“أمير كوستوريتسا”.. توليفة غرائبية بمذاق السحر

في إطار مكاني يُحيط به المنعطفات التاريخية والتقلبات السياسية، كالعاصمة البوسنية سراييفو نشأ المخرج الصربي “أمير كوستوريتسا”، ما بين تاريخ يحمل إرث إسلامي بحكم التبعية للدولة العثمانية من ناحية، وتنوع الأطياف العرقية من ناحية أخرى، تكونت رؤيته للعالم وما حوله، رؤية شديدة الخصوصية، بما يتناسب مع الطبيعة المكانية لوطنه يوغسولافيا.

بشكل أو بأخر تأثر “كوستوريتسا” بهذه العوامل، التي صبغت تجربته بمذاق لا يُدرك كنهه سواه، فإذا كانت للعوامل الزمنية ومراحل تعاقبها المختلفة روافدها الإبداعية، فمرور الزمن بكافة تحولاته الدرامتيكية والإيدلوجية، يُشكل ملمحاً أساسياً يُمكن بسهولة التقاطه عبر متابعة أفلام “إمير كوستاريتسا”.

فحياة الطفل آنذاك لم تأخذ سوى إتجاه واحداً ألا وهو كرة القدم، وبهذا يُمكن تفسير سر المكانة المرموقة لأسطورة كرة القدم “مارادونا” لديه، هذا المنحى الحياتي تحولت دفته فجأة في سن الثامنة عشر، إذ بدت إصابته في قدمه عسيرة على الإلتئام، حينها لاحت السينما في الأفق، وبدأ معها حله وترحاله، بدراسته في المعهد السينمائي في براغ في منتصف السبعينيات.

“صناعة الأفلام مهمة خطيرة، لأنك دائماً الشخص الذي يقف في مزكز الكون أثناء العمل”

يُمكن بلورة فلسفة السينما عند كوستاريتسا بهذه المقولة، فخطورة صناعة الأفلام ليس في مراحل صناعتها، لكنها تكمن في الأفكار المطروحة، أو بمعنى أخر، ما الذي تقوله؟ وكيف تقوله؟ وعنذ هذه النقطة نجده يقول “أخرجت العديد من الأفلام على مدار تاريخي، والبساطة سمة أساسية لهذه الأعمال، إلا أنها لم تكن بسيطة على الإطلاق”.

فالبساطة وإن كانت ملمحاً أساسياً، إلا أنها لا تخلو من العمق والخطورة أيضاً، خاصة من ناحية الطرح الفكري، الذي يسير بموازة الإنسان بعيداً عن أي تحيزات عرقية أو سياسية.

ما يزيد عن الأربعين عاماً، هي عمر تجربة كوستاريتسا الممتدة، بالتأكيد تحوي تلك الفترة الزمنية، ما لذ وطاب من رؤى وهموم، سعى مخرجنا للخروج بها من ضيق العقل الذاتي إلي براح السينما.. لذا تستحق التمهل والوقوف عندها، بحثاُ عن تلك النقطة الجذابة المسماه بالإلهام.

يُمكن قراءة المنجز الإبداعي للفنان، من خلال عدة سياقات، تُمثل في مجموعها خارطة للإلمام بالخلفيات الحياتية والفكرية، والسياق الجغرافي أو ما يُسمى بالمكان، يُعد من أهم هذه العوامل، ليس لكونه يُمثل النشأة، بما لها وما عليها، لكنه يمتد لما هو أعمق، ويتصل بالجذور التاريخية، التي تُصبغ الهوية الفكرية بطريقة أو بأخرى.

وللعمق التاريخي في سينما كوستاريتسا بصمة واضحة، بما يسمح بإعادة قراءة التاريخ والنظر فيه بأريحية بعد مرور الوقت المتاح، من ثم يُمكن فهم أبعاده وتفاصيله المتشابكة، ففي أول أفلامه “هل تتذكر دولي بيل؟” Do you remember dolly bell?، إنتاج 1981، نرى بدايات تشكل تلك الهوية، فبطل الفيلم “دينو” يعيش في سراييفو أثناء تلك الفترة الحرجة في العلاقات اليوغسولافية السوفيتيه، تلك الزعزعة السياسية ألقت بظلالها على الحياة العامة في سراييفو، التقط كوستاريتسا تلك المرحلة التاريخية، الحائرة بين المعسكر الإشتراكي والرأسمالي، بطبيعة الحال بحكم الطبيعة الجغرافية، تميل يوغسولافيا ناحية الشرق، لكنه ميل ذو هوى، أي لا يفي بالمتطلبات المستحقة لتلك التكتلات السياسية.

من فيلم “هل تتذكر دوللي بيل؟”

فقد تأثرت أعمال أمير في بداياته بتلك المُعضلة، بالتالي جاءت أفلامه وكأنها تلتقط من الظرف التاريخي خيطاً ينسج حوله تشابكات من القصص والحكايات، لذا بدت الثلاثة أفلام الأولى وكأنها وحدة واحدة، كل منهما يُكمل الأخر بصورة أو بأخرى، ففي الفيلم التاني في مسيرته “عندما كان الأب بعيداً في العمل” When father was away in business، إنتاج 1985، يُمكن التقاط طرف الخيط المقابل في الحكاية السابقة لفيلم دولي بيل، نفس المكان سراييفو، والبطل الطفل “مالك” ينتظر قدوم والده بفارغ الصبر، لكن الأب يقع ضحية الإعتقال السياسي، فالصراعات السياسية والدكتاتورية حاضرة بقوة على مدار الفيلم، بما يكشف عن مخرج معجون بالهم الوطني والسياسي ولا ينفصل عنه بأي حال، ولا يحيد في التعبير عنه، حتى في أفلامه اللاحقة، ستتحقق تلك الصورة المعبرة عن الوجع السياسي والتاريخي بصورة فنية أكثر طموحاً.

إذا كانت السياسة حاضرة في أفلام أمير كوستوريتسا، فللحرب نصيب لا بأس به منها، بملاحظة عابرة يُمكن بمقارنة عدد الأفلام التي بُنيت أحداثها على وقائع حربية مقابل الأفلام الدرامية، اكتشاف ترجيح كفة الأفلام ذات البُعد الحربي، فلا يخلو فيلم من أفلامه من مشهد ذات صلة بالحرب أو ذكر عابر لها.

برؤية عامة يُمكن ملاحظة مدى التقلبات السياسية في محيط تلك المنطقة، بما تبعها بالتأكيد مناوشات حربية استمرت من الحرب العالمية الثانية حتى بدايات القرن الحالي، حاول كوستاريتسا التقاط تلك التفاصيل المتشعبة، ليس عن رغبة في البحث في الأسباب، لكن محاولة الرصد ذاتها هي ما تعنيه، في فيلم “تحت الأرض” Underground إنتاج 1995، نرى تلك الإشكالية بصورة مُقربة، هذه أرض تخرج من حرب لأخرى، دون الحاجة لإلتقاط الأنفاس، الحرب العالمية الثانية، هي الشرارة، ثم راحة ممتدة أثناء الحكم الشمولي للرئيس “تيتو” ثم العودة إلي الإضطرابات والحروب الصغيرة صراعاً على الأرض، في الثمانينات والتسعينيات، هكذا جاءت رؤيته وإعادة قراءته للتاريخ.  

من هذه النقطة بدأت مرحلة جديدة في التعبيرالسينمائي لدى كوستوريتسا، فالأفلام التالية بعد هذا الفيلم لا هم لها سوى التُعبير عن تبعات وويلات الحرب الأهلية التي ضربت نخاع البلاد بفيروس يستحيل معه التماسك والإلتئام، في فيلم “قط أسود، قط أبيض” Black Cat White Cat نرى آثار الحرب التي أدت إلى أنفصام صربيا إلي شقين، كل منهما يشق سيفه في وجه الأخر، ثم يبلغ التعبير عن تلك الأزمة ذروته في فيلم “الحياة معجزة” أو Life Is a Miracle إنتاج 2004، حيث نرى “لوكا” العالق في المنتصف بين البلدان المتحاربة، لا يقدر على العبور للأمام نحو وطنه، أو العودة للخلف، فالأعداء متربصون، لذا تبق حياته هكذا حائرة بين هذا وذاك.  

لقطة من فيلم في درب التبانة

كذلك حال كوستا بطل فيلم “على درب التبانة” أو On The Milky Road إنتاج 2016، العالق على الحافة بين حدود الدويلات المتحاربة، يُمارس حياته على أصوات القذائف المتبادلة، فهكذا تهنأ جفونه بالنوم، وبالتالي يُمكن القول أن شخصيات كوستوريتسا ما هي إلا رمز للتعايش في زمن الحرب، أو الإنسان اللا منتمي، لا ينحاز لطرف على حساب أخر، فالمعني هو الوطن بصورة أكثر شمولاً، لذا يقول في إحدى الحوارات الصحفية “لم أرغب أبداً في دولة بوسنية مُستقلة، بل يوغسولافيا، فهذه بلادي”.

في فيلم “هل تتذكر دولي بيل؟” نرى البطل المراهق وعلاقته المرهفة بوالده، ثم تظهر علاقة مماثلة لكن بصورة أكثر شاعرية في الفيلم التالي “عندما ذهب الأب في رحلة عمل” حيث الإرتباط الوثيق بين الأب وأبنه، وتتبلور هذه العلاقة من خلال فيلم “الحياة معجزة” فالأب دينو يذهب إبنه للحرب، لكنه مُشتت الهوى بين إخفاء الأبن لخوفه عليه، ودفعه للحرب دفاعاً عن الوطن.

من فيلم “عدني بهذا”

بنظرة بانورامية يُمكن ملاحظة مدى تشابك نسيج العلاقات الأسرية التي يُصورها كوستوريتسا، خاصة من ناحية العلاقة بين الأباء والأبناء، وبالعودة إلي التاريخ الشخصي لمخرجنا، يُمكن ملاحظة مدى الترابط الأسري بينه وبين والديه، فوحدة كوستوريتسا في الطفولة بدون أشقاء، جعلت منه موضع إهتمام وعناية، وبهذا يُمكن تفسير تكرار أنماط شخصيات الأبطال من هذه الزاوية، كما يبرز الجانب الإجتماعي من زاوية أخرى، وذلك من خلال تعقيدات الوضع السياسي في صربيا، مما ساهم في دفع المزيد من الشباب إلي سُعار الحرب، وما يُقابله من ترابط الأباء بالأبناء، خشية عليهم من مصير لا يعلمه سوى الله.

دوماً ما تبدو شخصيات الأبناء، وكأنها خارجة للتو من نسيج الأبوية لتشق غمار العالم الواسع، فإذا كانت السطو والحماية الأسرية حجراً أساسياً في العلاقة، ففتح النوافذ للحرية تتناسب عكسياً مع تلك السطوة، الأب في “هل تتذكر دولي بيل؟” يُدرك ما يخفيه الأبن عن علاقته بأمرأة مُختبئة في سطح المنزل، ومع ذلك يترك له حبل اللعب واللهو، ويغض الطرف، كذلك “دينو” يترك أبنه يُسافر بحثاُ عن عالم أفضل، والجد في “أوعدني بذلك” أو Promise Me That إنتاج 2007، يترك حفيده يُسافر إلي المدينة ليبحث عن زوجة له، ويقتحم العالم الخارجي، مكتشفاً المجهول الذي لا يدري عنه شيئاً.

في المشاهد الإفتتاحية لفيلم “تحت الأرض” نرى الصديقين “ماركو” و”بلاكي” المناضلان اليساريان، وهما يحتفلان بأحد إنتصارتهما الصغيرة، وشخصيتاهما تبدوان وكأنهما خارج حدود الزمن، كذلك أفعالهما التي يشوبها مسحة من الجنون الأخرق، الذي لا يُبالي بأي ردة فعل في الإتجاه المقابل.

تلك السمة المُميزة للشخصيات ستتكرر على مدار الأفلام، لتبدو الشخصيات مصبوغة بصفة كاركاتورية، وكأنها مزيج بين البشر بحدودهم الواقعية والكائنات الخرافية بآفاقهم العابرة لحافة المعقول، ليس الأبطال فقط هما الموسومين بتلك الصفات، بل والمناوئيين للبطل، كل هؤلاء أصابهم ذلك الهوس الجنوني.

لقطة من فيلم “تحت الأرض”

في فيلم “أوعدني بذلك” نرى تاجر السلاح بردود أفعاله المُبالغ فيها، وكأنه خارج لتوه من إحدى القصص المصورة “كوميكس”، و”الحياة معجزة” يظهر تاجر السلاح بذات المظهر الغريب، البعيد عن تلك الشخصيات في واقعها، وكأن تلك المسحة الكاركتيورية، ما هي إلا نبرة ساخرة أضافها كوستاريتسا للسخرية من تلك الفئة، التي ساهمت بقدر لا بأس به في دفع عجلة الخراب للامام بهمة مُفرطة.

دوماً ما تُسيطر المناطق الريفية أو الصحراوية على الفضاء المكاني، وبالتالي أفرزت هذه الطبيعة المكانية، شخصيات ذات أبعاد خاصة، وكأنها تتفق مع العالم التي تتنمي إليه، فإذا كانت الشخصيات كذلك فالعالم التي تنتمي إليه لا يبدو غريباً عنهم هو الأخر، فالمسحة العجائبية الكاركتيورية أصابت عالم الشخصيات، التي تتعايش في نماذج حياتيه أقل ما توصف به هو الغرائبية، كوستا في “درب التبانة” يُمارس حياته بين قذائف النيران، بدون أدنى لمحة تذمر، محاوراته مع الطيور وعلاقته الأثيرة مع الحيوانات، غلفت عالمه بمسحة لا تخلو من الفانتازية.

يقول أمير كوستوريتسا “أنا رجل مُحمل بالكثير من العاطفة”، تلك العاطفة تناثرت شذاها عبر أفلامه، يُمكن الإحساس بمزيجها موزعة على عناصر الفيلم، وهو ما يُطلق عليه الأسلوبية، أو البصمة، التي تُميز فنان سينمائي عن غيره.

وللموسيقى حضور سحري في سينما كوستوريتسا، وإذا عرفنا أنه مؤسس فرقة موسيقية، سُندرك سر تلك الخلطة الموسيقية العجيبة، التي ترافق الأفلام، بآلات نحاسية، مولفة ألحان شرقية بنغمات غربية، مثل الشخصيات التي يُقدمها، هي الأخرى تمزج بداخلها شذرة من هنا مع مثيلتها من هناك.

تلك الشخصيات موسومة بحالة من الدوران الدائم في فلك المحبوب، فلا يخلو فيلم من قصة حب، تُصبح الظروف المحيطة طرفاً فيها، بما يُشكل نقطة صراع درامي، تجعل من السرد أكثر إشتعالاً، في فيلم “من يتذكر دولي بيل؟” يقع البطل المراهق في حب بائعة هوى، علاقة مُعقدة من الأساس، لكنه يستكمل تلك التعقيدات في علاقة “اكسيل” الفتي النيوروكي بإلينا الفتاة الثرية المرفهة في فيلم “حلم اريزونا”، وكذلك حال “بلاكي” مع صديقته “نتاليا”، و”دينو” يرتبط قلبه بالممرضة “صباح” في “الحياة معجزة”، وشظايا الحرب تضع بينهما جداراً عازلاً، ذلك الجدار الذي يصل إلى الذروة في العلاقة بين “كوستا” و”برايد” في “درب التبانة”.

وفق كوستاريتسا، الحب يحتاج إلى معجزة للوصول به إلي رقعة آمنة، وكذلك الحياة، هي الأخرى في حاجة إلى معجزة لإكمال مسيرتها، أو كما يقول كوستاريتسا أثناء الإحتفال بوصوله لسن الخمسين “لقد وصلت إلى الخمسين من عمري، وكل سؤال مرتبط بالحياة، يتضمن سؤالاً عن الموت، فحينما أغادر هذا العالم، أرغب في ترك فكرة واضحة عن الهوية”.

تُرى هل بلغ حقاً أمير كوستوريتسا تلك المعرفة الحقة عن الحياة؟ أم أنه لا يزال يحبو بحثاً عنها؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

Visited 7 times, 1 visit(s) today