يوميات مهرجان فينيسيا (10) لا مفاجآت في جوائز دورة الكوفيد- 19
أمير العمري
نعم يمكن القول إن الدورة الـ 77 من مهرجان فينيسيا السينمائي كانت بحق دورة الكوفيد- 19، بمعنى أنها كانت دورة استثنائية أقيمت في ظروف الوباء المخيف الذي عانت منه إيطاليا وتحديدا إقليم “فينتو” الذي تقع مدينة فينيسيا في قلبه، أشد معاناة، ومارس الماضي كانت جثث الضحايا تمدد في الشوارع لعدم وجود أسرة في المستشفيات.
كانت إقامة الدورة في حد ذاتها في ظل الظروف الحالية المرتكبة مع كل الاحتياطيات الواجبة وأولها فرض ارتداء الكمامة خارج وداخل قاعات العرض السينمائي، إنجازا كبيرا. فمهرجانات أخرى مثل كان الفرنسي، ألغيت، وتحول مهرجان لندن الى بث الأفلام عبر الانترنت مع عروض محدودة على الأرض، وكذلك مهرجان تورونتو وغيره.
كانت لجان استقبال وفرز الأفلام في مهرجان فينيسيا قد بدأت العمل- كالمعتاد- منذ نهاية الدورة السابقة، أي قبل ظهور الوباء، ولابد أن تفشي الوباء ترك تأثيره على استمرار انتاج الأفلام، كما أن تأخير عرض الأفلام الأمريكية أدى الى غياب هوليوود تماما عن فينيسيا، كما غابت نتفليكس التي سبق أن شاركت بأفلام مهمة ربما يكون أشهرها “روما” حائز “الأسد الذهبي” قبل عامين. لكن السؤال هو: هل نجح المهرجان في الحصول على عدد كبير من الأفلام الجيدة؟ الإجابة ليست في صالح المهرجان، فكثير من الأفلام داخل المسابقة الرسمية التي تعتبر الأهم، أو الخلاصة التي نتجت عن فرز ومشاهدة مئات الأفلام، جاءت أفلاما ضعيفة المستوى ولا تثير الحماس، ومقصود من إدراجها في المسابقة التنويع فقط وليس ضمان المستوى، كما أن الأفلام الإيطالية بوجه عام خيبت الآمال (باستثناء فيلم “مس ماركس”)، وكذلك الفيلم الفرنسي “العشاق” لنيكول جارسيا، والفيلم الإسرائيلي “ليلى في حيفا” لآموس غيتاي الذي لم يكن يستحق المشاركة في المسابقة أصلا ولكنه شارك بسبب علاقة الصداقة بين المدير الفني البرتو باربيرا ومخرجه، رغم ضعفه وارتباكه وتفككه الشديد بل وعدم وضوح موضوعه، وكذلك كان الفيلم الإيراني “أطفال الشمس” لمجيد مجيدي الذي لم يضف أي جديد على أي مستوى، بل يكرر ما سبق أن شاهدناه في تلك النوعية من “أفلام الأطفال” البؤساء، على غرار فيلم المخرج أمير ناديري الأول “العداء” الذي كان عبارة عن “طفل يجري” أما هنا ففيلم مجيدي هو عن “طفل يحفر”. وعلى أي حال، فقد هاجر ناديري الى أمريكا هربا من النظام القائم في إيران بينما استمر مجيدي يوظف مواهبه في خدمة النظام وأيديولوجيته مع بعض “المداعبة النقدية” الخفيفة، بغرض اكتساب المصداقية التي تكفل له التواجد في مهرجانات السينما الدولية!
أفضل أفلام المسابقة، أولها دون أي مقارنة مع غيرهن الفيلم الروسي الكبير “الرفاق الأعزاء” للمخرج المرموق أندريه كونتشالوفسكي (سبق تناوله على هذا الموقع في رسالة سابقة)، يليه مباشرة الفيلم المكسيكي “النظام الجديد” للمخرج الشاب الموهوب مايكل فرانكو (سبق تناوله أيضا)، ثم الفيلم الألماني “لن يهطل الثلج مجددا”.
إعلان الجوائز لم يحمل أي مفاجأة، فمنذ ما قبل افتتاح المهرجان، وهناك حملة قوية في الصحافة وأجهزة الإعلام الأمريكية خاصة تلك المتخصصة في الترويج السينمائي مثل فاريتي وسكرين انترناشيونال وهوليوود ريبورتر، لدعم الفيلم الأمريكي من الإنتاج المستقل “أرض البدو الرحل” Nomadland للمخرجة الأمريكية من أصول صينية “كلوي جاو” الذي قامت ببطولته الممثلة فرانسيس ماكدورماند. وقد بدا كما لو أن موضوع “الأسد الذهبي” محسوم من البداية لصالح هذا الفيلم الفقير فنيا، والمثير عاطفيا. وقد منحت لجنة التحكيم التي رأستها الممثلة الأسترالية كيت بلانشيت كما كان متوقعا، ذلك الفيلم “الأسد الذهبي”.
لا يدور “نومادلاند” في أرض البدو الرحل، بل في الغرب الأمريكي قرب نبراسكا، في منطقة قاحلة مغطاة بالثلوج في فصل الشتاء. الشخصية الرئيسية هي لامرأة في الستينات من عمرها هي “فيرن” (ماكدورماند) قررت بعد انهيار الشركة التي كانت تعمل لديها، في غمرة التدهور الاقتصادي ثم وفاة زوجها، أن تستقل عن المجتمع الحضري التقليدي، وأن تهيم على وجهها في تلك “الصحراء”، تقيم داخل شاحنتها الصغيرة، تنتقل من بلدة إلى أخرى، تمتهن أعمالا يدوية صغيرة مثل تنظيف دورات المياه، أو تحميل البضائع، وغير ذلك، تعتمد على ساعديها لكسب عيشها، تقابل الكثير من تلك الشخصيات المماثلة لها التي تمردت وهجرت حياة المدينة، وتدور بينها وبينهم حوارات كثيرة لا تتوقف، ونكتشف في النهاية أن جانبا مهما من شخصية هذه المرأة يكمن في حزنها الشديد وشعورها بالوحدة بعد وفاة زوجها، ورغبتها في العثور على قيمة ما في الحياة بعيدا عن الانغماس في المجتمع الاستهلاكي بعد ان أصبحت عاجزة عن العيش في منزل أو مزاولة العمل المنتظم.
تغيب الدراما تماما عن هذا الفيلم أو الحبكة، أو المفاجآت أو الالتواءات في السرد، فيظل السرد مستمرا في خط أفقي في تكرار مثير للملل، لتجربة البطلة مع تكرار الحوارات العقيمة، وتكرار ظهور الشخصيات (معظمها لأشخاص حقيقيين يهيمون خارج المدن) ويجب أن أضيف الى ذلك، أن شخصية الممثلة فرانسيس ماكدورماند بل وملامحها الجافة الخشنة، لم تساهم في إضفاء الجانب الإنساني على تلك الشخصية، ولم تنجح في تقريبنا منها، ومن محنتها، فقد بدت مثل أي شخصية عملية عنيدة جامدة، لا توحي أبدا بمشكلة “وجودية” أو أزمة داخلية، ونحن لا نتعرف على سر أزمتها سوى في النهاية ومن خلال الحوار.
هناك تصوير متكرر للمناظر الطبيعية والبيئة المكسوة المغطاة بالثلوج، وجولات “فيرن” بشاحنتها الصغيرة التي تتعطل وتقتضي الإصلاح لكنها لا تملك المال المطلوب لإصلاحها، فتذهب الى شقيقتها التي تقيم كأي امرأة (طبيعية) في منزل بالمدينة، لتقترض منها المبلغ، إلا أنها ترفض عرضها الإقامة معها، ثم تلتقي برجل مثلها، نستمع على لسانه لحكمة بليغة خلاصتها أنه منذ وفاة ابنه الشاب، قرر أن أفضل وسيلة لتكريمه هي أن يذهب ويقدم المساعدة للآخرين أي أن يعمل من دون مقابل في أي عمل يمكن أن يفيد الآخرين.
الفيلم يعاني من التكرار والترهل في الإيقاع، وبقاء مستوى الأداء عند نغمة واحدة لا تتكرر، مع التركيز في لقطات قريبة- كلوز أب- على ملامح وجه ماكدورماند المتغضنة وعينيها الحزينتين ورغم ذاك إصرارها على المضي قدما في ذلك الاختيار الممتد.
استقبل فوز هذا الفيلم بالجائزة الذهبية في فينيسيا، أول “انتصار” لمخرجة منذ فوز صوفيا كوبولا في نفس المهرجان بـ “الأسد الذهبي” عن فيلمها “في مكان ما” Somewhere عام 2010، كما أنه أول فوز لمخرجة من أصول (غير بيضاء) منذ حصول الهندية ميرا ناير على الجائزة عام 2001 عن “زفاف مانسون” Mansoon Wedding.
شاركت 8 مخرجات في مسابقة فينيسيا، وكان متوقعا في ظل الحملة القوية من أجل المساواة، ذهاب الأسد الذهبي الى فيلم من اخراج امرأة. وهو ما حدث. ومن المتوقع أن يعزز هذا الفوز في فينيسيا من فرص ترشيح الفيلم لجوائز الأوسكار. فهذا هو اتجاه “الصناعة” في الوقت الحالي!
الجائزة الكبرى للجنة التحكيم كان محتما أن تذهب الى الفيلم المكسيكي “النظام الجديد” أحد أفضل الأفلام في المهرجان كله، وهو دراما قوية عن الفساد في المكسيك من خلال “ديستوبيا” أو رؤية كابوسية متخيلة تدور في المستقبل القريب.
أما جائزة الأسد الفضي لأحسن اخراج فنالها للمخرج الياباني كيوشي كيروساوا عن فيلمه “زوجة الجاسوس”.
ومنحت اللجنة فيلم كونتشالوفسكي العظيم جائزة لجنة التحكيم الخاصة، كما منحت جائزة أحسن ممثلة للبريطانية المتألقة “فانيسا كيربي” التي أدت دورا صعبا في الفيلم الأمريكي “أشلاء امرأة”، كما كان حضورها كبيرا في الفيلم الأمريكي الثالث في المسابقة وهو فيلم “العالم القادم” للمخرجة (الفنلندية) مونا فيسفولد. وكانت كيربي قد لفتت الأنظار الى موهبتها الكبيرة في المسلسل التليفزيوني الطويل “التاج” The Crown في دور الأميرة مرجريت في مرحلة شبابها، وتعتبر دون شك الموهبة القادمة في السينما البريطانية الي ستفرض نفسها بقوة.
أما جائزة أحسن ممثل فنالها الإيطالي بييرفرانكو فافينو عن دوره في الفيلم الإيطالي “ Padrenostro“، وحصل الفيلم الهندي “الحواري” على جائزة أفضل سيناريو، وهو من نوع الدراما الموسيقية، كما نال الفيلم أيضا جائزة النقاد الدوليين (فيبريسي). وكان الأجدر أن تذهب جائزة السيناريو الى الفيلم الإيطالي “مس ماركس” الذي يروي للمرة الأولى ببراعة، قصة حياة ابنة كارل ماركس، التي انتهت بالانتحار.
جائزة أفضل ممثل شاب ذهبت الى الإيراني روح الله زماني بطل فيلم “أطفال الشمس” لمجيد مجيدي. وهي جائزة يستحقها الممثل الصغير الذي بذل جهدا هائلا في هذا الفيلم.
لجنة تحكيم مسابقة “آفاق” التي رأستها المخرجة الفرنسية كلير دينيس، منحت جائزة أفضل فيلم للفيلم الإيراني “أرض الخراب” للمخرج الشاب أحمد بهرامي (وهو عمل أقرب الى التجريبي وقد سبق أن كتبنا عنه على هذا الموقع)، كما منحت جائزة أفضل اخراج للمخرج الفليبيني لاف دياز صاحب الأفلام الطويلة التي لا أشاهدها ولا يمكنني تحملها في مهرجان دولي خاصة بإيقاعها المعروف وهو ولع خاص بالإطالة لا أجدها أصلا تعكس توجها “أصيلا”. وهذا رأي شخصي بالطبع.
عل المستوى العربي فازت الممثلة خنساء بطمة بجائزة أفضل ممثلة عن دورها في الفيلم المغربي “زنقة كونتاكت” للمخرج الشاب إسماعيل العراقي، وفاز الممثل السوري يحيى محياني بجائزة أفضل ممثل عن دوره في فيلم المخرجة التونسية كوثر بن هنية “الرجل الذي باع جلده” (نشرنا عنه في هذا الموقع).
هكذا أسدل الستار على دورة صعبة شهدت غياب الكثيرين، سواء من السينمائيين أو النقاد الذين ارتبطوا بهذا الحدث السنوي الكبير عبر عقود. ولعل في مقدمة الغائبين مخرجة الفيلم الأمريكي حائز “الأسد الذهبي”- كلوي جاو، وبطلتها فرانسيس ماكدورماند، اللتين وجهتا كلمة شكر للجنة التحكيم والمهرجان عبر الانترنت.