“عناق الأفعى” تحفة سينمائية من كولومبيا

Print Friendly, PDF & Email

كيف استبعد الأوروبيون السكان الأصليين في الأمازون

فيلم “عناق الأفعى” (2015) هو الفيلم الروائي الطويل الثالث للمخرج الكولومبي سيرو غيرا (35 عاما)، بعد “ظلال تائهة” (2004)، و”رحلات الريح” (2009) أي أنه بدأ الإخراج وهو في الثالثة والعشرين من عمره. ومن يشاهد فيلمه الأول يدرك على الفور أنه أمام موهبة سينمائية نادرة، فهو يتمتع بثقافة بصرية رفيعة، وقدرة خاصة على استلهام تراثه الأمريكي اللاتيني وتطويعه والتعبير عنه في أفلامه بأسلوب لا يشبه غيره.

يميل سيرو غيرا، إلى المزج بين الأسطورة والواقع والحلم، فهو يستخدم في فيلمه الجديد “عناق الأفعى” (2016) الرموز، ويمنح شخصياته من السكان الأصليين، قوة خاصة تنبع من ما تعلموه من حكمة، وورثوه عن آبائهم وأجدادهم من معتقدات ومعرفة بالبيئة التي يعيشون فيها، ويصور كيف أن قوة هذه الثقافة هي ما منحتهم حصانة ضد الخضوع للمستعمرين الاسبان والغربيين عموما.

تبدأ أحداث الفيلم في “أمازونيا”، أي المنطقة الواقعة شمال غربي البرازيل قرب الحدود البرازيلية مع بيرو وكولومبيا، تشقها أنهار لا نهاية لها، وهي أكثر المناطق الاستوائية كثافة في الغابات والأشجار. في بداية الفيلم نقرأ الكلمات التالية على شاشة سوداء: “لا أعرف كيف أصف ما رأيته من جمال وروعة، لكن كل ما أعرفه هو أنني أدركت بعد عودتي أنني أصبحت شخصا آخر”.

هذه الكلمات كتبها- كما يخبرنا الفيلم- الرحالة والمستكشف الألماني تيودور فون مارتيوس عام 1909، وهو يظهر هنا كشخصية درامية رئيسية في الفيلم. وتدور الأحداث قبل عودة تيودور إلى بلاده، وهو يأتي في البداية على ظهر قارب، مصابا بمرض غامض، مصحوبا بمرافقه المخلص الأمين “ماندوكا” من السكان الأصليين، لمقابلة “كاراماكاتي”، وهو حكيم وساحر شاب من سكان الغابات، يعيش وحيدا، فقد كان الوحيد من بين أبناء قبيلته الذي نجا قبل عشر سنوات من الإبادة الجماعية الشاملة التي أنزلها المستعمرون الأوروبيون بالقبيلة. إنه يتشكك بطبيعته في الأوروبيين، ويكن لهم الكراهية بسبب ما فعلوه بسكان البلاد من إبادة، وكانت البعثات الأوروبية المسلحة قد هجمت على المنطقة بعد اكتشاف المطاط الذي يستخرج من الأشجار في غابات الأمازون. من هنا نشأ ما يسمى بـ “بارونات المطاط” الذين أخضعوا السكان الأصليين وسخروهم كعبيد للعمل في جمع سائل المطاط من الأشجار.

أما تيودور فلا صلة له ببارونات المطاط، فهو يقدم نفسه لكاراماكاتي كعالم وباحث يدرس الانثروبولوجيا،، يحمل معه دفاتر دون فيها صورا ورسومات لما يقابله خلال رحلاته. وهو يريد أن يساعده هذا “الحكيم” الساحر “كاراماكاتي” في العثور على الدواء الذي يوجد في نبات “ياكرونا” كونه الوحيد الذي يعرف مكانه. يرفض كارماكاتي وينسحب لكنه يعود فيوافق فقط بعد أن يخبره تيودور بأن بعض أفراد قبيلته مازالوا على قيد الحياة، وإنه يعرف مكانهم ويمكنه أن يرشده إليهم، لتبدأ رحلة الرجال الثلاثة، التي يشوبها الكثير من التناقضات والمواجهات التي تكشف التباين الكبير بين العقليات والقناعات.

الخط الثاني

يبدأ الخط الثاني في الفيلم في زمن آخر، خلال الحرب العالمية الثانية، أي في أوائل الأربعينات، حينما يأتي باحث أمريكي متخصص في علم النبات هو “إيفانز”، ليقابل “كاراماكاتي” الذي يكون قد تقدم الآن في العمر، يطلب مساعدته في العثور على زهرة ياكرونا النادرة. وهو يعرف أن كاراماكاتي الوحيد الذي يمكنه أن يقوده إلى هذه الزهرة مدفوعا بما قرأه مما دونه سلفه “تيودور” الألماني من حوليات.

يقوم سيناريو الفيلم على ما تركه الرجلان من ذكريات، مع بعض الإضافات الدرامية التي لا غنى عنها لكي يصبح الفيلم فيلما. من البداية يقول كاراماكاتي لإيفانز إنه لا يعرف مكان زهرة ياكرونا، وإن إيفانز هو الذي سيقوده إلى مكانها. وكلما توقفا في مكان ما بالقارب، يسأل إيفانز كاراماتي: أي اتجاه يتعين علينا أن نسلك؟ لكن الأخير يقول ببساطة إنه لا يعرف.. فكاراماكاتي يريد أن يدفع إيفانز إلى الاعتماد على بديهته الشخصية، على ما يراه في أحلامه، على شعوره الداخلي الخاص بالأماكن، أو يقترب منها ويذوب فيها ويصبح مثله، من الناحية الروحانية، جزءا من الطبيعة. يقول له إيفانز إنه لم يعرف سوى حلمٍ واحدٍ طيلة حياته، لكن كاراماتي يصر رغم ذلك، على أن يجعله يصل إلى حالة خاصة من “الإيمان” في المعتقد” الشعبي المحلي الذي يرتبط بما هو باطني، وليس بالسطحي، أن يتخلى عن تشبثه بما يربطه بعالمه القديم الذي جاء منه وأن ينتمي إلى عالمه الجديد ويتوحد معه، أي أنه يريد أن يحوله من رجل يمتلك عقلا غربيا عمليا، إلى رجل يشعر ويستوحي ويسير طبقا لتقاليد المكان وإيقاعه، وعلى هدى ما يسكنه من أرواح، تماما مثل رجل أصيل من سكان الغابات. هذه العلاقة المركبة وهذا الصراع بين عقلين، هو ما يمنح الفيلم جماله ورونقه وسحره الخاص، فالرحلة تصبح رحلة مواجهة بين إيفانز ونفسه، تماما كما كانت رحلة “تيودور” مع كاراماكاتي خلال بحثه عن شفاء الجسد، لكنه كان وحده من يملك شفاء نفسه.

ثنائيات

يدور الفيلم حول عدد من الثنائيات التي تثري الموضوع، مثل العجز الأوروبي كما سنجسد في شخصية تيودور، عن فهم طبيعة الغابة وأسرارها، وعجزه عن تشخيص وعلاج مرضه، وجهله بطرق العلاج بالأعشاب، وكيف يساعده الكاراماكاتي بواسطة مسحوق يستخرجه من أوراق نبات معين، ينفخه في فتحتي أنفهـ ربما يكون الكوكايين، لكي يمنحه بعض القوة على الصمود ومواصلة الرحلة. من ناحية أخرى، يبرز الفيلم أيضا التناقض بين كاراماكاتي و”ماندوكا” مرافق تيودور، فالأول يتعامل بازدراء مع الثاني، ويعتبره خائنا لأبناء جلدته بعد أن قبل العمل في خدمة الأوروبي الأبيض، وارتضى بارتداء ثياب تشبه ثيابه الأوروبية، متخليا عن ملبسه التقليدي وعن عاداته وتقاليده. أما ماندوكا فيحاول أن يشؤح لكاراماكاتي أن “تيودور” يختلف عن الأوروبيين الغزاة، وأنه رجل علم، وباحث ينظر إليه أقرانه باعتباره بطلا، وأن من الضروري كسب تعاطفه معهم ومع ثقافتهم لأنه هو من سينقل الحقائق إلى بلاده.

خصائص الحياة

يجسد الفيلم أيضا التناقض بين المستعمرين الأوروبيين والسكان الأصليين، وكيف قضى الأوروبيون على جانب كبير من خصائص الحياة في تلك المنطقة، وقاموا بتطويع سكانها بالقوة من أجل الحصول على ما يريدونه (التشغيل القسري للكبار والأطفال في جمع المطاط)، كما يكشف دور بعثات التبشير المسيحية التي مارست أكثر أنواع العنف والاضطهاد والقسوة في تعاملها مع سكان المنطقة، وفرضت عليهم التحدث بالاسبانية وعاقبت كل من يستخدم لغته الأصلية، واعتبرتها لغة تجلب الشيطان، كما روجت أن طقوسهم وعاداتهم وتقاليدهم هي عادات وطقوس وثنية يجب استئصالها.

خلال رحلة الثلاثة: تيودور وماندوكا وكاراماكاتي ينفذ رصيدهم من المؤن، فيطلبون المساعدة من قس أقام مستعمرة يستعبد فيها الأطفال الذين قُتل آباؤهم، ويمارس عليهم أقسى درجات العنف بغرض تطويعهم لتعاليم ديانته حسب فهمه لها بالطبع. وفي القصة الثانية الموازية التي تدور في الأربعينات، يقع إيفانز وكاراماكاتي في قبضة عدد من السكان المحليين، يخضعون خضوعا تاما لرجل أوروبي مهووس يوهمهم بأنه “يسوع” وأن لديه القدرة على الإتيان بالمعجزات. لكنه مع ذلك، يعجز عن شفاء زوجته المصابة بمرض جلدي خطير، ويستعين بكاماركاتي الذي يتمكن من علاجها، ويكون هذا ضمانا لخروج الثلاثة من الأسر.

وفي مشهد آخر يذهب الثلاثة إلى قبيلة ماندوكا، فيرحب بهم زعيم القبيلة، ويقدم لهم أفراد القبيلة الشراب والطعام، لكن كاراماكاتي يحرم تناول اللحم والسمك على تيودور إلى حين أن يكتمل القمر، طبقا للمعتقدات الموروثة التي تعهد تيودور قبل بدء الرحلة باحترامها والالتزام بها. يطلع تيودور شيخ القبيلة على البوصلة التي يحملها معه ويشرح له طريقة عملها وأهميتها، وعندما يستيقظ صبيحة اليوم التالي، يكتشف اختفاء البوصلة فيصر على استعاداتها لكن شيخ القبيلة يصر على التمسك بها. وعندما يبتعد الثلاثة بالقارب يقول كاراماكاتي لتيودور، لماذا تصر على استعادتها؟ فيجيبه تيودور بأن من الأفضل لهؤلاء القوم أن يبقوا على طريقتهم في الاستدلال على الأماكن عن طريق رصد حركة الشمس والنجوم، وهو ما يعني أن الوسائل الحديثة يمكن أن تدمر ثقافتهم الخاصة، فيعلق كاراماكاتي: أنت إذن تريد أن تحرمهم من الحق في المعرفة!

تحفة سينمائية

ما يجعل هذا الفيلم تحفة سينمائية، أسلوب تعامل مخرجه ومصوره مع الصورة، من اختيار التصوير بالأبيض والأسود، (مع لقطة وحيدة قرب النهاية بالألوان)، إلى سبر أغوار المكان في المواقع الطبيعية، مع قدرة المصور الكولومبي ديفيد غاليغو، على استنباط تكوينات بصرية مذهلة مع إضفاء الضباب على الصور، للنهر، والغابة، والأشجار والسحب، والطبيعة التي يحذر كاراماكاتي تيودر منها من البداية عندما يقول له إنها هشة، وإذا اعتديت عليها فإنها ترد الاعتداء.

يتميز الفيلم بالحركة المستمرة، فالحدث ينتقل من مكان إلى آخر، مع بعض اللقطات ذات الطابع السيريالي الغامض، كما في المشاهد التي تتكرر فيها لقطة الأفعى التي تلد وتحتضن صغيرها، أو عندما يهاجم النمر الأفعى، ثم في المشهد قبل النهائي الذي يذكرنا بالمشهد الشهير للتكوينات اللونية البديعة في فيلم “شجرة الحياة” لتيرنس ماليك. ويتمتع الفيلم بشريط صوت بديع مع إبراز أصوات خرير الماء وسريانه في النهر، وضربات المجاديف التي تستخدم في دفع القارب، وأصوات الطيور والحيونات، وكلها تجعلنا كمشاهدين نكاد نتنفس أجواء الأماكن الطبيعية التي دار فيها التصوير. ولاشك أن اي مشاهد مطلع جيدا على السينما، يمكنه أن يعثر في الفيلم على مؤثرات ومصادر من أعمال شهيرة مثل “فيتزكارالدو” و”أغيرا غضب الرب” لفيرنر هيرتزوغ، و”سفر الرؤية الآن” لفرنسيس كوبولا، و”تابو” لميغيل غوميز، ورواية “قلب الظلام” لجوزيف كونراد.

يتميز الفيلم بايقاع هادئ يتناسب مع انسيابية حركة القارب معظم الوقت، فوق صفحة النهر، ولكن القصة الأولى التي تدور في الزمن الأقدم، تطغى بتفاصيلها على القصة الثانية إلى حد ما. ومما يميز الفيلم أيضا، استخدام الكثير من الصور الفوتوغرافية، النقوش المرسومة على الأشجار والأحجار، رسوم إيفانز في كراسته للحيوانات والنباتات المختلفة، والموسيقى الكلاسيكية المسجلة على إحدى أسطوانات الغرامافون التي يحتفظ إيفانز بها، وهي موسيقى “الخلق” لهايدن التي تعتبر أعظم ما كتب، وفيها يعبر عن قصة الخلق. يدير إيفانز الأسطوانة في الليل بينما يجلس أمامه كاراماكاتي الذي لا يعترف بما يحمله “الرجل الأبيض” من “أشياء”، فيسأله: ما هذا؟ فيشرح له إن هايدن كتبها للتعبير عن الخلق. ينصت الرجل جيدا، ويبدو عليه التأثر بالموسيقى، ويقول إنها لاشك تساعد إيفانز على الاسترخاء.

الأفلام تصنع لكي تشاهد. ومهما كتب المرء عن جمال هذا الفيلم وسحره، فلن يغني كل هذا عن مشاهدة الفيلم نفسه. ولا يسع المرء في النهاية سوى الاقتباس من مقولة تيودور فون مارتيوس- بعد التصرف- لتصبح “لا أعرف كيف أصف ما رأيته في هذا الفيلم من جمال وروعة، لكن كل ما أعرفه هو أنني أدركت بعد مشاهدته أنني لم أبق كما كنت”!

بطاقة الفيلم:

الإسم “عناق الأفعى”

The Embrace of the Sepent

المخرج:

Cero Guerra

مدير التصوير:

David Gallego

مونتاج:

Etienne Boussac

موسيقى:

Nascuy Linares

تمثيل:

Nilbio Torres

Antonio Bolivar

Jan Bijvoet

Brionne Davis

Visited 48 times, 1 visit(s) today