“وتر حساس”.. دراما مصرية بنكهة تركية
د. ماهر عبد المحسن
بعد ماراثون طويل استغرق خمسا وأربعين حلقة انتهى مسلسل “وتر حساس” بحكم قضائي، انتظره المشاهدون طويلا، بسجن رغدة (هايدي كرم) ثلاث سنوات، وسجن كاميليا (إنجي المقدم) سبع سنوات، وسجن مازن (أحمد جمال سعيد) لخمس وعشرين سنة مشددة في جريمة مقتل ليلى (جنا الأشقر).
والجريمة ليست هي الموضوع الأساسي للمسلسل الذي بدأ رومانسيا، ثم تحول إلى دراما اجتماعية، ثم إلى حبكة بوليسية استمرت حتى النهاية. وفي كل المراحل كان كيد النساء هو الوقود المحرك والدافع إلى الأحداث من خلال الصراع بين الصديقات كاميليا وسلمى (صبا مبارك) ورغدة، وكان محوره رجل الأعمال رشيد (محمد علاء) الذي ساءت علاقته الزوجية بالأولى وقرر أن يتزوج بالثانية في حين حاولت الثالثة الاستفادة من الصراع بينهما.
يرمز عنوان المسلسل “وتر حساس”، الذي أخرجه وائل فرج، إلى دقة العلاقات الإنسانية التي بين شخصيات العمل وتهافتها في الآن نفسه. يؤكد هذا المعنى التتر الذي يصور ألة كمان مقطوعة الوتر، وهي الآلة التي اعتمد عليها تامر كروان في موسيقا العمل لتأكيد حالة الانفصال بين الشخصيات، وللحفاظ على إيقاع الأحداث الذي شابه الاضطراب بسبب الأداء الذي غلب عليه الانفعال لدى معظم الممثلين خاصة صبا مبارك، وبسبب وجهات النظر المختلفة لمؤلفي العمل أمين جمال ومينا بباوي. وهي سمة تكررت كثيرا في الأعمال التي يكتبها أكثر من مؤلف كما حدث في مسلسل “بدون سابق إنذار” ومسلسل “موعد مع الماضي”.
تقوم دراما المسلسل على عمليتي الهدم والبناء للعلاقات التي بين الشخصيات بحيث تنقطع علاقات وتتصل أخرى بديلة، وفي سياق هذا الجدل تظهر شخصيات وتختفي شخصيات، ولا يبقى سوى الصراع الذي يفتقر إلى منطق درامي مقنع للاستمرار سوى كيد النساء ورغبة صناع العمل في إطالة عمر المسلسل حتى يصل إلى الحلقة الخامسة والأربعين!
والحقيقة أنها مسألة تتعارض والاتجاه العام نحو تقليص عدد الحلقات الدرامية، والعمل على تكثيف الأحداث وتسريع الإيقاع، خاصة في ظل انتشار منصات العرض الدرامي، التي قدمت مؤخرا أعمالا ناجحة استحوذت على اهتمام المشاهدين. لكن بالرغم من المط والتطويل، لا يمكننا إنكار أن “وتر حساس” حظي بنسبة مشاهدة عالية. والسبب، في نظرنا، لا يرجع إلى سمات مميزة في العمل بقدر ما يرجع إلى التغطية الإعلامية المبالغ فيها، وطبيعة الموضوع الذي يمكن أن يثير النميمة بين قطاع عريض من النساء.
وضح منذ البداية أن صناع المسلسل يرغبون في تقديم عمل يحاكي الدراما التركية، شكلا ومضمونا. فلا يجد المشاهد صعوبة في إدراك هذه الحقيقة من خلال ملاحظة الملابس وأماكن التصوير والأخلاقيات المتحررة التي تحكم العلاقات بين الشخصيات. يؤكد هذا المعنى كادرات التصوير التي لم تغادر “الكومباود” الذي يضم صفوة المجتمع، والحرص على إبراز ديكورات مبهرة تعكس نمط خاص من الحياة الأرستقراطية التي تعيشها معظم شخصيات المسلسل. والشيء نفسه يمكن أن يُقال عن الملابس ذات الأناقة والسيارات الفارهة وأماكن العمل ذات الطبيعة الخاصة مثل مكتب المحاماة والمركز الطبي والملهى الليلي.
عمليات التجميل التي طالت معظم الممثلات جعلت الشخصيات متشابهة بحيث صعب على المشاهد التمييز بينهن في الحلقات الأولى من المسلسل، وبهذا المعنى لم تكن هناك مباراة حقيقية في التمثيل بقدر ما كانت هناك مباراة في استعراض الملابس والمكياج، والأداء الزاعق، المبالغ فيه.
لم يسلم من الوتيرة الانفعالية التي سادت المسلسل سوى أداء محمد علاء الذي جاء هادئا جدا، ربما أكثر من اللازم، في معظم المشاهد، وأداء تميم عبده ولطيفة فهمي اللذان نجحا، بحكم الخبرة، في تقديم أداء متوازنا بين الهدوء والانفعال، كما نجح أحمد جمال سعيد في أداء دور الشاب المستهتر في النصف الأول من المسلسل، لكنه لم يكن موفقا في تجسيد التحولات النفسية التي طرأت على الشخصية بعد أن أساءت بتصرفاتها غير المسؤولة للجميع، وانتهت إلى ارتكاب جريمة قتل ندمت بعدها على كل أفعالها السيئة وأرادت التكفير عنها.
اعتمد المسلسل كثيرا على “السوشيال ميديا” في تأجيج الصراع الدرامي بين الشخصيات من خلال الرسائل ومقاطع الفيديو التي ساهمت، بنحو مباشر، في تغيير دفة الأحداث. ربما يكون مقبولا استخدام تكنولوجيا التواصل الاجتماعي من قبل النساء في صراعهن العاطفي حول الرجال، لكن من غير المقبول أن تتحول الحياة برمتها، كما صورها المسلسل، إلى محض عالم افتراضي خبيث ترصد فيه الشخصيات حركات بعضها البعض بالتسجيل والتصوير من أجل السيطرة وتحقيق انتصارات فردية.
غياب الرؤية الواحدة، والخط الدرامي الواضح للمسلسل أدى بالسيناريو، الذي شارك فيه أكثر من كاتب، إلى افتعال تصرفات ومواقف جديدة في كل حلقة من أجل دفع الأحداث إلى الأمام كلما فقدت القدرة على التقدم ذاتيا في ظل غياب حبكة محكمة مرسومة مسبقا! وبهذا المعنى، على المشاهد ألا يشعر بالدهشة إذا اكتشفت كاميليا فجأة، دون ضرورة درامية، أن رشيد يحمل بطاقة هوية مزورة، أو أن تعتقد عائلة سلمى خطأ أن زوجها حسن مات حزنا وكمدا عندما اكتشف خيانتها له، أو أن يقتل مازن زوجته ليلى في جريمة شرف تكشف الأحداث بعدها أنها ليست كذلك!
وفي كل الأحوال على المشاهد أن يؤمن بقدرات كاميليا الشريرة الخارقة، بحيث يرجع إليها السبب في تحريك كل الأحداث الكارثية التي تدور حولها لمجرد غيرتها النسائية على زوجها ورغبتها المميتة في الحفاظ عليه خشية أن تخطفه امرأة أخرى!
في سياق المحاكاة الفجة للدراما التركية ينقل صناع العمل الأخلاقيات العلمانية الجاهزة إلى التربة المصرية بنحو إرغامي بحيث يقبل المشاهد نمط شاذ من الصداقة يسمح للرجل بأن يلتقي بامرأة غريبة في غرفة النوم لمناقشة قضاياهما النفسية والاجتماعية!
قد تحتاج الدراما إلى مقاربة جمالية تكشف عن الأبعاد الفنية للعمل، غير أن اتجاه كثير من الأعمال الدرامية، في الآونة الأخيرة، لتمرير رسائل أخلاقية تخالف العادات والتقاليد السائدة في المجتمع، من شأنه أن يدفع الناقد إلى أن يضع أدواته الفنية جانبا، وأن يتبنى رؤية، أقرب للنقد الثقافي، تمكنه من أن يقرأ ما بين السطور. أو بلغة المسلسل أن يمتلك من الحس الاجتماعي والأخلاقي ما يتجاوز الحساسية الفنية للعمل.