التقطيع التقني للفيلم: تجزئ الكل وإدماج الجزء
نادرا ما يتم الحديث عن مثل هذه القضايا الميكروسكوبية في السينما المغربية وهذا ما يفسر بعض مشاكل النقد السينمائي بالمغرب على المستوى الإبستيمولوجي، بمعنى أن الظروف الثقافية التي تساهم في بلورته لها أولويات عامة؛ إلا أن ذلك لا يمنع من الخوض في مثل هذه القضايا التي لا تتطلب من الناقد المعرفة بمناهج النقد السينمائي وتياراته.. بل، بعض الخبرة المهنية التي ترتكز على المعرفة الفعلية بكواليس المهن السينمائية.
من بين التخصصات المهنية السينمائية الفنية الدقيقة التقطيع التقني للفيلم، فهو الأداة العملية التي تدخل في صميم عمل المخرج والتقنيين والمُوضِّب بطريقة لاحقة، وبالتالي فهو نقطة التقاطع بين تخصصات سينمائية تقنية مهمة في الصناعة الفيلمية مما يعطي للعمل الفيلمي قيمته كمنتوج جماعي.
يتأسس التقطيع التقني على تقسيم الفيلم إلى لقطات محددة ومضبوطة على مستوى سلم للقطات والحركات والزوايا.. وذلك عبر تحويل السيناريو إلى فيلم مُقَسَّمٍ أو مرسوم على الورق (Story-board) مصحوب بوصف مكتوب * وملخص.
إن هذه الرؤية الأولية المُقَسَّمَة لا تجعل من التقطيع الفيلمي تصورا ثابتا ونهائيا، بل يتم تطويره وتغييره حين ظهور بعض الأفكار الإخراجية الجديدة أثناء جلسات النقاش التقني والفني مع مدير التصوير أو مهندس الديكور.. أو أثناء عمليات تعيين وتحديد وانتقاء أماكن التصوير.. أو أثناء مرحلة التصوير ذاتها لأن عملية الإبداع السينمائي تتأثر، عمليا، بالطوارئ. فالمخرج الجيد هو الذي يستطيع التعامل مع المستجدات بحس فني تكييفي لا يؤثر بشكل سلبي على مخطط التصوير، بل يجعلها تضيف إلى ما أنجزه فرديا أو مع فريقه أثناء المراحل السابقة. وعليه، فالتقطيع التقني هو مجرد نقطة انطلاق وأرضية بصرية للإنجاز الفيلمي.
تكمن أهمية التقطيع التقني للفيلم في مدى تجاوز المخرج للهوس التقني والانشغال بالتدبير التقنوي للفيلم، بل في مدى ملاءمته لتيمة الفيلم لأنه يظهر من خلال تجربة الفيلم المغربي، في مجمل السنوات الأخيرة، أن بعض المخرجين الجدد بلغ بهم الهوس إلى الدرجة التي يتحول معها الفيلم إلى مجرد تمرين تقني يستعرض فيه المخرج “عضلاته” التقنية، وهذا يتنافى مع خصوصية الملاءمة التقطيعية للفيلم، ومع جوهره السينمائي، فهو ليس تدريبا في السينما أو مرحلة يمر منها المخرج، بل هو رؤية جمالية وفنية وفكرية للعالم.
يسعف التقطيع التقني في منح كل التقنيين، والممثلين أيضا، إمكانية تصور ما يمكن أن يظهر في إطار الصورة، وعلى الشاشة، وذلك قصد العمل على ضبط التقنيات والتحكم في الغايات والأهداف الفنية، فيتم القضاء على العشوائية والارتجال والصدفة أثناء التصوير رغم إمكانية حدوثها إن كان الأمر لإملاءات طارئة. إن التقطيع الفيلمي عقلنة للفعل الفني السينمائي، وربح للوقت، واقتصاد في الجهد، وتدبير للإنتاج السينمائي.
يشتغل أعضاء الفريق التقني وفق خطاطة التقطيع التقني الفني؛ إذ يمكن لكل واحد منهم أن يمارس عمله التخصصي بنوع من التركيز والفاعلية.. مثلا، يستطيع مدير التصوير أن يهيئ الإضاءة المناسبة للمشهد ككل وللقطات بشكل منفرد، وأن يطلب مسبقا مختلف الآليات والعتاد اللازم طيلة فترة التصوير أو خلال برنامج اليوم الواحد، ويمكن لطاقمه (مسؤولي آليات “Machinerie”، ومساعدي كاميرا، والمكلفين بالإضاءة…) أن يعد نفسه بشكل جيد للتصوير.. كما يمكن لمهندس الديكور والمسؤول عن الأكسسوار أن يركزا على ما سيظهر داخل إطار الصورة قصد تلافي ضياع الوقت والمال في إعداد ديكور قد لا يشمله إطار (Cadre) الصورة.. ويتيح لمساعدي المخرج الإعداد الجيد للمثلين والتحكم في مراحل التصوير.. ويمنح للسكريبت فرصة ضبط الترابطات الصعبة سيما الضوئية منها وترابطات المحور الواحد (Raccords dans l’axe).. ويتيح لمهندس الصوت ضبط أماكن الالتقاط.
يساعد التقطيع التقني الموضِّبَ على الإدراك الأولي لإيقاع الفيلم والتصور البصري للمَشَاهِد سواء تَمَّ احترام خطاطات التقطيع أم تَمَّ تتبع مسارات أخرى يقترحها الموضِّب كرؤية بصرية جديدة للفيلم من حيث ترتيب المشاهد واللقطات.
ندرك، إذن، أن التقطيع التقني عملية فنية مركبة تساهم بشكل كبير في إخراج الفيلم.
فبالإضافة على كونه وثيقة تقنية فنية، فهو أيضا وثيقة تواصلية تمكن كل التقنيين من التنسيق فيما بينهم أثناء التصوير؛ إنه عبارة عن هيكل يحدد التصور الفني العام للفيلم من خلال ضبط وتنسيق حركات الكاميرا والممثلين، والتناسقات الفضائية، وتنظيم مَوَاضِعِ التوابع والملحقات، وضبط محاور الكاميرا وفقا لفَنِّيَّات وتقنيات قاعدة 180 درجة سيما حين يُرَادُ تدقيق زوايا التقاط الصورة والنظر خلال تصوير اللقطات الكبيرة جدا (Les gros plans) خاصة عندما يتخللها الحوار فيما بين الممثلين. أما فيما يخص ضبط تحركات الكاميرا أثناء الحركة، فالتقطيع التقني يفيد في مراعاة اتساق تلك الحركات وانسجامها لأنه ناذرا ما يتم ربط لقطة ثابتة بأخرى متحركة، وغالبا ما نلاحظ أن الحركة تليها الحركة، أو أن الكاميرا تبدأ متحركة وتنتهي ثابتة.. وتلك روح السينما التي تنبني على خلق التناوب المنسجم بين الحركة والثبات.
يراعي الإخراج تحريك الكاميرا من أجل خلق المعنى، فإذا ما بدأ المشهد بلقطة ثابتة فإن ما سيليها سيكون كذلك، وستبدأ الحركة مع حركة الممثل مثلا. وتبقى للمخرج حرية خلق الانسجام بين الحركة والسكون في الفيلم بحسب الموضوع الذي يعالجه الفيلم والفلسفة التي تحكم رؤيته وسينماه عامة.
تساهم إجادة عملية التقطيع التقني في بلورة تصور إخراجي يضع هندسة اللقطات وفق تسلسل منطقي بصري يقنع المُشَاهِد بأهمية التخييل السينمائي، فالالتقاط الجزئي للأجساد والديكورات يخضع للانسجام العام للمَشَاهِد الفيلمية؛ إذ لا يمكن، مثلا، إيراد اللقطات الكبيرة والكبيرة جدا بطريقة عشوائية لأن توظيفها يرتكز على التفصيل والتدقيق.. كما أن اللقطة البانورامية لقطة استكشافية ماسحة توضح للمتلقي عنصرا مثيرا في نهايتها.. واللقطة من فوق تحاول إيضاح عنصر الهيمنة.. ويهدف استعمال زاوية الالتقاط الكبيرة (Grand angle) إلى إظهار وإبراز أكبر عدد ممكن من الأشياء كمنظر من المناظر الشاملة لإحدى المدن أو منظر طبيعي عام.
يرمي التقطيع التقني إلى خلق الجمال والارتقاء بالذوق الجمالي من خلال التوظيف الدقيق لعناصر اللغة السينمائية وملاءمتها لمكونات المشاهد الفيلمية خدمة لروح السيناريو باعتباره المنطلق الأساسي والمرجعي للعمل السينمائي تخييلا وإنتاجا وإخراجا.. فالتقطيع تفكير جزئي في التفاصيل الفيلمية كالإنارة والظلام، والتباين والتناسق، والحركة والسكون، والإيقاع.. إنه هندسةُ الفيلمِ على الورق وعلى الشاشة.. دليل مدروس وملموس قصد تقليص الخطأ.
———————————————————————
* يساهم الوصف المكتوب الذي يرافق الرسومات التوضيحية المُشَكِّلَة لتسلسل التقطيع التقني في رصد حركات الكاميرا أو بعض التفاصيل الخاصة بالتقاط الصوت، وتحضير عُدَّة التصوير خاصة إذا تعلق الأمر بتحضير التراڤلينغ وملحقات الكاميرا…