقية. وقد أراد داوود عبد السيد أن يحتفي بسحر بورجوازية ما قبل الثورة، وفي شخصية سيد مرزوق كثير من ملامح شخصية أخرى هي شخصية الباشا سليم البدري في مسلسل “ليالي الحلمية” والتي عبر بها أسامة أنور عكاشة عن سحر هذه الطبقة أيضا.

يرسم المقدم عمر ملامح شخصية سيد مرزوق حين يقول “يدير خمس شركات ويتكلم أربع لغات، عمل واستمتاع بالحياة، دايما مع الناس، ناس مختلفين رجال أعمال؛ صعاليك؛ مهندسين؛ فنانين؛ أجانب”.

يتميز سيد مرزوق بحبه الشديد للحياة، يلخص فسلفته حول الحياة اللذيذة فيقول “الحياة اللذيذة معناها أنك تعمل كل إنت عايزه دون قيود معناها أنت تستمتع بكل حاجة حتى بالكذب”، وبالفعل فقد كان يستمتع بكل لحظة، بكل شيء من طعام وشرب ومزاج وغناء، حتى عندما قام الصعاليك بنهب فيلته جعل اللحظة لحظة استمتاع ومرح.

وهو ينفرد أيضا بخصال أخرى منها جاذبيته وقوة شخصيته وتأثيره على محيطه وكرمه ومعرفته بالقاهرة وأسرار الدخول إليها، مما جعله يمسك السلطة من جميع تلاببيها، بل نكاد نجزم بأنه هو الذي جسد المفهوم المطلق والمركب للسلطة وليس المقدم عمر ورجالاته الذين ليسوا إلا أدوات لحمايته هو وأمثاله.

جسد سيد مرزوق الزواج المكروه بين السلطة والمال، وحتى بعد أن يكتشف المتفرج حقيقته، يحفظ له الفيلم اعتباره بشكل يجعل المتفرج لا يستطيع أن يكرهه، فبعد أن يورط يوسف في حادثة سير يكتب له إقرارا بالمسؤولية عن الحادثة ويمنحه مبلغا من المال، ثم يسمح لأصدقائه الصعاليك بنهب محتويات فيلته بعد أن عزم على الرحيل مخافة منعه من السفر مبررا فعله “خمسين مليون برة، لازم أحصلهم قبل ما يطلعوا قرار بمنعي من السفر”، في إيحاء من الفيلم إلى ظاهرة سادت بتاريخ انجازه وهي هروب رجال الأعمال إلى الخارج بأموال البنوك أو أموال المودعين في شركات توظيف الأموال، لتسقط ورقة التوت عن شخصية سيد مرزوق ويُحشر في خندق الفساد المالي دون أن يدخل في محور الشر عند المتفرج.

من كل شخصياته، قام داوود عبد السيد بإخراج شخصية سيد مرزوق من العالم الواقعي للفيلم، وأحاط عوالمها بمسحة من الفانتازيا والسيريالية ليخدم فكرته عن سحر بورجوازية ما قبل الثورة تماما كما فعل رائد السينما السريالية لويس بونويل في فيلمه سحر البرجوازية الخفي، ولعل كل ذلك هو ما خلق اللبس الذي أحاط بالشخصية وفتحها على التأويلات رغم أنها رسمت ملامحها في الفيلم بما يكفي من الوضوح.

4- سلطة المعرفة ومحدوديتها بسلبية المثقف

يرمزسليمان شكري الحكيم (سامي مغراوي) لسلطة المعرفة، وُسم  في جنريك النهاية بـ “سليمان الحكيم” مجردا من اسمه الثلاثي، ليتطابق اسمه مع اسم نبي من بني إسرائيل اشتهر بالحكمة حتى لٌقب بالحكيم.

هو كيميائي وخريج كلية العلوم، كان أول من التقاه يوسف كمال في رحلته المثيرة بالحديقة، كان مهموما وهو يشرح ليوسف كيف ولدت طفلته ” أمل” بشكل مبكر ناقصة الوزن مما جعلها تحتاج لحضانة مدة شهرين، ولانعدام حضانة فارغة في أي مستشفى حكومي، يحتاج لمبلغ كبير لا يتوفر عليه وقدره 2000جنيه، فجأة وفيما كان يوسف يهم بمساعدته بمبلغ بسيط يهرول مسرعا لتنفيذ فكرته عن توفير الظروف الطبية للحضانة في مسكنه، مجسدا انتصار سلطة المعرفة على العوز وقصر ذات اليد.

وكما حاكم نكوص الطبقة الوسطى عن الاهتمام بالقضايا المصيرية للوطن، حاكم الفيلم سلبية المثقفين في شخص سليمان شكري الحكيم، فعندما استقبل يوسف كمال في بيته أثناء هروبه، كان كلامه كله تبريرا لسلبية المثقف “السجن اللي أنت كرهته حماية لينا لحد ما يبقى الواقع ممكن التعايش معه، وانت جوه حدودك بتحافظ على نفسك زي الحيوان البحري جوه القوقعة “.

وفيما كان سليمان متقوقعا في بيته ظانا أنه يحافظ على نفسه، تقتحم قوات المطاردة التي تتعقب يوسف غرفة الحضانة المعقمة بأحذيتها وكلابها البوليسية لتفسد كل ما بنته سلطة المعرفة ولتؤكد للمثقف أن الحياد لا يجدي نفعا، وأن معركته هي في صفوف الجماهير.

5- هامشيو ليل القاهرة

بما أن معظم أحداث الفيلم تدور في ليل القاهرة الرهيب، قدم الفيلم عينات من الهامشين الذين يؤثثون ليل المدينة العملاقة، وعرض منهم لنماذج تستحق أربعة منهم دلالة الوقوف عندها:

أ‌- شابلن (أحمد كمال) من أكثر الشخصيات ثراء على المستوى الدرامي،  فهو متشرد كبٌر في الشارع، وتعلم أسرار شخصية المتشرد شارلو على يد المعلم عبد الله ( شابلن الأصلي) الذي سلمه آلة البيانولا بعدما أحس بالوهن، يشكل حالة إنسانية لا يملك المشاهد إلا أن يتعاطف معها، فالآلة المنقرضة التي يشتغل عليها أصبحت في مصر التسعينات خارج الزمن، وهو في الوقت الذي يفتخر به وهو يحدث يوسف بأنه بلغ مرحلة النضج الفني في تقديمه لشخصية شابلن، يعود لاحقا حين يلتقيه في المقهى آخر الليل ليسأله حول ما إذا كان لديه معارف في سيرك ليلتحق به بدل البهدلة اليومية التي يزيد من وطأته امطاردة البوليس والجوع، ولأنه قليل الحظ  في الحياة، لم يخرج حين نهب الصعاليك فيلا سيد مرزوق إلا بكرسي كبير اضطر لإعادته معللا  “ما أقدرش اسيب البيانولا وما أقدرش اشيلهم الاثنين، والحوش الله يجازيهم خدوا كل الرفايع”.

ب‌- المعلم عبد الله أو شابلن الأصلي (عبد المنعم معتوق) يقول عنه تلميذه إنه شابلن الحقيقي أما شارلي شابلن الشهير في أمريكا فمجرد تقليد، بعد أن بلغ من العمر عتيا ووهن العظم تخلى عن اليبانولا لتلميذه، واكتفى بتقديم صور من فن المتشرد شارلو، وعندما لا يجد ما يسد به رمقه آخر الليل كان يتعرض لسيارات السكارى رافعا القبعة، لكن ما كل مرة تسلم الجرة، ففي إحدى المرات يصدمه سيد مرزق وهو يقود السيارة التي أهداها ليوسف فيرديه شهيد رغيف الخبز المر.

ج- فيفي سوهاج (لوسي) وتجسد الفتاة الريفية الساذجة التي قدمت إلى القاهرة باحثة عن مكان تحث الشمس، تتحول إلى فنانة شعبية وتتخذ اسما فنيا وتنشأ فرقة قوامها بعض شيوخ العازفين الذين بلغوا أرذل العمر، تترنم بأدوار وطقاطيق بداية القرن العشرين لكنها لا تمتلك موهبة الغناء، وتعيش بفضل رعاية وكرم سيد مرزوق الذي يتخذها خليلة في ليل القاهرة الموحش، في العاصمة  لم تسلم من الاستغلال تقول عن تجربتها “أول ما طفشت من البلد وجيت هنا مصر، ما كنتش فاهمة أيتها حاجة، كان بيتهيء لي أن كل اللي بيطبطب علي حنين”، حتى عندما أخذت أثمن ما في فيلا سيد مرزوق من أواني فضية ، تذكرت أنها لا تتوفر على مسكن يمكنه أن يضم هذه الأواني، فساومها السائق على شرائها ووافقها على الثمن البخس الذي طلبته لكن لم يتوقف جشعه عند الحد حين أوقف إتمام الصفقة على أن تخصه زيادة على الأواني بـ “قعدة وسهرة حلوة “. 

د- سوزي المومس (مهى عفت) هي شقراء وجميلة تتحدث الانجليزية بطلاقة تتصيد زبائنها في الأماكن الراقية مقدمة نفسها على أنها أمريكية، لأن ذلك يزيد من الإقبال عليها ويرفع السعر، تستقبل زبائنها في شقة راقية، لكن السماح لها بممارسة أقدم مهنة في التاريخ له ثمنه وهو العمل مخبرة لرجال المباحث،  لذلك عندما استقبلت يوسف اضطرت لإخبار البوليس بقصة جرحه ثم استعجلته للانصراف لأن البوليس سيأتي للقبض عليه في موقف يعكس التمزق بين أداء واجب الإكراه وجدعنة  الإنسان المصري الهامشي.

يشترك هامشيو ليل القاهرة في انتمائهم – رغم اختلاف المنابع والظروف – إلى الفئة التي يسميها المقدم عمر بالناس الغلابة، فهم يمثلون الطبقة الاجتماعية التي تتركز كل معركتها في الحياة في تعقب رغيف الخبز، ورغم أنهم لا يشكلون أي خطر على النظام العام، إلا أنهم يعيشون في خوف دائم من البوليس؛ يحدث شابلين يوسف كمال وهو يعطيه لباس التنكر عن تسعيرة رشوة رجال الشرطة التي ترتفع بحسب درجة رتبهم، وتتعاون سوزي كمخبرة لتستمر في نشاطها، تقول فيفي سوهاج وهي تهم بإخراج حصتها من نهب فيلا مرزوق “حاجات حلوة يا أولاد، خايفة وأنا خرجة بالحاجات دي البوليس يأخذوني”.

6- الدولة البوليسية

كما نوهنا آنفا لم يعالج فيلم “البحث عن سيد مرزوق” السلطة بمفهومها المطلق والمركب، فالذي جسد المفهوم الواسع للسلطة في الفيلم كله هو سيد مرزوق من خلال الزواج الملتبس بين المال والسلطة،  لكن الفيلم ركز على أداة من أدوات السلطة، فحين توظف الدولة البوليس للضبط والربط والتحكم في كل مناحي الحياة في المجتمع، تتحول إلى دولة بوليسية، يحكي سيد مرزوق ناقلا قول المقدم عمر (شوقي شامخ) ” الناس أربع أنواع؛ السادة ودول بيعملوا اللي عايزينو لأن القانون يحميهم؛ والمطاريد ودول البوليس دايما وراهم؛ والغلابة ودول دايما في حالهم قعدين في بيتهم ماشين جنب الحيطة وما لهمش دعوى باللي يجرى حوليهم؛ والنوع الرابع المشاغبين اللي المفروض يبقوا في حالهم ومش عايزين يبقوا في حالهم ودول أخطر نوع “.

حين يأتي هذا التقسيم من ضابط الشرطة، فإنما يعكس عقيدة الدولة البوليسية في تقسيمها لمواطنيها، فهي لا تصنفهم بشكل وظيفي بحسب عطاء اتهم في المجتمع ومساهماتهم في الإنتاج وخلق الثروة، وإنما من خلال درجة خطورتهم على الأمن العام.

وعلى عكس ما قد توحي به، لا تركن الدولة البوليسية في الفيلم إلى أسلوب القمع وحده، وإنما تعتمد أيضا على الاستباق؛ ظهر ذلك من خلال الضفادع البشرية التي تٌختبر كل يوم بقدرتها على العثور على الذمية التي تلقى في مياه النيل، وحتى المقدم عمر فإنه لا يمثل نموذج ضابط الشرطة المصري التقليدي، وإنما يجسد نموذجا يقترب من النموذج الأمريكي بكفاءته العالية التي تزكيها ترقياته السريعة؛ وأنسنته لعمل الشرطة، لكن بنقيضه يظهر ضابط الشرطة التقليدي بأسلوبه الذي يمزج بين الزهو والسادية من خلال نماذج الضابطين اللذين استنطقا يوسف، وضابط التقديم بحضور المحامي الذي كان يسلم قدميه للشويش المغلوب على أمره لإلباسه الحذاء، وكذا ضابط الكبسة على المقهى آخر الليل الذي لم يتوان في مقاطعة غناء العواد العجوز لرائعة “مصر تتحدث عن نفسها” دون سبب.

يُبرز الفيلم في قاعة الانتظار بقسم البوليس، بعضا من مظاهر تأثير الدولة البوليسية على سلوكات الأفراد؛ بدين لا يتحكم في سلسل البول من شدة الخوف؛ ومتوتر مرتعش يعجز عن إشعال سيجارته؛ وصاحب جريدة يتلذذ بلعب دور المخبر فيتلصص على الجالسين من وراء جريدته التي يصعب قراءتها في الضوء الشاحب؛ ومنى تطلب من يوسف الاتصال بإحدى صديقاتها لما تكرس في الذاكرة عن أقسام البوليس من أن الداخل مفقود والخارج مولود.

بُني الفيلم كله على صراع المواطن مع مظاهر الدولة البوليسية، وفي ختام الفيلم حين يطلع النهار لم يعد الفيلم مهتما بمصير بطله، وفي الوقت الذي قد يكون فيه يوسف قد عاد إلى عمله بالشركة أو اتجه إلى أقرب قسم بوليس لتسليم نفسه حاملا إقرار سيد مرزوق بمسؤوليته عن حادثة السير، ينتهي الفيلم بمشهد المقدم يوسف يقود رجاله في مهمة جديدة، وتنوب وقع أقدام القوات بنظام المارش العسكري المختلطة بصفارات الإنذار المنبعثة من سيارات الشرطة عن الموسيقى التصويرية لتعطي الانطباع بهيمنة الدولة البوليسية ورهبتها في النفوس.

حين نحلل الفيلم اليوم، ندرك كم تمتع بنظرة استشرافية للمستقبل، إذ بعد عشرين سنة من طرحه، ستختار ثورة 2011أن تفجر نفسها في 25يناير الذي يصادف عيد الشرطة، ولا ندري ما إذا كان من الصدف أم من النتائج أن يكون أحد ملهميها هو خالد سعيد الذي قضى في سلخانات الشرطة، وأن يكون أبرز مطلوبيها حبيب العدلي أحد أكبر المنظرين للدولة البوليسية في السنوات الأخيرة من حكم مبارك.

“ناقد وباحث من المغرب

Visited 228 times, 1 visit(s) today