نظرة أخرى على “فيلا 69”: الجمال مع تعاقب الزمن
عد استبعاد ما دار مؤخرا من جدل حول الممثل خالد أبو النجا وهو جدل بعيد عن تمثيله، يمكن القول إن خالد ليس من نجوم الصف الأول، ولا يمكن اعتباره ممثلا عبقرياً يستطيع تلوين نفسه طبقاً لمتطلبات الأدوار المختلفة والمركبة أحياناً التي يؤديها. إلا أن خالد هو أيضاً من أكثر الفنانين المجددين في الوسط الفني حالياً، وهو يحاول أن يكون طرفاً في صناعة السينما المغايرة حتى ولو من وراء الكواليس.
في جميع الأعمال التي قدمها خالد تقريباً، كانت طريقة أدائه واحدة، ونبرة صوته واحدة، وهذه ربما تعتبر من أكبر مشكلات أبو النجا، فالممثل ليس وجهاً وتعبيراً ولغة جسدية فقط، الممثل من المفترض أن يكون طاقة إبداعية متجسدة، قماشة جاهزة للتشكل والتغير طبقاً لما تقتضيه ظروف أي عمل يشترك فيه أو يتحمل عبء حمله على كتفيه. والصوت أداة هامة من أدوات الممثل، بل لا أبالغ إذا قلت إنها أهم أداة بعد لغة الجسد، وليس الشكل الخارجي في الشخصية والتي يرجع الفضل في النجاح في اتقانها لا للممثل فقط بل أيضاً للمخرج وللماكيير.
دراما المكان والجسد
كانت هذه المقدمة ضرورية بعد مشاهدة دراما المكان عالية المستوى في فيلم “فيلا 69” الذي أبدعت أيتن أمين في إخراجه كحالة سينمائية ناعمة وهادئة، مريحة للعين، رغم ما تمثله من احساس بالاختناق داخل المكان أو ما يعرف بـ “كلوستروفوبيا”.
دراما المكان ربما من أصعب ما يمكن تقديمه على الشاشة العربية، وذلك لأن توحد المشاهد مع المكان جزء أساسي من ضرورة نجاح العمل، وقد لا نبالغ إذا قلنا إن لامبالاة المشاهد بالمكان الذي تدور حوله الأحداث أو تنبثق منه، قد تؤدي إلى انهيار العمل بأكمله.
نجحت أيتن أمين، يداً بيد مع حسام شاهين مدير التصوير، في توصيل حالة بديعة من الاحساس بالانعزال والانعتاق في آن. فحسين، الشخصية الرئيسية في الفيلم، التي يؤديها أبو النجا، حبيس فيلته العتيقة باختياره. نزيل اختياري في سجن الجسد والحوائط. وكما هي قديمة متداعية، تغطي خيوط العنكبوت جدرانها وأركانها، يبدو جسده بالياً يتآكل، مثل حذاء قديم يبلى ويتقشر.
وعلى الرغم من تداعي جسد حسين وفيلته، إلا أن روحه سليطة اللسان العدائية الحنون المتجمدة هي هي، لم تتأثر بالكبر ولا بمرور الزمن. لوهلة ما، يبدو الزمن متوقفاً في فيلا حسين، حتى “تطب” عليه أخته نادرة، التي هي على العكس منه، مفعمة بالحياة روحاً وجسداً رغم كبرها سناً عنه. “نادرة” مازالت امرأة مفعمة بالحيوية والرغبة في الشباب، وباستخدام تفاصيل أنثوية بديعة مثل كريمات شد التجاعيد ومجفف الشعر “السشوار” والماكياج الهادئ، نجد أمامنا شخصية في مثل قوة حسين، وربما أقوى، لكنها قوة المرأة الناعمة الذكية، التي لا تضع نفسها في موقع الهجوم، بل تتسلل بنعومة ثم تلقي بهدفها في المرمى مفاجئة لطرف النزاع الآخر، متحملة ثورته بهدوء.
عن الأداء
على عكس أبو النجا، أبدعت لبلبة في أداء شخصية نادرة. لبلبة بالطبع لها تاريخ فني أطول وأعرق، وقد غيرت جلدها بين أكثر من عمل فني، رغم اهتمامها بالفيلم الكوميدي بوجه خاص، إلا أنها حاولت التمرد على نمط الفتاة الاستعراضية خفيفة الظل في أكثر من موضع، نذكر منا “ليلة ساخنة” و”ضد الحكومة” و”الآخر” و”إسكندرية.. نيويورك” وغيرها من الأفلام. برعت لبلبة في أداء شخصية “نادرة”، التي كان من الممكن أن تمر مرور الكرام لولا إضافة لبلبة لها من روحها وفهمها لتفاصيل الشخصية الدقيقة.
الممثلون الثانويون تنوعت أدوارهم ما بين الأداء العالي والعادي، الذي يمر مرور الكرام، البديع في اختيارات أيتن أمين، هو ملائمة كل الشخصيات للمكان، حتى تبدو الشخصيات وكأنها انصهرت داخل الفيلا وأصبحت جزءاً من أجزائها. فالمكان وحسين لا بد وأن يصبحا سوياً أهم ما في الكادر، حتى مع غياب حسين، لا بد وأن يكون موجوداً بروحه التي احتلت المكان فأصبح هو والمكان شيئا واحداً. نجحت أيتن ايضا في الإمساك بخيوط الشخصيات مثل محرك دمى ماهر، وبدا من الواضح في مشاهد نادرة مع حسين أو في المنزل، أن نادرة هي الوحيدة القادرة على تحدي سيطرة المكان /حسين على الموجودات، فمثلت قوة مساوية في القدر، وإن لم تحاول ربط نفسها كما فعل حسين.
شخصية حسين سليطة اللسان، هي شخصية ربما تبذل قصارى جهدها لتنفير الناس منها، شخصية ربما ليس بطبعها العدائية والبذاءة وتحدي اللياقة الاجتماعية، لكنها تفعل هذا لطرد البشر من دائرتها، فتبذل ما بوسعها لقطع أي قُطر يتم بناؤه بينها وبين الآخرين، لكن روح حسين الحقيقية التي احتلت المكان بقدر ما احتلها، هي روح نقية عذبة، تجذب البشر كما يجذبونها، تحنو على القطط، وتستقبل حفيد أختها وفرقته للتدريب في المنزل، في محبسها الاختياري، الذي ورغم امتلائه بالبشر فجأة إلا أنه يظل يغلف حسين بهالة من الانعزالية والذاتية.
أروى جودة، ممثلة جميلة وأداؤها التمثيلي هادئ، بعيد عن الافتعال والضجيج، إلا أنها هنا لم تؤثر في بنيان القصة ولم يكن لدورها أهمية تذكر، على عكس المخرجة هبة يسري التي أضافت لدور هناء أبعادا أخرى رغم قلة تجاربها التمثيلية، مما أعطى له أهمية تفوق مساحته بكثير.
في الختام، “فيلا 69” فيلم جيد بصرياً وسردياً، عيوبه أقل كثيرا من مميزاته، ويبقى السؤال؛ أيهما أكثر موتاً: جسد حسين أم جسد أولئك الذين من حوله ويحسبون على الأصحاء؟