الانشطار والتحول في أفلام الرعب (2 من 3)
الانشطار يعني تواجد شخصيتين أو أكثر داخل الكينونة الواحدة، وهي تمثّل الأوجه والمظاهر المختلفة من الذات. الشخصية تتعدّد، تصبح مزدوجة (شيزوفرينية):وجه يمثّل الذات الظاهرة، العلنية، المعترف بها والمتوافقة ظاهرياً مع الأعراف والقيم الموجودة..ووجه يمثّل الآخر أو البديل. وهو محجوب، مهمَل، مكبوح، لأنه لا ينسجم ولا يمتثل بل يدنّس وينتهك ويخرج على الأعراف والقوانين.
التآصل يعني تواجد شكلين مختلفين أو أكثر داخل المادة أو العنصر. أي أن الشكل يتعدّد ويتحوّل فيما يبقى الجوهر ثابتاً.. كما في تحوّل دراكيولا من شكل بشري إلى حيواني. إنه تحوّل إرادي، واع، ولا يستلزم صراعاً لعدم وجود التعارض والتنافر.
في حالة الانشطار هناك تعارض حاد وصراع ضار بين الداخل والخارج، بين البشري والحيواني. هذه التعارضات والصراعات تتصل بالهوية والبواعث الجنسية والعاطفة والنزعات العدوانية. وهي تتجسد على المستوى البصري في التحول الجسماني ضمن عملية خارقة، كما في حالة المستذئب (الرجل الذئب) أو د. جيكل ومستر هايد. الشخص هنا لا يتحول شكلياً أو جسمانياً فحسب بل في طبيعته أيضاً. إنه ينقلب إلى كائن آخر مناقض تماماً. التحوّل غالباً لا يكون إرادياً ولا يعيه الشخص، وربما لا يتذكر ما يفعله ويرتكبه في حالته الأخرى، لكن حين يدرك ذلك يبدأ في المعاناة ومقاومة مصيره. يحاول أن يقنع الآخرين بمحنته وأن ينقذ نفسه لكن بلا جدوى، إذ يشعر بأن ثمة بواعث لا يستطيع التحكم فيها أو السيطرة عليها تفضي به إلى التشوش والألم، لذا يستبدّ به الخوف من الجنون أو تدمير نفسه ومن يحب.
ثمة سمات وخواص مشتركة بين أسطورة مصاص الدماء وأسطورة المستذئب: هناك التحوّل الجسماني، نقاط ضعف معينة تتمثّل في عناصر خارجية، القدرة على خلق آخرين من أشباههم. كما أنهما يمثلان أكثر المخاوف الشائعة عند الإنسان. إنهما يتصلان بالمخاوف الخارجية، حيث يوجد الوحش هناك، في الخارج، متدرعاً بالظلام، ويحاول الوصول إلى ضحاياه والنيل منهم. لكن، من جهة أخرى، فإن قدرتهما على تحويل الآخرين يجسّد أيضاً المخاوف الداخلية، الباطنية. الخوف من أن نصبح نحن وحوشاً.
ثيمة التحول قدّمها في إطار عصري الكاتب روبرت لويس ستيفنسون في روايته الشهيرة “د. جيكل ومستر هايد” المكتوبة في أواخر القرن التاسع عشر، تحديداً في العام 1886، معتمداً على الخيال العلمي والإثارة المرعبة. الرواية تمثّل المحاولة المبكرة لتحديد طبيعة الشيزوفرينيا، حيث تتعايش الحالة السويّة مع الحالة الشاذة في ذات واحدة. يمثّل هايد الجانب الشرير والحيواني من شخصية جيكل، وبينهما، أو بالأحرى بين المرء ورغباته اللاواعية، يبرز صراع رهيب من أجل السيطرة على الذات. وقد قُدّمت هذه الرواية في عدد كبير من الأفلام، ابتداءً من 1908
.
السينما عالجت كذلك موضوع التحوّل في أشكال متعددة، كأن يتحوّل الإنسان إلى قرد أو فهد أو قط أو ذبابة أو أفعى، أو تتحوّل الشخصية ذاتياً سواء بالتقلّص أو بالتضخم.هنا يتحوّل الإنسان من كائن طيب ووديع إلى آخر شرير وعدواني.ويبلغ الرعب ذروته عندما يحدث التحول في الوسط العائلي، عندما يتحول الآباء إلى وحوش، أو الأبناء إلى قتلة، وكذلك الأصدقاء والعشاق.. كما في The Shiningو The ExorcistوInvasion of the Body Snatchersوغيرها.
الأساطير الشعبية، إضافة إلى حكايات ألف ليلة وليلة، حافلة بظاهرة الانمساخ أو تحوّل الإنسان إلى حيوان من جراء لعنة سحرية أو كعقاب إلهي.ولدينا في الأدب العالمي نموذج جليّ عن هذا الانمساخ، كما في رواية كافكا “التحوّل” أو “المسخ” (1914) الذي يصوّر تحوّل شخص إلى حشرة على نحو غامض.
في فيلم The Alligator People(1959) يتحول رجل إلى تمساح ذي مظهر منفر وتحاول زوجته المحبة إنقاذه.
وفي فيلم The Wasp Woman(1959) تكتشف امرأة في الأربعين مصلاً مأخوذاً من إنزيمات نحلة عندما تتناوله تعود عشرين سنة إلى الوراء، لكنها تتحوّل إلى نحلة وتهاجم الناس.
الخوف من التحوّل مترسّب ومتجذّر في الاعتقاد الخرافي بإمكانية امتلاك الجسد من قِبل قوى أخرى، كذلك ينبع من فكرة وجود وحش كامن تحت السطح الهادئ والوديع للإنسان. ظاهرة كهذه لم تحدث واقعياً وتاريخياً إنما عولجت مراراً وبأشكال مختلفة في الحكايات الخرافية والروايات. وهي تمثّل، سيكولوجياً، تأصل الحاجة الحيوانية في الذات البشرية، وتحرّرها كغرائز منفلتة من أي ضابط أو رقيب لتمارس عنفها وفوضويتها.
ظاهرة المستذئب أو الرجل الذئب من الأساطير القديمة جداً، والتي تعود جذورها إلى الأسطورة الإغريقية عندما حوّل زيوس، كبير الآلهة، ملك أركاديا إلى ذئب عقاباً له على تضحيته بطفل.
هذه الظاهرة منبثقة من مشاعر ومخاوف جمعية عميقة، مثل التشكيك في الغرباء، والخوف من الظلام، التوجس من القمر (قديماً ساد اعتقاد بأن ترك الطفل نائماً تحت تحديقة البدر سوف تجعله يكتسب قوة مذهلة وجوعاً شديداً إلى اللحم البشري)، والرعب من احتمالية الانمساخ والتحول إلى حيوان.
وقد عالج هذه الظاهرة الكاتب جاي أندروز في روايته “مستذئب من باريس” العام 1932، والتي صارت مصدراً للعديد من الأفلام من دون أن تلتزم بها، رغم أن السينما في بداياتها الصامتة شهدت حفنة من الأفلام التي تتناول عملية التحوّل إلى ذئب، كما في فيلم “المستذئبة” (1913) الذي ينتمي إلى نوع الويسترن، حيث تتحول فتاة من الهنود الحمر إلى ذئبة وتثأر لموت والدها، وأيضاً فيلم “كان في الأصل ذئباً” (1913). غير أن الانطلاقة الحقيقية لسلسلة أفلام هذا النوع بدأت بفيلم “مستذئب لندن” (1934) إضافة إلى فيلم أخرجه جورج واجنر عن الرجل الذئب في 1941، والذي يُظهر لأول مرة عملية التحوّل من إنسان إلى حيوان.
من فيلم “الذبابة”
في الأفلام التي تعالج أسطورة المستذئب نلاحظ أن أسباباً وتفسيرات متعددة ومتباينة تقدّم بشأن عملية التحوّل من إنسان إلى ذئب، فكل فيلم تقريباً يقدم تفسيره الخاص للظاهرة، مما يعني عدم وجود اتفاق عام في ما يتصل بهذه المسألة. التحول يحدث بسبب لعنة امرأة غجرية (مستذئب لندن) أو بسبب الإشعاع الذرّي (المستذئب، 1956) أو نتيجة مصل يفضي إلى التحول (كنت مستذئباً مراهقاً، 1957) أو بسبب القسوة والإذلال والإهمال الذي يتعرّض له المرء، ونتيجة عزله لسنوات طويلة ومعاملته كحيوان، يبدأ في اكتساب خاصيات وصفات الحيوان المتوحش، وعندما يغتصب امرأة خرساء تنجب المستذئب (لعنة المستذئب، 1960) أو يكمن السبب في الطبيعة العدوانية والمتمردة للفرد، وفي كثير من الأفلام يتحول الشخص عندما يعضه مستذئب.
في كل الأحوال، نجد السمات والعناصر ذاتها: شخص برئ يصاب بالعدوى، وفي ليلة اكتمال القمر يشعر بتحوّل جسماني وبامتلاك قوة غريبة، وتستبد به رغبة لا يمكن السيطرة عليها في قتل من يصادفه، وغالباً ما يوجه عدوانيته نحو أقرب الناس إليه، ولا يمكن القضاء عليه إلا بالرصاصة الفضية.]
بعد سلسلة طويلة من الأفلام التي تتناول شخصية المستذئب، فقدَ الجمهور اهتمامه نتيجة بلادة الحبكة وتكرارها من فيلم إلى آخر، وتشابه القصة إلى حد الإملال، وسهولة التنبؤ بالأحداث.. فقد كانت دوماً تمرّ عبر المراحل التالية: التحول، هجمات المستذئب، مطاردة الأهالي للمخلوق، القضاء عليه حيث يعود إلى طبيعته الأصلية لكن بعد أن يكون جثة هامدة.
هكذا خفت حضوره في الستينات. وعندما تطورت تقنيات المؤثرات الخاصة وإمكانيات المكياج في الثمانينيات، عاد المستذئب في مظهر جديد أكثر جاذبية وإثارة. في السابق كان التحول إلى ذئب يتم عبر تقنيات متواضعة تبدو فقيرة ومضحكة مقارنةً مع أفلام الثمانينيات وما بعدها، حيث كانت الصور الساكنة تتراكب وتتداخل، ولم يكن التحول مقنعاً ومثيراً. أما في الأفلام اللاحقة، فإن عملية التحول صارت مصوّرة على نحو مفصل ودقيق وبإتقان شديد. بالنتيجة شهدنا موجة أخرى من سلسلة أفلام المستذئب عبر تنويعات مختلفة، ومن أهم أفلام هذا النوع وأكثرها جدّة فيلم “في صحبة الذئاب” the Company of wolves (1984) حيث مخرجه نيل جوردان يمنح الحكاية الخرافية “الفتاة ذات القلنسوة الحمراء” (أو المعروفة لدينا بقصة ليلى والذئب) أبعاداً سيكولوجية، مقدّماً الحكاية في مجاز سوريالي ليعبّر عن التحوّل من البلوغ إلى النضوج، من المراهقة إلى الأنوثة، من الجهل إلى المعرفة.
حضور المسوخ
ثيمة رجل العِلم المجنون الذي يدفعه طموحه اللامحدود إلى محاولة تغيير القوانين الطبيعية بخلق كائن أكثر سمواً واكتمالاً لكنه لا ينتج غير مسخ أو وحش مدمّر يصعب ترويضه أو ضبطه والتحكم فيه.. هذه الثيمة كانت أثيرة في سينما الرعب منذ بداياتها وحتى فترة الستينيات، وتكرّرت بتنويعات مختلفة، متبعة في بنائها وحبكاتها وشخصياتها نمطاً صارماً يتّخذ من فيلم فرانكنشتاين نموذجاً، باستثناء أعمال قليلة لا تلتزم بالنمط ولا تستعير الكليشيهات المألوفة.
في 1908 قدمت السينما فيلم “تجربة طبيب” عن طبيب يزرع غدّة قرد داخل رجل مريض مما يجعله يتصرف كالقرود. في فيلم “أرض الرعب” (1913) يجري عالِم تجاربه على ثلاثة أشخاص لكنهم يثورون ضده ويقتلونه حرقاً. في فيلم “جزيرة الدكتور مورو” (1932) يخلق العالِم مسوخاً تتمرد عليه.
رجل العلم لا يكتفي باختراع وحوش ومسوخ من البشر والحيوانات والحشرات، إنما يحاول أيضاً التحكم في عقل إنسان آخر وإخضاعه لإرادته. أحياناً يعرّض نفسه للتجربة (كما في فيلم “الذبابة”The Fly ) فيتحوّل عن طريق الخطأ إلى ذبابة هائلة ومفترسة. ونجد نموذجاً آخر لرجل العلم المجنون في شخص د. جيكل الذي يفضي به عطشه إلى المعرفة وعبثه بالطبيعة البشرية إلى تدمير الآخرين ثم ذاته. وبسبب دوافعه الإجرامية يبتكر العالِم مصلاً يؤدي إلى تضخيم الكائنات، كالعناكب والنحل، ومحاولة تسليطها على خصومه غير أنها تهدّد بإفناء البشرية بأسرها.
الوحوش العملاقة، من حيوانات وحشرات، التي احتلت الشاشات في فترة الخمسينيات، مفترسة البشر ومخرّبة منشآت المدن، كانت نتاجاً مباشراً للتجارب الفيزيائية والكيميائية، وللتجارب الذريّة اللامسؤولة. إن قهر الطبيعة وتشويهها والعبث بها أدى إلى خروج كائنات عملاقة من مكامنها في الغابات وأعماق البحار والمناطق المجهولة لتغزو المدن وتدمر المباني والجسور، وتثير الفزع، محققةً انتقام الطبيعة.
من فيلم “الفك المفترس”
هكذا شاهدنا الجراد العملاق في “بداية النهاية” (1957)، الزنبور الهائل في “الوحش من الجحيم الأخضر” (1958)، الإخطبوط العملاق في “جاء من أعماق البحر”، إضافة إلى النمل والسراطين والعقارب وحيوانات وطيور ما قبل التاريخ.. وكلها كائنات عدوانية ومفترسة.
أفلام متشابهة في الخط العام تفتقر إلى حس الابتكار والأصالة، تستخدم دمى بلاستيكية لحيوانات أو حشرات أو طيور تتحرك بتقنية متواضعة. وجميعها تقريباً ذات تركيبة معروفة وحبكة أساسية واحدة: حوادث غامضة، اكتشاف الخطر، محاولات يائسة لإقناع رموز السلطة، غزو المدينة، وفي النهاية يتم القضاء على المخلوق.
أفلام الخمسينيات كانت تعبّر عن الخوف المتعاظم آنذاك من الطاقة النووية والإشعاعات الذريّة. كان ثمة إحساس عام بنهاية العالم نظراً لسباق التسلح المجنون وامتلاك أسلحة الدمار الشامل.
في السبعينيات شاهدنا أفلاماً مثل: غزو العنكبوت العملاق (1972)، ليلة الأرانب العملاقة (1972)، إمبراطورية النمل (1977) والفك المفترس Jaws(1975).. وأغلبها تتبع الصيغة أو التركيبة الأساسية القديمة.. الاختلاف فقط في الاستغلال المفرط للمؤثرات الخاصة، والتركيز على مشاهد العنف.
بين الإنساني والحيواني
لا توجد حدود بين العالم الإنساني والحيواني. إنهما متداخلان على نحو لا ينفصم، والتعايش بينهما ليس ودّياً وآمناً في كل الأحوال، بل ثمة إحساس مشترك، تعزّزه حوادث كثيرة، أن كل طرف يشكّل تهديداً – ظاهراً أو كامناً – للآخر. لقد استطاع الإنسان أن يروّض الكثير من الحيوانات ويسكنها في بيته لتخدمه أو تسلّيه، أما الحيوانات المفترسة فقد اصطادها وحبسها في أقفاص ليعرضها في الحدائق الخاصة للفرجة. مع ذلك فثمة خوف دفين من الحيوان تمتد جذوره إلى الإنسان الأول. ويتزايد الخوف كلما واجه الإنسان نظرة الحيوان المتحدية، المتحفزّة والعدوانية، وكلما سمع أو قرأ عن اعتداءات الحيوانات على البشر.
السينما عبّرت عن هذا الخوف في أفلام لا تُحصى. الكلب الأليف، صديق الإنسان، يتحوّل فجأة إلى عدو خطر يفترس من يصادفه دون تمييز. في فيلم “القطيع” The Packنرى مجموعة كبيرة من الكلاب الضالة المسعورة التي تثير الرعب في سكان الجزيرة، حيث تهاجم المنازل والسيارات، الكبار والصغار، على نحو منظم وفي حالات غير متوقعة. الأمر نفسه يتكرر في فيلم “كلاب”. وفي فيلم “يوم الحيوانات” تشترك الكلاب مع حيوانات أخرى متوحشة في الهجوم على المتنزهين. وفي فيلم “زولتان مصاص الدماء” فإن الكلب هنا حيوان غرائبي، مسكون بروح شيطانية. أما في فيلم “كوجو” فإن الكلب يهاجم كل من يقابله في ضراوة بالغة.
القطط من الحيوانات التي ترتبط في الذاكرة الشعبية بالسحر والأشباح وما هو خارق للطبيعة. إنها محاطة باللغز والغموض وتشكّل تهديداً. هذا المظهر معروض في أفلام رعب عديدة مثل: زحف القط، ظل القط، القط الأسود، عين القط. وفي فيلم “الرجل المتقلص” يبدو القط هائل الحجم قياساً إلى البطل المتقلص، وهو يطارد البطل بغية افتراسه.
الفئران كان لها نصيب في إرعاب المشاهدين في أفلام مثل: ويلارد (1971)، بن (1972).. كذلك الضفادع والأرانب والقرود والذئاب.
أما الزواحف والحشرات، بكل أنواعها، فقد اجتاحت الشاشات بأسرابها وأعدادها الكبيرة لتنهش اللحم البشري وتشيع الخراب في المناطق المغزوّة. العناكب السامة، أكثر الحشرات إرعاباً، كانت الأكثر حضوراً. كذلك النحل القاتل والعقارب والنمل والديدان والبق والذباب والجراد والصراصير. وبالنسبة للزواحف، فقد كانت الثعابين الأكثر خطورة وتهديداً.
الكائنات المائية، مخلوقات البحر، شكّلت بدورها تهديداً واسعاً. أسماك القرش والبيرانها والحيتان، كلها زرعت الرعب في قلوب الصيادين والسابحين ومرتادي الشواطئ.
الخطر يتجاوز الأرض ليأتي محلقاً في هيئة طيور تخلّت فجأة عن طبيعتها المسالمة، الوديعة، وانقلبت لسبب أو لآخر إلى كائنات متوحشة تهاجم البشر بشراسة غير مبرّرة. النموذج البارز والأقوى نجده في فيلم هتشكوك “الطيور” (1962) حيث تشن الطيور، من غربان ونوارس وأنواع أخرى، سلسلة من الهجمات الضارية ضد المقيمين في بلدة ساحلية من كبار وصغار بلا مبرّر أو تفسير منطقي. إن براعة هتشكوك في عرض التهديد على نحو واقعي، والتوكيد على الإثارة والتشويق، ولجوءه إلى الإيحاء، قد ضاعف من تأثير الرعب والإحساس بالخطر الذي يمكن أن يحدث واقعياً. والفيلم مقلق وصادم بسبب نهايته التي تُظهر انتصار الطيور وخروج العائلة وسط نظرات ازدرائية وعدائية تصدر من الطيور المحاصرة للبلدة.
من فيلم “سارقو الأجساد”
الغزو الفضائي
أفلام الرعب التي تحكي عن مخلوقات الفضاء الغازية لكوكب الأرض، والتي تهدّد بإفناء البشرية أو استعبادها، هي انعكاس للمخاوف الكامنة داخل الكائن البشري من المجهول، من معرفته البسيطة والقاصرة، من إحساسه بالضآلة في هذا الكون الشاسع.
المخلوق الفضائي الغريب يمثّل الآخر، الأجنبي، الغريب، الخارجي، المنتهِك، الذي يسعى إلى تدمير الحضارة الإنسانية. إنه كائن متحوّل، خارق الذكاء، متفوق تكنولوجياً، لكن الإنسان – برغم المستويات الأقل من الامكانيات والقدرات العقلية والتكنولوجية – قادر على مواجهته وقهره في أغلب الأحيان لأنه يمتلك شيئاً ثميناً يفتقر إليه المخلوق الفضائي: العاطفة.. إنها الخاصية التي يستثمرها صانعو الأفلام من أجل تغطية العجز والنقص والضآلة، ومن أجل تهدئة المخاوف.
في بداية السينما، كانت الأفلام التي تستمد مادتها من قصص الخيال العلمي، خصوصاً مؤلفات هـ. ج. ويلز، خالية تقريباً من عنصر الرعب، تتسم بالانبهار والفضول تجاه العالم الخارجي، وتتوق إلى اكتشاف العوالم المجهولة في الكون.. كما في أفلام الفرنسي جورج ميليه في بدايات السينما.
لكن لم يتم الكشف عن خوف الإنسان من الفضاء الخارجي، ومن إمكانية غزو كائناته للأرض، إلا في أكتوبر 1938 حين أرعب أورسون ويلز (وكان مغموراً آنذاك) سكان أميركا بصوته المنطلق عبر الإذاعة معلناً أن الأرض تعرضت لغزو من سكان الكواكب الأخرى.. آنذاك خرجت الجموع إلى الشوارع مذعورة معتقدةً أن الغزو حقيقي، ولم تدرك – إلا بعد وقت- أن أورسون ويلز كان يقدّم عملاً إذاعياً مأخوذاً عن رواية “حرب العوالم” للكاتب ويلز.
بعد الحرب العالمية الثانية، وفي مرحلة الحرب الباردة في الخمسينياتبين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي، انتشرت في السينما الأميركية موجة من أفلام الرعب الفضائي التي تعرض التهديد المحتمل وضرورة مواجهة الخطر القادم من العالم الآخر.
كانت هذه الموجة انعكاساً مباشراً للهواجس والمخاوف من التهديد الشيوعي والمؤامرة المتخيلة التي تبغي القضاء على الأمة وتحويلها إلى مستعمرة، وتدمير أسلوب الحياة الأميركية، حيث يجسّد سكان الفضاء الأشرار الخطر الشيوعي.. من هذه الأفلام: يا أهل المريخ ارحلوا عنا (1950)، الشيء (1951)، حرب العوالم (1953)، غزاة من المريخ (1953)، الوحش الآلي (1953)، الكتلة الجيلاتينية (1958).
كانت هذه الأفلام، وعشرات غيرها، تُظهر المخلوقات في صورة بشعة، منفرة، مؤذية. أحياناً يكون غزوها مباشراً وصريحاً، أحياناً يكون مموّهاً ومخادعاً، كأن ينتحل المخلوق، أو الشيء الفضائي، العقل والجسد البشري، حيث يتحوّل ويتناسخ في أشكال بشرية، بحيث لا يبدو مختلفاً في المظهر والسلوك، ويصعب تحديد الفوارق والتخوم بين البشر والغرباء.
في فيلم “غزو ناهشو الجسد” Invasion of the Body Snatchers(1956) لا ينشأ الرعب من كون الآخر مرئياً في صورة مختلفة، بل على العكس تماماً، الرعب ينشأ بسبب كونه لا مرئياً في حقيقته، ولتماثله الخارجي مع الإنسان وقابليته لمحاكاة الشكل الإنساني بدقة شديدة، لذلك يستحيل تحديد هوية البشري والغريب الذي جاء ليغزو الإقليم الإنساني ويدمّر حضارته، وليستعمر الجسد الإنساني تمهيداً لاستعمار العالم الأرضي. في الغالب لا تكون دوافع الغزو واضحة، ولا يحقق الغزاة سوى انتصارات محدودة ومؤقتة.
التركيبة الأساسية والمتكررة في قصص هذه الأفلام: حدوث ظواهر غريبة وحالات اختفاء أو قتل لبضعة أشخاص، اكتشاف السر، المناقشات الحامية بين العلماء الذين يحاولون دراسة الظاهرة والعساكر الذين يرون ضرورة مواجهة الخطر، وفي النهاية تحدث المواجهة المحتومة وينتصر البشر.
تجدر الإشارة إلى أن هذه الأفلام لم تكن تعبّر جميعها عن البارانويا والهستيريا الجماعية إزاء التهديد الشيوعي، بل يمكن تأويل بعضها كتحذيرات موجهة ضد الامتثالية وفقدان الإرادة، حيث تعكس القلق والتوجس إزاء الحملة المكارثية في الخمسينيات ضد اليساريين والمتعاطفين مع اليسار، وما فرضته هذه الحملة من إرهاب وإذلال.
أفلام الرعب الفضائي في الخمسينيات لم تكن في جوهرها إلا امتداداً لثيمة الوحش الأرضي الذي يهدد البشرية، حيث التطابق في أنماط الحبكة والبناء والشخصيات مع اختلافات شكلية تتعلق بهوية المخلوق ومظهره وطبيعته. وبخلاف أفلام الخيال العلمي، فقد كانت هذه الأفلام تفتقر إلى الخيال والتفكير المستقبلي.
قليلة هي الأفلام – في تلك الفترة – التي عرضت صورة مناقضة لما هو سائد، حيث يأتي الفضائي كزائر طيب ومسالم يدعو إلى السلام ويحذر من عواقب الحماقات التي يرتكبها البشر.. كما في فيلم “اليوم الذي توقفت فيه الأرض عن الحركة” The Day the Earth Stood Still(1951).
لكن منذ الستينيات، ومع حدوث انفراج في العلاقات الدولية، تغيرت صورة المخلوق الفضائي البغيضة ولم يعد مهدداً. منذ السبعينيات وحتى الآن شاهدنا أفلاماً متفرقة عن هذه المخلوقات لكن في صورة مرعبة مرة أخرى، بعضها إعادة تصوير لأفلام قديمة بمؤثرات متطورة وميزانيات كبيرة، وأخرى ذات موضوعات مبتكرة.. وهي جميعها تهدف إلى إرعاب المشاهدين من دون أن تحمل دلالات وغايات دافعة إلى التأمل.
الموتى الذين يعودون
الخوف الدائم من الموت وما بعد الموت قوي وفعال، وكان ملازماً للإنسان منذ بداية الخليقة. وقديماً كان هناك اعتقاد بفكرة عودة الأموات للانتقام من الأحياء بواسطة قوى خارقة للطبيعة تدخل أجساد الموتى فتحييها. ولقد استثمرت قصص وأفلام الرعب هذا الخوف في إنتاج عدد كبير من الأعمال التي تتناول ظاهرة الأموات الأحياء عبر أشكال مختلفة: المومياء (حارس القبور الفرعونية الذي ينتقم من أي منتهك ومدنّس)،مصاصو الدماء، الزومبي (الموتى الأحياء)، شعائر السحر الأسود.
مصاص الدماء غالباً ما ينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية، ويمتلك جاذبية وقدرة فذّة على الإغواء، وهو يلجأ إلى الحيلة ويتصرف بدهاء في الإيقاع بضحيته. أما الزومبي فينتمي إلى طبقات مختلفة ومتباينة، مظهره منفر ومقزّز، حركاته آلية وبطيئة، يتصرف بحماقة وعلى نحو أخرق. إنه كائن متوحش، شرِه، يقتات من اللحم البشري.إنه العدو العدمي، الذي لا تحركه غير غريزة الافتراس، الباعث الذي لا يخدم أي غاية بيولوجية. إنهم يظهرون ويهاجمون بلا مبرّر ولا تفسير.
أفلام مصاصي الدماء خلقت نجوماً لأن الشخصيات تتجسد عبر القدرات الأدائية، بينما أفلام الزومبي لا تعتمد على التمثيل بل على المكياج، إذ ليس مطلوباً من الشخصيات أن تعبّر عن حالات متعددة إنما تتحرك بصورة لا إرادية لتؤدي وظيفة واحدة: أن تفترس ضحاياها.
الزومبي في أفلام الرعب القديمة كانوا كائنات غير ضارة أو مؤذية، ولم يكن سلوكهم مرعباً. في فيلم “الزومبي الأبيض” (1932) كانوا يتجولون في الأنحاء بلا غاية، ويتم استخدامهم كأيدي عاملة رخيصة في أحد المعامل في هاييتي. فيلم “مشيت مع زومبي” (1942) يعرض طقوس السحر الأسود وتحويل البشر إلى مخلوقات مسلوبة الإرادة والعقل. في الفيلم الكوميدي “مطاردو الشبح” (1946) كان الزومبي مثار ضحك وسخرية.
تغيرت صورة الزومبي واتخذت مظهراً مرعباً للغاية، عندما قدّم جورج روميرو فيلمه “ليلة الأموات الأحياء” Night of the Living Dead(1968) الذي صار من كلاسيكيات هذا النوع. أهمية الفيلم تكمن في أسلوبه القريب من الوثائقية، في جوّه الكابوسي ومضمونه النقدي الهجائي، في دلالاته ومجازاته، في اختراقه للقواعد المعروفة في سينما الرعب حيث لا ينتصر الخير ولا يصل أبطاله إلى النهاية السعيدة. ويرجع روميرو سبب انبعاث الموتى إلى تسرّب الإشعاع الذرّي.لقد قدّم رؤية كابوسية لمجتمع ينهار مع انبعاث الموتى.
منذ هذا الفيلم صار الزومبي مرتبطاً بالكانيبالية (أكل لحوم البشر).. أحد التابوهات (المحرمات) التي استطاعت أفلام الرعب أن تخترقها وتنتهكها. الأموات يخرجون من قبورهم جائعين ليفترسوا الكائنات الحية، ولا يمكن إيقافهم إلا بتفجير أدمغتهم بالرصاص. وقد قدّم روميرو جزءاً ثانياً من الفيلم باسم “فجر الأموات” (1979) معللاً حدوث الظاهرة هذه المرّة بأنه لم يعد في الجحيم متسعاً لمزيد من البشر الخطاة.
في فيلم “كائنات خارقة” نشاهد انبعاث جثث جنود جنوبيين – من أيام الحرب الأهلية الأميركية – للانتقام من قاتليهم. في فيلم “موت الليل” يعود الجندي من فيتنام ميتاً ليفترس من يصادفه. في فيلم “قوة الحياة” يعود رواد الفضاء بفتاة جميلة لكنها تحوّل الناس إلى زومبي بامتصاص قوة الحياة منهم. في Evil Deadنرى أفراداً يلقون حتفهم بطرق بشعة لكنهم يعودون إلى الحياة. في 28 Days Laterتتحول لندن ومناطق أخرى إلى مدينة موبوءة بعد أن تحول السكان إلى موتى أحياء.