“الخلاط+” كوميديا اجتماعية تستجلي خبايا البشر

Print Friendly, PDF & Email

محمد جمال الروح

في إطار كوميدي يقدم المخرج فهد العماري فيلمه “الخلاط+” من خلال أربع قصص تدور جميعها حول محور واحد هو الاحتيال، متخذاً منه تيمة أساسية لغزل خيوط القصص الأربعة التى تتباين في مستواها الفني والتقني.

يحاول الفيلم، وهو مكتوب بذكاء وحرفية، تمرير الكثير من رسائل النقد الاجتماعي من دون أن يقع في فخ المباشرة أو الوعظ، من خلال دس تلك الرسائل في الحوارات الجانبية السريعة ذات المعزى، وتكثيف المدلولات البصرية الخاطفة التى تحمل عمقا فلسفيا ورمزيا يضيء الحدث الدرامي، وينطق بلغة سينمائية خاصة، استطاعت الاشتباك مع كثير من القضايا الاجتماعية الملحة بشكل سلس محايد ومتناغم مع إيقاع الفيلم وحسه الكوميدي.

  التحايل الذي يلجأ إليه أبطال هذه القصص لا يجسد طبيعة بشرية مشوهة بل هو اضطرار للفكاك من سطوة القيد الاجتماعي الذي يلجم هذه الذوات البسيطة ويمنعها من تذوق الحياة، بل يدفعها للتقنع بالفضيلة أحيانا والانتصار للموروث البالي والتلون والاختباء وقهر الذات وفق فلسفة العيب.

لم يكن الحس الكوميدي المبنى على المفارقات هدفاً رئيسياً في حد ذاته يحاول فلمنا الظفر به، بل كان وسيلة لقول ما هو أعمق ورسم ما هو أدل من خلال رؤية واعية وأدوات أجاد العماري توظيفها.

من القصة الأول

لم يكن الحس الكوميدي المبنى على المفارقات هدفاً رئيسياً فى حد ذاته يحاول فلمنا الظفر به، بل كان وسيلة لقول ما هو أعمق، ورسم ما هو أدل من خلال رؤية واعية وأدوات أجاد العماري توظيفها.

 انطلاقا من أفكارعلى الكلثمي، وكتابة مشاري الشلالي، وائل السعيد، محمد القرعاوي، يأتي فيلم “الخلاط +” من “تلفاز 11” وشبكة نتفليكس استغلالاً للنجاح الكبير الذي حققه البرنامج الذي يحمل نفس الإسم على موقع يوتيوب. ويقوم ببطولة الفيلم نجوم الكوميديا محمد الدوخي، إبراهيم الخير الله، عبد العزيز الشهري، إبراهيم الحجاج، صهيب قُدس، فهد البتيري، زياد العمري، وإسماعيل الحسن وفوز العبد الله.

“إعطني سيجارة”

 يحاول العماري التأكيد على مبدأ براعة الاستهلال بتصوير أول مشاهدة بطريقة “اللقطة الواحدة – One Shot” وهو نوع من المشاهد يحتاج إلى جهد وديناميكية سريعة ودقة عالية، نجح مدير التصوير عمرو العماري فى تقديمه بشكل مقبول وكأنه يقدم أوراق اعتماده للمشاهد.

الأسرة الكبيرة فى حالة ارتباك تحاول اللحاق بعرس ابنتهم وهم لم يجهزونا، والإبن الأكبر يحاول الاختباء لإشعال سيجارة بعيداً عن عيني الأب، وحين يخرج لتدخين سيجارته يضبط لصوصاً يسرقون إطارات سيارته، يقبض على واحدٍ منهم بينما يهرب الأخران، وتتوالى المفارقات المضحكة عندما يحاول اللصان الآخران التنكر والتحايل لانقاذ زميلهما فى قاعة العرس، ونلتقط عبارات جانبية سريعة ذات مغزى ومدلول اجتماعي، مثلاً عندما تطلب العروس من أبيها خجلاً، عدم الوقوف أمام باب قاعة العرس فى إشارة للقيد الذى تفرضه المرأة على نفسها فى واقع ذكوري، وعندما يكتشف الابن أن أباه الشيخ يختبأ ليدخن هو الأخر لا يتورع عن أن يطلب منه سيجارة نادماً على تحايله واختبائه طيلة هذا الوقت.

جاء الأداء في القصة الأولى مقبولاً إلى حد كبير، ويشى بمواهب واعدة وشباب يطمح للتحقق سينمائيا بعد نجاحه على شبكات التواصل الاجتماعي، وخصوصاً إسماعيل الحسن الذى أمسك بخيوط الشخصية وامتزجت في أدائه تعبيرات الخوف والتردد والخبل المضحك.

“على طاولة المحبين”

من القصة الثانية

في القصة الثانية تتضافر عوامل كثيرة لخلق دفقة فنية مرهفة، رغم بساطة القصة وسهولة الطرح. “سارة” تعمل طاهية فى أحد المطاعم الراقية، تتحايل بمساعدة زميلها “مهند” للحصول على طاولة لوالديها، فهما على وشك الانفصال، وتسعى للتقريب بينهما من خلال ترتيب هذا اللقاء بالاتفاق مع أبيها دون علم أمها، تلك المرأة العنيدة. تصاب سارة بحاله من الارتباك عندما يعود مدير المطعم فجأة ويبدأ فى اكتشاف ما دبرته سارة، وتتوالى المفارقات.

 إنها قصة من لا قصة، وأحداث غاية في البساطة، ولكن معالجة هذه القصة بصرياً يضعها فى منطقة أخرى، ويحمها بطاقة رومانسية متوهجة. الكاميرا تلتقط مغامرة الأيادي على الطاولة، وجلسة الزوج التلقائية على المقاعد الفخمة، والتعامل المضحك مع الطعام العجيب، كل هذا يبوح بالكثير دون قول، ويشي ببكارة البيئة التي خرج منها الزوجان ويصف طبيعتهما البسيطة البعيدة عن التكلف والافتتنان بالمبهر، وبالحب الذي يجعل البسطاء يعانقون العالم.

 المونتاج النابه خلق إيقاعا متدفقاً ولاهثاً بسيل من اللقطات السريعة التى تتصاعد مع احتدام الصدام بين الزوجين على الطاولة وبين سارة ومديرها الغاضب من جهة أخرى، والاستخدام الواعي للموسيقى ودرجات الإضاءة مع أداء محمد الدوخي الواعي بأبعاد الدور، والحوار الموحي المتناغم مع تركيبة الشخصيات، وأغنية على عبد الكريم الجميلة، كلها عوامل نجاح لونت تلك اللوحة التى رسمها العماري بنجاح.

“مكالمة فائتة من نور”

فى القصة الثالثة يبتعد الفيلم عن السياق الكوميدي ويلجأ إلى الإيقاع البوليسي والإيحاء بالغموض، فتستخدم الإضاءة الضعيفة والظلال والألوان الزرقاء والموسيقى المتوترة لخلق جوٍ مشحونٍ بالحذر والترقب، يحاول الصديق الوفي حمد “إبراهيم الحجاج”، التحايل لإخفاء سر صديقه الذي قضى فى حادث سير. والقصة مكررة ومعروفة فى التراث الدرامي.

نحن أمام زوجة تكتشف خيانة زوجها يوم مماته، لكن المعالجة المغاييرة كانت وسيلة صناع الفيلم أنفسهم للتحايل على هذا التكرار والتنميط الدرامي، لكن للأسف كانت المبالغة أقوى من أن تمر أو تقف عند حد المقبول، جلال الموت لم يمنع “ريم” التى تملكها الفضول والشك الأنثوي من أن ترفع غطاء الموت عن وجه زوجها المدمم لتفتح قفل الهاتف، ثم تقفز مختبئة في سيارة نقل الموتى تلاحق حمد، كي تكشف ذلك السر، تاركه زوجها خلفها مسجى في مغسلة الأموات وهو من أحسن لها وأغدق عليها وعاشت فى حبه.

من القصة الثالثة

يقتبس السيناريو بعض الايحاءات البصرية من أفلام شهيرة ويطورها مثل مشهد ثلاجة المياة التى تتجلى فيها طاقة روحية وتمس مصباح الثلاجة. هذا المشهد نُفذ بتكنيك رائع، وأوحى بإشارة يرسلها فهد لصديقة من العالم الأخر.

يقوم ببطولة هذه القصة إبراهيم الحجاج الذي يعود بالفيلم  للخط الكوميدى مرة أخرى بتقمصة لشخصية هندي غاضب ثم يكتشف وجود الزوجة خلفه وقد اكتشفت ما حاول ستره.

“سياسة المكان”

من القصة الرابعة

القصة الرابعة عن أب يسافر بأسرته إلى دبي في رحلة مجانية لفردين فقط، يتحايل لتهريب أولاده داخل الفندق، لكنه يجد نفسه أمام اختبار صعب حينما يبحث عن ابنه المراهق داخل مرقص الفندق، فنجده وهو يلبس رداء الوقار، وهو يلجأ  للاحتيال والرشوة والابتزاز، وهذا الجزء من الفيلم يحمله عبد العزيز الشهري على كتفية بأدائه الكوميدي المميز لتلك الشخصية الكاريكاتورية  المخادعة الظريفة، ولكننا نفاجأ  بمصادفات مفتعلة وشخصيات نمطية وإيقاع بطئ بعض الشيء مع مشاهد متكررة المضمون، ولقطات طويلة الزمن، واعتماد رئيسي على الحوار الكوميدي كمحرك للفعل الدرامي، فنخرج من خصوصية السرد السينمائي لتكنيك الاسكتشات الكوميدية التى تملأ القنوات الفضائية ومواقع التواصل، رغم الابهار الذي حاول العمري صنعه داخل المرقص من خلال الحشد والموسيقى وومضات الاضاءة.

فى المجمل قدم العماري بفلمه “الخلاط +”سينما مقبولة ذات ملامح تجارية تغازل أذواق جماهير شبكات التواصل الاجتماعي، لكنها لم تتخل عن مقومات فنية مرضية لعشاق السينما الجادة. وسيشكل العماري ومن معه من جيل الشباب الواعد، مستقبلا مشرقا للسينما السعودية.

Visited 1 times, 1 visit(s) today