هتلر يعود ويتحالف مع حزب الخضر الألماني
ألمانيا مازالت على استعداد لقبول هتلر وتصعيده زعيما
على المستوى الأولي يمكن اعتبار الفيلم الألماني “أنظر من الذي عاد” (2015) للمخرج ديفيد فندنت، عملا خياليا كوميديا يمتليء بالسخرية والتعليق السياسي. ولكن على مستوى آخر، يجد المشاهد أن السخرية والإضحاك عنصران يمرر من خلالهما الفيلم، رسالة خطيرة مؤداها أن ألمانيا التي رحبت بهتلر وصنعت منه زعيما مطلقا عام 1933، لم تتغير كثيرا اليوم عما كانت.
فيلم “أنظر من الذي عاد” مقتبس عن رواية للكاتب تيمور فيرمس، حققت نجاحا كبيرا في أسواق التوزيع، فقد باعت أكثر من 2 مليون نسخة في ألمانيا فقط، وتترجم حاليا الى نجو أربعين لغة أخرىى بل ويتم حاليا أيضا اقتباسها في فيلم إيطالي ولكن بعد استبدال شخصية هتلر بالزعيم الفاشي الإيطالي موسوليني.
تعتمد الرواية- والفيلم بالتالي- على فرضية أن هتلر الذي يقال إنه انتحر داخل ملجأه الواقع تحت أرض حديقة مبنى المستشارية في وسط برلين عام 1945، قد عاد إلى الحياة اليوم، سليما معافى، لم يتأثر بالسم ولا بالحرق، بل هو مازال يرتدي بزته العسكرية الشهيرة وإن كانت تفوح منها رائحة الزمن. وهو يتطلع بدهشة إلى ما وقع في ألمانيا من متغيرات، يندهش أولا من أن لا أحد يوجه إليه التحية النازية كما اعتاد فهو ما زال “الفوهرر”.
يعود هتلر الحقيقي إلى الحياة بنفس أفكاره العنصرية المتطرفة القديمة ليرى كيف أصبحت ألمانيا مجتمعا متعدد الثقافات والأعراق، يندهش أولا من الوجود الكبير للأتراك في برلين، فيعزو هذا إلى احتمال أن تكون الامبراطورية العثمانية قد انتصرت على ألمانيا في الحرب، رغم أن تركيا لم تشارك أصلا في الحرب العالمية الثانية. وهو خطأ مقصود في الفيلم ليوحي باختلاط الأمور على هتلر ما بين الحرب الأولى والحرب الثانية، في مزيج من السخرية السوداء والإضحاك الذي يصل إلى ما يعرف في الدراما بـ الفارص” الذي يعتمد أساسا على الملامح الكاريكاتورية في رسم الشخصيات والمبالغة في رسم المواقف.
بعد أن ينهض من موقع الملجأ القديم يجد هتلر نفسه في منطقة سكنية وسط برلين، وسط مجموعة من الأطفال يلعبون الكرة، يخاطبهم فلا يتعرفون عليه ويعتقدون أنه رجل مختل، وسيشعر هو بالغربة عن المحيط من حوله، ويستغرب أن لا أحد يأخذه على محمل الجد فالجميع يعتقدون أنه مجرد ممثل. ومن هذا التناقض، بين حقيقة أن هتلر هو هتلر الحقيقي الذي عاد إلى الحياة، دو أن نعرف كيف، وبيم اعتقاد الجميع أنه مجرد ممثل أو شخص يتنكر في ملابس “الفوهرر” على سبيل الدعابة، تسير الحبكة إلى الأمام، دون تطور كبير، من خلال المزج بين الأسلوب التمثيلي الساخر اعتمادا على براعة الممثل الذي يقوم بدور هتلر، الألماني (من أصل إيطالي) أوليفر ماسوتشي، وبين الأسلوب التسجيلي (أو بالأحرى، الإيهام بالطابع التسجيلي) الذي يعتمد على مقابلات حية مباشرة بالكاميرا مع عدد من الأشخاص في المدن الألمانية المختلفة، يلتقي بهم هتلر ليتعرف منهم على آرائهم في الأوضاع السياسية والاجتماعية الحالية في ألمانيا.
غير أن الأمر يتطور ليعثر هتلر على وظيفة ممثل في قناة تليفزيونية كانت تواجه أزمة مالية ضخمة مما جعلها مهددة بالتوقف، لكي يظهر في برامجها صباحا ومساء، يضحك الجمهور الذي يراه مجرد ممثل يجيد تقليد هتلر، بينما يعتقد هتلر (الحقيقي) أنه يستغل هذا الاختراع الجديد الذي أبدى إعجابه الشديد به، أي التليفزيون، في مخاطبة الشعب الألماني بطريقة معدلة والدعوة لأفكاره النازية.
الممثل الكوميدي
في البداية يقوم مراسل تليفزيوني يعمل لحساب هذه القناة، بتصوير مجموعة من الأطفال يعلبون الكرة، ويلتقط دون أن يدري لقطات لهتلر وهو ينهض من قبره، هذا المراسل الفاشل سيفقد عمله بسبب تفاهة ما يصوره، ولكن بعد أن يكتشف وجود تلك الشخصية الغريبة في شريطه المصور، يبحث عن تلك الشخصية الغريبة، وينجح في إقناع مديرة الانتاج في القناة بالتعاقد معه كممثل كوميدي، ويكون هتلر قد اطلع خلال الفترة التي قضاها عند بائع صحف ساذج، على الأوضاع السياسية في ألمانيا من خلال مطالعة الصحف والمجلات، ويقرر بالتالي العودة إلى مخاطبة الجماهير مستغلا التكنولوجيا الحديثة، لإعادة تكوين الحزب وبدء مسيرته مجددا. وسنرى أيضا هتلر مذهولا أمام التكنولوجيا الحديثة للكومبيوتر، ثم سيتعلم أيضا الدخول إلى شبكة الانترنت.
ينجح استخدام هتلر تجاريا في البرامج التليفزيونية، بعد أن نجح في إضحاك الملايين، هنا يقول لنا الفيلم إن الألمان لم يعودوا يبالون بظهور شخصية تشبه هتلر في الإعلام العام، وهو ما كان من المحرمات حتى عهد قريب، ولكن الأهم أنهم لا يختلفون في آرائهم كثيرا عن آراء هتلر العنصرية فيما يتعلق بقضية المهاجرين الأجانب في ألمانيا، ونقده الشديد للسياسات الاقتصادية التي أدت إلى تفشي البطالة في أوساط كبار السن، وتقلص قدرة النساء على الإنجاب، وهي فكرة التي تصل قرب نهاية الفيلم إلى حد الخطاب المباشر. فالقناة التليفزيونية تدخل شريكا في انتاج فيلم سينمائي تستخدم فيه شخصية هتلر، ويقوم ممثل آخر بدور المراسل التليفزيوني الذي اكتشفه، ولكن بالطبع باعتباره مجرد ممثل وليس هتلر الحقيقي، وعندما يواجهه المراسل بفظاعة ما ارتكبه في الماضي ثم يطلق عليه الرصاص ليسقط من أعلى سطح بناية في برلين، سرعان ما نكتشف أولا أن هاذ مجرد مشهد من الفيلم، وأن هتلر يعود ليلقي “مونولوغا” يؤكد فيه للمراسل (وللجمهور بالطبع) أنه ليس من الممكن أن يموت، لأن أفكاره باقية مستقرة داخل عقول الناس الألماني، وكأن الفيلم يقول لنا إن الفكر العنصري النازي مستقر داخل لشخصية الألمانية، يخبو وينهض حسب الظروف، وأنه في أوجه الآن مع اتساع نطاق أزمة اللاجئين. ويختتم الفيلم بلقطات تسجيلية من المسيرات الغاضبة التي نظمها اليمين المتطرف في ألمانيا ضد المهاجرين، مع الشعارات المعادية للمسلمين التي انتشرت في الفترة الأخيرة.
استثمار هتلر
هتلر الجديد- المستعاد، الذي يعتقد العاملون في القناة التليفزيونية أنه مجرد ممثل، لا يمانعون في استثماره تجاريا في البرامج والأفلام، حتى بعد أن يعرفوا أنه “هتلر” الحقيقي، وأنه يقصد كل ما يتحدث عنه بالفعل، فالمهم هو تحقيق النجاح التجاري بأي ثمن، والطريف أيضا أن هتلر الذي يوجه انتقادات تسخر من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وكل أحزاب اليمين، بل ويجعله الفيلم أيضا، يصبح ضحية للنازيين الجدد الذي يتهمونه بأنه طعن ألمانيا في الظهر، يعلن أن الحزب الوحيد في ألمانيا الذي يصلح لأن يتحالف معه هو حزب الخضر، لأن “البيئة الطبيعية الألمانية في حاجة لأن نحافظ عليها”!
ورغم الكثير من السخرية التي يوجهها الفيلم إلى هتلر وما يعبر عنه ومن العنصرية الألمانية حينما يجعل أغلبية من يظهرون للتعليق على ظهور هتلر وأفكاره، من اليمنيين الذين يتمنون عودة ألمانيا القوية مرة أخرى، ويتفقون معه في انتقاد ما يقدمه التليفزيون من برامج يعتبرها مجرد تفاهات فارغة (دون أن يتهم اليهود بالوقوف خلفها وهو ما كان منطقيا في السياق، فالفيلم يمتنع تماما عن التعرض للمسألة اليهودية بالسخرية، بل نرى مديرة القناة التليفزيونية التي يقبل هتلر الظهور فيها، تقول له كشرط من شروط التعاقد معه: “دعنا نتفق من البداية على أن موضوع اليهود خارج مجال السخرية” ويوافقها هو على ذلك. فقد أراد صناع الفيلم تجنب إثارة غضب الجماعات اليهودية التي تعتبر أي إشارة إلى اليهود سياق خيالي فني ساخر تظهر فيه شخصية هتلر”إهانة لأرواح ضحايا الهولوكوست”، وهي التهمة التي يعاقب عليها القانون الألماني!
عن الإخراج
يستخدم المخرج بعض اللقطات التسجيلية القديمة، ويشير بطريقة عابرة إلى إعجاب هتلر بأفلام المخرجة ليني ريفنشتال التي عملت في الدعاية النازية لكن أفلامها أصبحت من كلاسيكيات السينما الفنية الرفيعة، مقارنة مع ما يقدم من برامج وأفلام رديئة حاليا، كما يستخدم المخرج كثيرا الحركة السريعة، والمونتاج الذي يمزج بين اللقطات في مشاهد فونومونتاج مصحوبة بموسيقى سريعة الإيقاع، وبين الصور والرسوم وأعمال الجرافيكس، كما يستخدم الموسيقى التي اشتهرت بها بعض أفلام شارلي شابلن الكوميدية الشهيرة، أو الموسيقى الكلاسيكية.
يعاني الفيلم من التفكك في بنيته الدرامية، أي في السياق السردي، فهو يستند أساسا إلى شخصية المراسل التليفزيوني الفاشل الذي يتشبث بفكرة اكتشاف هتلر، وينجح في استعادة وظيفته بفضل هذا الاكتشاف، لكنه يعتقد أنه أمام ممثل غريب الأطوار يجيد محاكاة هتلر في صوته وأسلوبه وفظاظته وجموده وتعصبه، لكن الفيلم يجعل هتلر أيضا ينفجر أحيانا في الضحك خاصة عندما يقول له صاحبنا ذات مرة إنه من الأجدر به أن يعيد كتابة كتابه الشهير “كفاحي” ليجعله “كفاحي مع زوجتي”. ولكن هذا الخيط الواهي لا يصمد طويلا، وسرعان ما يصبح أساس الفيلم هو كيف يعيد هتلر اكتشاف الشعب الألماني، ليجد أنه لا يزال مستعدا لتبني أفكاره المتطرفة.
وفي مشهد مفتعل يعاني من سوء التمثيل والإيقاع الهابط يصنع الفيلم مواجهة بين هتلر، وامرأة يهودية عجوز يفترض أنها من الجيل الذي عاصر هتلر، وهي الوحيدة التي تتعرف عليه باعتباره هتلر الحقيقي فتنفعل انفعالا شديدا، وتطرده خارج بيتها. ولكن هتلر يبدو في كثير مشاهد الفيلم، أكثر وعيا من السياسيين الألمان، وأكثر قدرة على التعبير عما يكمن داخل الألمان من رغبة في استعادة الدور الالماني الغائب. وهي إشكالية حقيقية تجعل الفيلم يخرج عن مجال السخرية بل يبدو كما لو كان يستخدم السخرية غطاء لتمرير رسالة أخرى غاضبة تتضمن احتجاجا على الوضع الألماني الحالي، ويتلاعب بالمادة بحيث يبدو حينا كما لو كان ينتقد التعصب الألماني، خصوصا كراهية الأجانب، والمسلمين بوجه خاص، وتارة أخرى كما لو كان يلتمس العذر للألمان ويعزو سبب تفشي الأفكار المتطرفة إلى فشل السياسيين الألمان منذ نهاية الحرب في إرساء ديمقراطية حقيقية.
إسم الفيلم
Look Who’s Back