“إنْ شئتَ كما في السماء” تصالُح الحداثة العربيَّة

إيليا سليمان في لقطة من فيلمه إيليا سليمان في لقطة من فيلمه
Print Friendly, PDF & Email

فيلم “إنْ شئتَ كما في السماء” للمخرج إيليا سليمان، تجربة سينمائيَّة نحتاجها لا في مجال السينما العربيَّة وحسب، بل في مجال الفكر العربيّ الرحب، أو الأفق العربيّ. إنَّها تجربة تقدم نفسها لا في نطاق ضيق- كما يُمكن أنْ تُؤوَّل أيضًا- بل تجربة مُحاكية للعقل العربيّ في رحلته الحديثة والمُعاصرة تجاه إحدى أكبر همومه وقضاياه وهي أراضيه المُحتلَّة، وتجاه ذاته كذات، وذاته كمُقابل لذات الآخر الغربيّ. إنَّه فيلم معقد لا لصعوبته كما المعتاد؛ لكن يكمن تعقيده في بساطة عرضه للنتائج التي توصَّلتْ إليها تجربة صانعه، تلك البساطة التي تؤكد أنَّها تجربة أناة وصبر وتأمُّل مستفيض.

ولعلَّ هذه البساطة التي في الفيلم تخبرنا بأنَّ صانعها قد اختبر كلَّ ما قدَّم لنا من قبل طويلاً، وها هو الآن يقف في موقفا لا في موقفه ليُلقي إلينا بزُبدة ما توصَّل إليه. ومما يُعزِّز تعقيد الفيلم هو مقاطعته للنمط السائد الذي اعتاد عليه الفنّ السينمائيّ -العربيّ والعالميّ- في الدراما الواضحة البيِّنة أمامنا في المشاهد، والحوار الذي هو الأداة العظمى للمُتلقِّي العاديّ. فها هي التجربة تقاطع هذا التفاعل الواضح والدراما البيِّنة، وتقاطع الحوار لتقول لنا: كفانا حوارًا إنَّ الحال بيِّن دون حوار، بل دون وجود أناس تتحاور أصلاً. هذه العناصر الثلاثة هي التي جعلتْ الفيلم معقَّدًا بعض الشيء. وبغضّ النظر عمَّا يبدو من سمت التعقيد دعونا نقترب من التجربة شيئًا فشيئًا حتى نتمكَّن جميعًا من إدراك سياق الأحداث والمعاني.

الفيلم الذي ألَّفه وأخرجه ومثَّله “إيليا سليمان” لا يُحكى؛ أيْ لا يقبل فعل “الحَكي”، بل يقبل فعل “التفسير” و”التأويل” (هرمنيوطيقا). بل إنَّ مشاهدته، وهو الفعل الأساسي الذي يصنع من أجله أيّ فيلم- لا تُجدِي إلا مع إعمال العقل في تفسير وتأويل ما يجري أمامك. لكنْ قبل تجربة تأويل نكمل صورة ما أمامنا بملاحظة عدة أمور: منها أنَّ الفيلم نادر الحوار، ولم يستغلَّه إلا في مشاهد معدودة، ولم يقُلْ بطل الفيلم -الذي يظهر في كل المشاهد إلا المشهد الأول- إلا جُملتين: “أنا من الناصرة، أنا فلسطينيّ”.

ومنها تكوين الكادر في الفيلم؛ حيث حرص “إيليا” أن يظهر بطله في كل مشاهده في منتصف الكادر بالضبط. وموقع المنتصف هو موقع يدلُّ على المُباشَرَة والمواجهة وهو أقرب لموقع المراقب منه إلى موقف صاحب المشهد الدراميّ. وهذا يُعزِّز فكرة أنَّه يُلقي إلينا نتائج تجربته، كما يوحي في بعض المَشاهد بأنَّ الصورة تبتلعه. كذلك حرص الأستاذ “إيليا” على التركيب الثنائي لا الثلاثي لعمق الصورة؛ حيث يظهر في غالب المشاهد هو وخلفيَّة الأحداث.

بناء فيلمنا هذا يعتمد على “وحدة المشهد”. لإيضاح الأمر نستشهد بالشعر العربيّ القديم الذي يُذاع في نقده جُملة “وحدة البيت” أو “البيت وحدة القصيدة”. أيْ أنَّ كلَّ بَيْت من الأبيات يدلُّ على معنى مُنفرد، فضلاً عن معناه في السياق الكليّ للقصيدة. وهذا المبدأ لا يعني أنّ العمل -قصيدة أو فيلمًا- مُفكَّك -كما يعتقد بعض نقَّاد الأدب- بل يعني أنَّ كلَّ مشهد له مغزى ومعنى قويّ كفايةً، وكذلك من الممكن استخدام كل مشهد في إبراز معنى حتى لو لمْ يعرف مُشاهد المشهد أنَّه جزء من فيلم، كما نتداول كثيرًا من أبيات الشعر منفصلةً عن قصيدتها.

مبدأ وحدة المشهد لا يعني أنَّ الفيلم مُفكَّك، ولا يعني أيضًا أنَّ هذا الفيلم خالٍ من القصة والأحداث؛ كما قد يعتقد البعض ويصف الفيلم بأنَّه مجموع “لوحات تمثيليَّة” أو “اسكتشات تمثيليَّة”. بل له قصة وأحداث بدليل أنَّ الفيلم ذو بداية ووسط ونهاية، وأنَّ الدراما في الفيلم تتطور وصولاً إلى مشهد النهاية. لكنَّ النموذج التأويليّ أو الجهد التفسيريّ غير المُكتمل للعمل هو الذي يؤدي إلى اعتبار هذا الفيلم مجموع مشاهد أو لوحات.

ويستمدُّ الفيلم جزءًا من بنائه من الأغاني والأشعار العربيَّة الفصحى والعاميَّة التي يجمعها أنَّها أنتجتْ عندما كان العرب أقوياء عن اللحظة الراهنة، وكذلك أنَّها ذات قبول من الذائقة العربيَّة العامة -وسيكتمل دورها بالتضاد مع المشهد الأخير-. أيضًا يستمدّ الفيلم بناء حالته المعنويَّة من الكوميديا التي أتت من روح السخرية المريرة في المشاهد، وكوميديا الحركة الاعتياديَّة.

في الفيلم الكثير من المشاهد الرمزيَّة -والفيلم ليس رمزيًّا، وهناك مشاهد واقعيَّة، وهناك مشاهد تقترب من العبث، وهناك مشاهد سيرياليَّة تمتزج بالمزاح. وهناك أيضًا استخدام للأقنعة وكلُّ هذه الملامح ملامح التعبيريَّة السينمائيَّة. وبالعموم وبغض النظر عن التصنيف- فإنَّ المخرج لمْ يتوانَ في استخدام أيّة أداة أو إدخال أيّ ملمح في سبيل التعبير الأوضح والأبرز والأشدّ لصوقًا بتجربة صاحب التجربة نفسه.

كل هذه المسائل المُغايرة للمُعتاد جعلت هذه التجربة السينمائيَّة مُباراة للتفسير والتأويل؛ فأمام المُشاهد الكثير من الأدوات ينوِّع بينها المخرج ليُرسل له دلالات معنويَّة من هنا وهناك. هذه التجربة بثرائها جعلت التفسير القائل بأنَّ الفيلم عن الشتات الفلسطينيّ صحيحًا، لكنَّها تركت أيضًا أشياء فوق فكرة القضيَّة الفلسطينيَّة، أشياء تجعل التجربة أعمَّ من حديث غير مُعتاد عن قضيَّة فلسطين، بل عن الفكر العربيّ ورحلته وهذه هي الوجهة التأويليَّة التي اخترتها. فسأختار مشاهد مؤثرة أو زبدة ما تدلّ عليه المَشاهد لأعرض وجهة تفسير.

أوَّل ما يسترعي انتباهنا هو البطل أو التشكيل الذي كان عليه البطل. إنَّه رجل “عربيّ” الأصل يلبس طوال الوقت لباسًا أقرب إلى لباس “الفرنجة” أو الأجانب فها هو يعتمر قبعة الخواجات، ويشمِّر كُمَّيْ البذلة على موضة كانت قد أتت من الغرب. هذا من حيث المظهر الخارجيّ؛ أمَّا الداخليّ فالبطل يصوِّر شخص “الحداثة العربيَّة” بكل ما فيها. ففي مشهد ذكيّ للغاية تدقّ أجراس صلاة الكنيسة فلا يجد البطل من فائدة في دقّ الناقوس إلا أنَّه قد عرف أنَّ الساعة قد بلغت العاشرة فضبط ساعة البيت عليها.

كما أنَّه الشخص الذي ملَّ القديم وقرَّر أنْ يتخلَّص منه؛ يطالعنا هذا أيضًا في تعبيرات وجهه وفعله تجاه بقيَّة أدوات أمِّه أو أبيه الذي قد توفي، ونظرته للتمثال (الأيقونة) الدينيَّة -ولها مقام في الديانة المسيحيَّة- كأنَّها شيء قديم ينظر إليه بغير اكتراث، بل يسعد بإبعاده عن حياته. وهو أيضًا الشخص الذي نراه لا يكترث بالقيم العربيَّة أو الدينيَّة فيقف أمام قبر والده أو والدته المُتوفَّاة -لا يوضح المشهد شيئًا عمَّنْ مات أصلاً لتعميق الأثر بغضّ النظر عن الشخص الذي توفي- وسرعان ما يملُّ ويدخِّن السيجارة غير مُبالٍ بمقام الموت الذي يحيط به.

كما أنَّه الشخص الذي يتعجَّب من السلوك العربيّ القديم مثل سلوك الجار الذي يأتي إلى بيته ويتصرِّف في شجرة الليمون زراعةً وحصادًا وتقليمًا دون إذن منه، وكذلك من قصص الخرافات أو الميثولوجيا العربيَّة التي تشير هي الأخرى إلى الثقافة العربيَّة والدينيَّة -حسب نظرة الحداثة بالقطع وحسب- في مشهد الرجل العجوز الذي يظلّ يحكي له حكاية خرافيَّة وهو مُصدِّق لها ومُمتنّ والبطل يستمع وحسب، وقد ملَّ هذه الخرافات. وكذلك من الطريقة العربيَّة في الحياة في مشهد تلك المرأة العربيَّة البدويَّة وطريقتها في نقل آنيتَيْ حليب بالطرق العتيقة للنقل.

وهو أيضًا ينظر للازدواجيَّة الأخلاقيَّة التي تظهر في الحانة بين الأخَّيْن وأختهما وموقف شرب الخمر بين الرجل والمرأة أو بين الأخ والأخت. وهو في النهاية الذي لكلِّ هذا يشرب الخمر دومًا في كلّ مشاهده في بلاد العرب، مُعبِّرًا عن موقفه. لكنَّه يغيِّر من شرابه الذي يُسكر العقل، إلى شرب القهوة التي تنبِّه الغرب طوال الجزء الذي يقع في بلاد الغرب. هذا هو تشكيل الرجل بنظرة الحداثة.

أمَّا عن البيئة التي دفعته لذلك فهي هذا الوضع الذي قد يعبِّر عن العبث، لكنَّه أيضًا يعبِّر عن المأساة في المشهد الأول في أثناء الطقوس الكنسيَّة، وهو هذه الازدواجيَّة الأخلاقيَّة التي عبَّر عنها من قبل، وهي “اللا أخلاقيَّة” التي ظهرت في مشهد العجوز وابنه التي وصلنا إليها، وهي هذه الافتراق الحاسم في مشهد ضابطَيْ الشرطة الفلسطينيين اللذين اغتصبا من صاحب المناظير منظارَيْن دون ثمن، ثم وهما ينظران من المنظار الذي يحدُّ النظر لا يريان أبدًا هذا السلوك الإجراميّ أو المُخالف للقانون الذي يقع أمامهما تمامًا بل ينظران بهما إلى السماء. وبالعموم هو تحوُّل الحال العربيَّة إلى حال لا يمكن تصويره بكلمات، وقد لا يُجدي معه إلا الخمر.

قبل مغادرة الأراضي العربيَّة نجد مشهدًا واحدًا يتحدث عن الاحتلال كعنصر من الصورة لا كقضيَّة للفيلم كلِّه. في مشهد سيارة جنديَّيْ الاحتلال وهما يختطفان طفلة تُشبه في ملامحها العامة فتاة فلسطين “عهد التميميّ”. لكنَّ الأهم ليس هو اختطافهما بل إنَّه كان يظنُّ أنَّ سيارة الاحتلال تلحق به لأنَّه قد خالف السرعة، فلمَّا أبطأ وجد أنَّ الجنديين لا يُلقيان بالاً له أصلاً، بل يتبادلان تجربة نظَّارَتيْ شمس أمام مرآة السيارة، حتى عندما زاد السرعة إلى حدّ أقصى لمْ يفكِّرا باللحاق به. هذا ما صدَّره لنا عن فلسطين أو عن العرب والعربيّ الحداثيّ المهموم بقضايا وطنه.

ثمَّ يسافر البطل إلى الغرب مُتجهًا نحوه قلبًا وفكرًا وروحًا. ونلحظ أنَّه اختار فرنسا وأمريكا أيْ أبرز دول الحضارة الغربيَّة الأوربيَّة، ودولة الحضارة الغربيَّة الحديثة، أيْ الغرب بجناحَيْه ثقافتَيْه. وكثير من المشاهد في الغرب لها عديد الدلالات لذا سأحاول الاختصار البالغ في إيراد زُبدة الأمر وخلاصته، بعدما تبيَّن وأُرسِيَ الأمر في مشاهد فلسطين.

ومع المشهد الأول الذي فيه عرض الأزياء وهو على المقهى يعبِّر الفيلم عن حالة الانبهار العربيّ أمام الغرب عن طريق هذا العرض من الحسناوات ونظرة البطل النَّهِمَة لهنّ، وإعجابه العميق بالتأنُّق والرَّونق الغربيّ، والالتماع والحريَّة. هذه المظاهر الذي يكتظّ بها المشهد وهي أيضًا الأحاسيس نفسها التي يحسُّها العربيّ أمام حضارة الغرب، وما يُصدِّره بعض المثقفين العرب للمُتلقِّين العرب. وكأنَّ المشهد بالكامل إعلان تجاريّ عن الغرب كمُنتَج.

ثم تتوالى المشاهد بالغة الكثرة ليكتشف البطل أنَّ الأمر ليس على هذه الصورة التي نتصورها، وأنَّ وراء هذا الانبهار عوامل ودلالات لو عرفناها لغيَّرنا رأينا. ولا يضيِّع الفيلم وقتًا فبعدها مُباشرةً نجد مشهدين يدلّانِ على تمحور العقل الغربيّ حول التطور التكنولوجيّ الذي أحدثه؛ فجميع مُستخدمي الأدوات الحديثة -ومنهم الشرطة- لا يستخدمون تلك الأدوات للغرض الذي صُنعتْ له، بل يقفون فقط عن حدّ استخدام التكنولوجيا وحسب، حتى لتُنسيهم أنَّها صُنعتْ لغرض.

ثم يكتشف البطل “شكليَّة النظام الغربيّ” الذي نتغنَّى به في وطننا العربيّ؛ حتى صرنا كالبُلهاء نردد أساطير عن النظام الأوربيّ والإحكام الأمريكيّ. فها هي الشرطة لا يهمها إعادة المسروق بل مواصلة اللحاق بالسارق، وها هي عربة الإسعاف تطمئنّ على متشرِّد يفترش الطريق، ثم تقدِّم له “الشكولاتة” -التي هي رمز الرفاهة- وهو يفترش الشارع لاحتياجه للأساسيات لا مواد الرفاه وتمضي تاركةً إيَّاه في الشارع بعد أنْ ملأت دفترها!

ثمّ يكتشف البطل تحالف السلطة والمال والجيش من خلال مشاهد الطائرات التي تظهر من وراء قصور السلطة القديمة، والدبابات التي تمرّ من أمام البنك المركزيّ الفرنسيّ. رغم أنَّه قد ترك منذ شارعيْن صفًّا طويلاً من العرب والأفارقة والفرنسيين يقفون أمام كنيسة لتسدّ رمقهم. ويكتشف الضياع الأخلاقيّ وأخلاق الغاب في مشهد النافورة حيث يستولي كلُّ إنسان على أيّ حقّ بغض النظر عن استحقاقه له، وحيث يخوِّن الجميع الجميع.

فضلاً عن نفوره من موجة الشذوذ الجنسيّ والسلوك بالغ الغرابة في مشاهد قطار الأنفاق وذاك الشابّ الذي روَّعه لدقائق مجرد وقوفه بجانبه. ثم يكشف عن مشكلة الاستعباد التي ما زالت تقف عندها أوربا. فها هما فقيران من أصل إفريقيّ يعملانِ عاملَيْ نظافة ونتيجةً لكلّ القهر المُمارس يتركان عملهما ويلهوان كصفائح المياه الغازيَّة وكأنَّهما يلعبان “الجولف”، ثمَّ ينظران بانبهار شديد إلى عرض أسلحة تقيمه الدولة بنقودهما ونقود الشعب. وكذلك مشهد في غاية البراعة عندما يكتشف أنَّ شاشة عرض الأزياء التي تقابل شقته في المبنى التالي ما هي إلا شاشة عبوديَّة تستغلّ السيدة الأفريقيَّة لتظهر الفتاة الأوربيَّة التي تفتن العيون.

ومشهد العصفور الذي هو ضعيف مثل حال البطل ومثل حال فلسطين، والذي لمْ يجد الحنان إلا من البطل، ولمَّا تركه يمضي إلى السماء نرى أنَّها مقسَّمة بفعل الطائرات النفَّاثة ليتأكَّد ألا مكانَ لعصفورنا -الحقيقيّ أو البطل- تحت هذا السماء. وها هو يشهد وراء الشوارع الفخمة الفسيحة ملايين الشوارع التي تعجّ بالفقر والفقراء والنفايات لا تفترق في شيء عن شوارع بلاده. ويشهد القلق والعنف الاجتماعيّ في حمل السلاح في أمريكا للمواطنين. وكذلك يطلعنا بسخرية مريرة على اللقاءات العربيَّة في المهجر من أجل فلسطين.

وتبلغ المفارقة أو الازدواجيَّة مداها في مشهد الفتاة التي تتعرَّى وهي تلوِّن جسدها بعَلَم فلسطين، وملاحقة الشرطة لها في بلاد تتدِّعي الحريَّة الكاملة، وتحتلّ بلادنا لتُقرَّها، لكنَّ يتأكَّد أنَّها ليست حريَّة تلك التي يدعون إليها؛ فها هم يسعون إلى تغطية الجسد طالما كان عورةً في نظرهم. إنَّهم يعتبرون فلسطين عورة تستوجب الستر، ويسمُّون الآتي منها فلسطينيّ من ….. (الكيان المحتل)، حتى إنَّ سائق التاكسي لا يصدق أنَّ هناك فلسطينيًّا بعد عمليَّة الستر العُظمى لدولة بالكامل التي قام بها الشيخ التقيّ “العمّ سام”.

وفي النهاية يُرفض من جناح الغرب الفرنسيّ، ويُرفض من الجناح الأمريكيّ أيّ فيلم جدِّيّ عن فلسطين، بل يُعدُّ نوعًا من الكوميديا. وتتحوَّل فلسطين وجودًا وأنطولوجيا إلى كلمة يحكيها له عرَّاف. فيعود البطل إلى الوطن العربيّ أقرب إلى رؤية صحيحة معتدلة بعدما رأى أنَّ عيوب وطنه هي عيوب الإنسان لا جنس معين ولا لغة معينة. وأنَّ الأجدى هو الإصلاح لا القطيعة المعرفيَّة والأخلاقيَّة. لكنَّه حينما يعود يجد نسقَيْنِ المرأة العربيَّة تمضي في طريقها الطويل بثبات رغم الصعوبات التي تقابلها.

ونسقًا آخر ختم به الفيلم نسقًا به الكثير من ازدواجيَّة الموقف العربيّ الحاليّ في مشهد الشباب الذي يتغنون بأغنية فصحى، بل إنَّها تقول: “عربيٌّ أنا اخشيني” .. لكنَّها بلسان عربيّ غير مُبين، ومن يتفاعلون معها كلّ ما فيهم غير عربيّ إلا من كلمات تراقصون عليها رقص مجانين الغرب، وهم في ملهى ذي سمت غربيّ محض. وهو يعود إلى خمره وينظر إليهم نظرات تتأرجح بين القلق والرضا ونسمات الاحتجاج، لكنَّ عينيه تحتدُّ وكأنَّه ينظر إلى شيء بعيد، وكأنَّه ينظر إلى المستقبل. ثم تظلم الشاشة على هؤلاء الشباب في حالة تحتاج إلى كثير من النقاش وإعادة ضبط المفاهيم، وإعادة رؤية الأولويات.

ومهما كان الأمر ففيلم “إنْ شئتَ كما في السماء” تجربة تستحقّ ما نالتْه من جوائز، وما ستناله. بما تمثِّله من أصالة في التجربة، وتشكيل سينمائيّ يُثري حالة الوعي العامّ. هي ليست خطوة أخيرة بل خطوة يُخطى بعدها أميال في رحلة تشكيل الوعي العربيّ لنعرف مَنْ نحن ومَن الآخر وكيف سنقف أمام تحديات المصير.

Visited 57 times, 1 visit(s) today