الأطفال في سينما كمال الشيخ
د. ماهر عبد المحسن
استحق المخرج المصري كمال الشيخ أن يُلقب بـ “هيتشكوك السينما المصرية” لما قدمه من أعمال سينمائية تتسم بالتشويق والإثارة، والقدرة على جذب المشاهدين حتى النهاية، يتضح ذلك من نهايات أفلامه التي لا تنتهي إلا بعد أن تبلغ أحداثها قمة الإثارة كما هو الحال في أفلام ألفريد هيتشكوك رائد الأفلام البوليسية في السينما العالمية.
غير أن الشيخ لم يقع في فخ التغريب، ونجح في تقديم دراما بوليسية تحتفظ بروح هيتشكوك التي تستهدف التشويق، وفي الوقت نفسه تعتمد على موضوعات مصرية خالصة، حتى عندما أخرج فيلمه الأخير “قاهر الزمن”، وهو فيلم خيال علمي، لم يتخل عن الأجواء المصرية التي كانت تميز أفلامه. ومثل هيتشكوك كان الشيخ يميل إلى خوض التحديات في إخراج أفلامه بحيث تنتقل الإثارة إلى صناعة الفيلم نفسها وليس القصة فحسب!
وفي هذا السياق، استطاع كمال الشيخ أن يحطم المفهوم التقليدي للمكان والزمان اللذين كانا سائدين في السينما المصرية عندما أخرج أول أفلامه “المنزل رقم ١٣”، فالمكان كانت له طبيعة حلمية تختلط بالواقع في وعي شخصية منومة مغناطيسيا. والزمان كان قريبا من الزمن الحقيقي للأحداث اليومية، فلم يتجاوز اليوم الواحد في فيلم “الشيطان الصغير” وبعض اليوم في فيلم “حياة أو موت”. كما كان يخلط البوليسي بالاجتماعي كما في “اللص والكلاب” و “الخائنة” و “على من نطلق الرصاص”، ويخلط البوليسي بالسياسي كما في “ميرامار” و “غروب وشروق” و “شيء في صدري” والبوليسي بالنفسي كما في “وثالتهم الشيطان” و “الطاووس”.
وفي كل الأحوال، كان الشيخ يهدف إلى التشويق مثل هيتشكوك، إلا أنه يختلف عن هذا الأخير في استعانته بالأطفال في أكثر من فيلم، فلم يُعرف، على حد علمنا، أن هيتشكوك أخرج أفلاما من بطولة أطفال، بل إن وجود الأطفال تحديدا كان شحيحا جدا في أفلامه، ولا نذكر سوى مشهدي هجوم الطيور على الأطفال أثناء عودتهم من المدرسة وأثناء احتفالهم بعيد الميلاد في فيلم “الطيور”. ولا يخفى أن هيتشكوك في هذين المشهدين إنما كان يهدف إلى تجسيد وحشية الطيور، التي تبدو رقيقة، ضد براءة الأطفال في نوع من التحذير المبكر من غضب الطبيعة الملغز الذي بات وشيكا هذه الأيام!
وفي كل الأحوال، تظل براءة الأطفال هي كلمة السر في كل محاولة سينمائية للاستعانة بالأطفال، خاصة إذا كان المخرج يسعى إلى التشويق والاستحواذ على انتباه الجمهور مثل كمال الشيخ. وبهذا المعنى، يمكننا أن نفهم كيف استطاع الشيخ أن يحقق النجاح الفني في أفلام قام ببطولتها أطفال في سن صغيرة. فقد حافظ على براءة الأطفال بحيث جعل الأطفال تتصرف كأطفال لا ككبار كما اعتادت أن تقدمهم السينما المصرية في ذلك الوقت، هذا بالرغم من أنه كان يعمد إلى وضعهم في مواقف حرجة ومأزومة اعتاد المشاهد رؤيتها تواجه الكبار. وإذا أردنا أن نقترب أكثر من تفاصيل هذا النجاح، فينبغي علينا أن نلقي نظرة تحليلية على الأفلام الثلاثة التي أخرجها من بطولة الأطفال.
حياة أو موت (١٩٥٤):
كانت ضحى أمير، بطلة فيلم ” حياة أو موت” هي أكبر الأطفال سنا ضمن هؤلاء الذين قاموا ببطولات لأفلام كمال الشيخ، ومن ثم لم تصل براءتها إلى الدرجة التي وصلت إليها الطفلة إيمان ذو الفقار بطلة الفيلم التالي “ملاك وشيطان”. واختيار ضحى كان موفقا لأن السيناريو كان يدّخر لها دورا يحتاج إلى قدر من المسئولية. اتضح ذلك عندما قررت أن تبقى مع والدها المريض (عماد حمدي) بعد مغادرة الأم (مديحة يسري) للبيت غاضبة، وعندما قررت أن تذهب إلى العتبة لإحضار الدواء لوالدها. لكن براءة ضحى كانت تكمن في عدم معرفتها بخطورة الدواء/ السم الذي كانت تحمله إلى والدها بعد أن أخطأ الصيدلي في تركيبة.
والإثارة تأتي في رحلة العودة إلى البيت، فالطفلة ضحى أو سميرة كانت من الذكاء بحيث يمكنها تخطي العقبات التي يمكن أن تعرقل رجوعها إلى البيت وإعطاء الأب الدواء/ السم الذي من شأنه أن يقضي على حياته. وينجح كمال الشيخ في تجسيد تلك اللحظات السريعة اللاهثة التي تحبس الأنفاس منذ مغادرة ضحى لصيدلية العتبة حتى وصولها إلى بيت الأب في دير النحاس، وتتحقق الإثارة لدى المشاهد نتيجة المفارقة الناجمة عن علم المشاهد بخطورة الموقف في الوقت الذي تجهل فيه الطفلة هذه الخطورة، ما يدفعها إلى السير بقوة في الطريق التي تؤدي إلى موت الأب معتقدة أنها إنما تبذل قصارى جهدها للتعجيل بإنقاذه!
وبإنقاذ الأب (المواطن أحمد إبراهيم) تم إنقاذ الأسرة، فقد عادت الزوجة، وعادت البسمة إلى الطفلة التي لفظتها الخلافات الزوجية فمضت شريدة في شوارع القاهرة بحثا عن علاج لأوجاع الأب، وربما لأوجاع الأسرة كلها. فالتركيبة الاجتماعية الخاطئة هي السم القاتل، ورحلة العودة المثيرة لضحى هي بمثابة ناقوس الخطر الذي خلّفه فرار الأم من المسئولية، كما أن عودتها المفاجئة في اللحظات الأخيرة لإنقاذ رب الأسرة كان بمثابة التصحيح للتركيبة الخاطئة للدواء التي رمز إليها مشهد حسين رياض (الصيدلي) وهو يقدم لأحمد إبراهيم زجاجة الدواء السليمة، ليتحول النداء الشهير “إلى المواطن أحمد إبراهيم… لا تشرب الدواء الذي أرسلت ابنتك في طلبه، الدواء فيه سم قاتل” إلى تحذير لكل مواطن/ مواطنة بألا يهربان من المسئولية ويحمّلانها لأطفالهما الصغار قبل الأوان!
ملاك وشيطان (١٩٦٠)
تحققت البراءة التامة في شخصية “سوسن” التي أدتها الطفلة إيمان ذو الفقار في فيلم “ملاك وشيطان”، نظرا لأنها الأصغر سنا، ومن ثم لم تكن تعرف معنى المسئولية مثل ضحي أمير، والمأزق الذي وضعها فيه السيناريو هو اختطافها من قبل عصابة تطلب فدية من الأب، تاجر المجوهرات، ثم تقرر قتلها بعد الحصول على المال على يدي مجرم بلا قلب، مارس كل صنوف الإجرام من بلطجة وقمار وقتل.
وتظل رحلة العودة إلى البيت، كما في فيلم “حياة أو موت”، هي أساس التشويق مع اختلاف الحبكة. فرغبة سوسن البريئة في العودة إلى أمها وأبيها وقطتها بوسي كانت تتعارض مع رغبة عزت (رشدي أباظة) الشريرة في التخلص منها، غير أن رحلة سوسن الخارجية كانت تقابلها رحلة داخلية لعزت نحو الجانب المضيء من شخصيته الشريرة، فهناك صراع داخلي بين الخير والشر جعل بعض النقاد يستدعي فكرة التطهير، بحيث يمكن تفسير دراما الفيلم على أساس أن ملائكية سوسن كانت سببا في تخلص عزت من شيطانيته، لدرجة أنه ضحى بحياته من أجل إنقاذ الطفلة وإعادتها إلى أهلها.
وتأتي البراءة دائما من الثقة المفرطة في تفاصيل العالم المحيط، وتقدير الأطفال غير الحصيف لأخلاقية الخير الكاذبة التي يخلعونها على الآخرين مهما كانوا يحملون من الشر داخل أنفسهم المريضة. وبهذا المعنى، لا يُستغرب أن تطلق سوسن على المجرم لقب “أونكل عزت” وتطلق على الراقصة ( نجوى فؤاد) لقب “طنط خيرية” وكأنها تعيد صياغة العالم الشرير الذي وجدت نفسها متورطة فيه ليصير أكثر نبلا وأخلاقية، ساعدها في ذلك أن كلا الشخصيتين الشريرتين كانتا تحملان شيئا من الخير، خاصة “خيرية” التي يرمز اسمها إلى هذا الشيء!
الشيطان الصغير (١٩٦٣)
محمد يحيى هو الطفل الولد الوحيد بين أبطال أفلام كمال الشيخ التي استعان فيها بالأطفال، وفيما يبدو فإنه قد ادّخره لتحدي أصعب، تجاوز تحديات الطفلتين ضحى أمير وإيمان ذو الفقار، عندما وضعه في مواجهة اثنين من المجرمين ارتكبوا جريمة قتل أمام عينيه. لم يكن الشيخ عنيفا في أفلامه حتى يصور جريمة قتل أمام طفل صغير، لكنه كان أكثر ذكاء عندما جعل الطفل يختبئ داخل عربة كبيرة لنقل الأثاث، ليكتشف بعد تحرك العربة أنه محبوس بجوار جثة لرجل مقتول.
وعنصر التشويق لم يكن في مجرد اكتشاف الجثة، لكن في اكتشاف القتلة لوجوده أثناء دفنهم الجثة في مكان بعيد عن الأنظار، ومنذ تلك اللحظة بدأت مطاردة مثيرة بين القتلة وعصام (محمد يحيى) من أجل الوصول إليه قبل أن يبلغ عنهما. وهنا أيضا نجد أنفسنا أمام رحلة مزدوجة، رحلة القتلة نحو الوصول إلى الطفل، ورحلة الطفل تجاه العودة إلى بيته. والمفارقة أن الطفل هنا هو الشيطان، لكن الشيطنة تأتي بمعنى الشقاوة، فهذه الأخيرة هي التي جعلته يختبئ في سيارة متجهة إلى محافظة أخرى بصحبة اثنين من القتلة.
ومثلما كانت براءة سوسن في فيلم “ملاك وشيطان” سببا في تحول المجرم عزت من الشر إلى الخير وتضحيته بحياته من أجل إعادتها إلى أهلها، فإن براءة عصام، بالرغم من ذكائه الذي جعله يهرب من القتلة ويسبب لهم الذعر خشية انكشاف أمرهم، هي التي جعلت المجرم عليوة (حسن يوسف) يدفع حياته ثمنا لإنقاذ عصام من الشرير حسنين (صلاح منصور). وكأن في براءة الأطفال يكمن السر الذي يحول الشر إلى خير أو أن المجرم، الذي يحمل قدرا من الخير، يرى براءته الأولى في الطفل الذي أمامه، فيعمل على استعادتها حتى لو دفع حياته ثمنا لذلك!
وأخيرا، يمكننا القول إنه إذا كان هيتشكوك قد نجح في استخدم براءة الأطفال كي يبرز وحشية الطيور، أكثر كائنات الطبيعة رقة وجمالا، فإن كمال الشيخ قد نجح في جعل هذه البراءة أداة لترويض الوحش داخل الإنسان!