مغامرات فيلليني وبداية علاقته بالسينما ومولد الواقعية الجديدة
فيديريكو فيلليني، ذلك «الساحر” الذي ملأ حياتنا السينمائية طوال 40 عاما، بالبهجة وجسد عالما سينمائيا يموج بالأحلام والهواجس والأفكار والسحر والضحك والسخرية المحببة، ترك لنا عشرين فيلما دخلت تاريخ السينما. لكننا لا تعرف الكثير عن بداية علاقته الفريدة بالفن السينمائي، وكيف انتقل فيلليني رسام الكاريكاتير المتجول ليصبح واحدا من أهم صناع الخيال السينمائي في العالم.
في كتاب “فيلليني يتحدث عن فيلليني” يروي المخرج الإيطالي الكبير الكثير، ويستعيد الكثير عن علاقته بالسينما، في أواخر الحرب العالمية الثانية، وبرائد الواقعية الجديدة روبرتو روسيلليني، وكيف شارك في كتابة سيناريو أول أفلام الواقعية الجديدة أي فيلم “روما مدينة مفتوحة”، ومن الذي تحمس للفكرة، وكيف عاد فشارك روسيلليني فيلمه التالي “بيزا”، وأشياء أخرى تثري معرفتنا وعلاقتنا بالساحر العظيم، وتلقي الضوء على عصره. فماذا قال فيلليني؟
دكان الوجه المرح
بعد انتهاء الحرب، افتتحت دكانا للكاريكاتير اسميته “دكان الوجه المرح” حيث كنت أرسم الاسكتشات والمناظر الكاريكاتورية للجنود الامريكيين. وكان ذلك الدكان او الكازينو يمتلىء بالفتيات. لقد ربحت كثيرا من المال، ربما أكثر مما ربحته في حياتي منذ ذلك الوقت. وكان الجنود الأمريكيون الشباب قد اعتادوا ان يأتوا سكارى الى حد كريه ويحاولون التعدي على الفتيات. ولذلك ـ ومن باب الشهامة ـ كان من الضروري احيانا أن نتدخل. ولحسن الحظ، كنا قريبين من مبنى البوليس الحربي. وكان أحد أولادنا يتولى الحراسة عادة، وقد اعتاد ان يعبر الشارع ويستدعي رجال البوليس الحربي الذين كانوا يأتون وينهالون ضربا بالهراوات على الجميع دون تفرقة. وكنا نضطر عندئذ الى إغلاق المحل يوما او يومين.
وذات يوم ظهر روسيلليني وكنت قد التقيته بشكل عابر على طريقة «مرحبا.. إلى اللقاء”.
في زحام الجنود السكارى الذين ينتظرون دورهم لكي يأخذوا رسومهم الكاريكاتورية، شاهدت رجلا ذا وجه نحيل بارز الوجنات، يرتدي قبعة رمادية ومعطفا. كان هو روسيلليني، وكنت مندمجا في رسم صورة كاريكاتورية. وقد أشار بما يفيد أنه يريد ان يخبرني بشيء ما. سألته ان كان يمكنه الانتظار قليلا. ثم جاء حول المنضدة لكي يلقي نظرة على الاسكتش الذي رسمته والذي كان قد أوشك تقريبا على الاكتمال. وفي محاولة لزجة للتودد، أخذ يبدي إعجابه بالرسم وقال انه سوف يستولي عليه، ومع ذلك، فانني أذكر، أنني كنت ارسم صينيا أو يابانيا، وكنت قد وقعت في خطأ في تلوينه بالأصفر، مجرد هذا الخطأ وبحسن نية.
وقد يكون الجندي قد رآني أغمس قلمي في الحبر الأصفر وتضايق قليلا ولكنه لم يقل أي شيء رغم ذلك. وعندما اعطيته الرسم الاصفر بدأ ذلك الرجل يتذمر. ثم تدخل روسيلليني ووقف بجانبي وقال بالفرنسية: أنت لست أصفر. والحقيقة انه كان اصفر، أصفر كالليمونة، وخرج الرجل يكاد يجن!
سألني روسيلليني بما انني كنت أعرف الممثل الدو فابريزي جيدا، ما إذا كان باستطاعتي اقناعه بالتمثيل في فيلم قصير عن حياة قسيس. وكان البرتو كوسيجليو قد كتب السيناريو بعنوان “قصة دون موروسيني” وقال لي روسيلليني: «اسمع.. لقد بعت كل ما أملك ولم يعد لدي مليم أحمر. لقد قابلت كونتيسة على استعداد لتمويل فيلم قصير وهي التي كتبت معالجة «دون موروسيني” وأنا اقوم الان باعداده”.
وفي اليوم التالي قدمني روسيلليني لهذه الكونتيسة، وكانت امرأة ضخمة وقالت: “نعم.. انني أنتج فيلما قصيرا وفيلم رسوم متحركة (تحريك) فهل يمكنك أن تتحدث مع فابريزي وتسأله إن كان يقبل مبلغ 200 ألف ليرة”؟
وذهبت للتحدث مع فابريزي الذي كان يمثل في مسرحية في صالون مارغريتا ولم أجد لديه أدنى اهتمام بالموضوع. وقال إنه ايا كان الأمر فانه لن يعبأ بدون موروسيني هذا، وإذا كانوا يريدونه فان يتعين عليهم أن يدفعوا له مليون ليرة.
وعدت الى روسيلليني وأخبرته أن فابريزي يريد مليونا، فقال روسيلليني انهم يستطيعون أن يجعلوا المبلغ 250 ألف ليرة.
فكرة روما
خلال ذلك كان روسيلليني يحاول اقناع الكونتيسة بعمل فيلمين قصيرين، وفي النهاية جاءته فكرة ان يصنع فيلما قصيرا عن السيناريو الذي كتبه كونسجليو، وان يخرج فيلما آخر قصيرا عن تلك الالعاب التي كان أطفال روما يلعبونها عن الالمان، لرفع الروح المعنوية اثناء الحرب. وقد أخذت أساعده ولكن دون مشاركته العمل. وكان صديقنا اميدي لا يفكر كثيرا في الفيلمين. وذات مساء قال لنا: “بدلا من عمل فيلمين لماذا لا نحاول ان نصنع فيلما روائيا طويلا؟ فلنضع هذين الموضوعين معا ودعونا نبني القصة حول هذا القسيس”. هكذا خلال اسبوع كنا نعمل في مطبخي لأنه كان المكان الوحيد الدافىء في المنزل. وقد انتهينا من كتابة سيناريو “روما مدينة مفتوحة” ولكن بصراحة دون اقتناع كبير.
ذهبت بعد ذلك بالسيناريو الى فابريزي وحادثته بشأن الاشتراك في الفيلم. وكان يتعين علينا عندئذ أن نعطيه الأجر الذي طلبه، ولكن مليون ليرة من أجل فيلم روائي طويل كان يبدو أجرا متواضعا للغاية. ولكن هكذا ولد فيلم «روما مدينة مفتوحة”.
كان روسيلليني يحبني كثيرا، وأذكر أنه اعتاد ان يضحك كثيرا ويجذب ساق اميدي. وكان يأتي لكي يراني في المساء ويقول: “أنظر، لقد كتبت أنا واميدي هذا الحوار.. اسمع هذه”.
وعندما انتهى العمل في الفيلم أخيرا توقفنا فترة لكي نستريح، ثم كان علينا أن ننظم عرضا خاصا لبعض أصحاب دور العرض وكان عرضا مشؤوما حقا. فعندما شاهدوا ذلك الشيء الذي أنجزناه أدركوا أنه قد أنتج بمبلغ ضئيل للغاية. هذه هي التسعة أشهر التي قضيتها في روما. إن تسعة أشهر في روما تحت الاحتلال الالماني كانت حقا تمثل شيئا ما. حتى الشخص الذي بقي في فراشه وعيناه مغمضتان وأذناه مسدودتان كان يمكنه ان يشعر بالخوف ولا يفارقه هذا الاحساس ابدا ليلا او نهارا.
ولكن السيناريو جاء دقيقا للغاية لأنه كان يعكس الجو السائد. وشاهدت الفيلم في العرض الخاص وتأثرت كثيرا واضطربت بل صدمت. فقد كان العرض الخاص يوشك أن يخفق اخفاقا تاما بسبب ضيق ولا مبالاة أولئك الموزعين البلهاء لأفلام “مترو غولدوين ماير”.
المحتال الأمريكي
وذات يوم، عندما كنا بمسرح دي كابيتاني الصغير نعيد تصوير بعض المشاهد، كانت هناك كابلات كهربائية تبرز خارج المسرح مكومة في فوضى عبر الشارع. وحدث أن سقط جندي أمريكي فوقها وارتطم أنفه بالأرض وبدأ ينزف ثم نهض. ولأنه كان نصف سكران فقد أراد أن يحتك بأي شخص. وكنت أقف في المدخل فسارعت اليه لكي أساعده في الوقوف على قدميه. وكان وجهه بالفعل ملطخا بالدماء. وزمجر الرجل غاضبا: “فاشيست”. ثم خرج سيل من الشتائم من فمه، واستطعت فهم كلماته بما فيه الكفاية نتيجة خبرتي في دكان الوجه الضاحك حيث أمكنني ان اتعلم قليلا من الكلمات العامية الانجليزية.
واخذ الرجل يتتبع الكابلات ويركلها في غضب، يركل ويركل ويركل ويركل، وتابع الركل الى الداخل حتى وجد نفسه في مواجهة روسيلليني الذي كان يقف أمام الكاميرا. ثم أخذ يحدق فيه قليلا وصاح: ما هذا؟
قلت: إنه فيلم.
فقال الرجل: هيه.. إنني منتج سينمائي امريكي!
وقدم نفسه الينا ثم جلس وكان وجهه لا يزال مغطى بالدماء. وسأل: أي نوع من الأفلام هذا؟
واعطيته شرحا مختصرا فقال: عظيم.. أريد أن أشاهده. ولأنني كنت اشعر بأن القدر هو الذي أرسله وجعله يسقط فوق الكابل، فقد عرضنا له “روما مدينة مفتوحة” في اليوم التالي ووافق الرجل على شرائه. ولكن ذلك لم يكن حقيقيا على الاطلاق، انه لم يكن منتجا، لقد كان واحدا من أولئك الذين يعملون في الدعاية. ولكن هذه الاكاذيب كانت من حسن حظ السينما الإيطالية، لأننا نتيجة ثقتنا الكاملة فيه اعطيناه الفيلم. وذهب الرجل الى أميركا وعرض الفيلم على موزع حقيقي، رجل يدعى “ويستريس” فاشتراه وأعطاه بعض المال. ثم عاد صاحبنا الى ايطاليا ودفع من أجل الفيلم، بينما ظل يتصرف باعتباره منتجا عظيما.
وقال لنا: انني أريد أن أنتج فيلما آخر مع روسيلليني.. معكم جميعا.. مع فيديريكو. لدي صلات جيدة في هوليوود!
وأعطانا الرجل كما هائلا من الوعود. أكبر كم من الوعود يمكن أن يسمعه المرء في حياته، وبالتالي فقد ولد فيلم «بايزا” Paisa في ذلك الجو من الكذب المروع. لم يكن ذلك الشاب شيئا على الاطلاق، كما أنه لم يكن يمتلك مليما واحدا.
وعاد صاحبنا مرة أخرى الى امريكا وأخذ بعض المال من ويستريس. وفي ايطاليا، وجدنا منتجا آخر هو ماريو كونتي ولكنه ظل حذرا من ذلك الرجل الأميركي ـ رود غيغرـ الذي رفع كل التكاليف.
واثناء ذلك، جاءتنا فكرة “بايزا” ووضعنا حبكة القصة. وجاء غيغر وقال: من تريدون؟ غريغوري بيك؟ حددوا فقط، وسوف أحضر لكم أي ممثل تريدون بدون مقابل. سوف يأتون معي. وهكذا وضعنا قائمة بالأسماء كان من بينها غريغوري بيك ولانا تيرنر، وأخذ الرجل القائمة معه الى أميركا. وذات يوم تلقينا برقية تقول “قابلوني في نابولي”.
وذهبنا الى نابولي، وأخذنا نراقب مرسى السفن الضخم ورأينا رجلا قصيرا يهبط الدرج الخشبي ومعه ستة أشخاص. كان هو غيغر الذي بادرنا بقوله: هؤلاء هم النجوم الأميركيون الكبار الجدد وليذهب غريغوري بيك ولانا تيرنر الى الجحيم. وصدقنا نحن كل شيء لأننا لم نكن نعرف أي شيء.
واخذ الرجل يقدم لنا نجومه الكبار، فقدم لنا زنجيا بقوله: هذا الرجل أعظم من بول روبسون، ثم هذه الفتاة الواقفة هناك تغنينا عن لانا تيرنر.
واكتشفنا فيما بعد عندما تحدثنا مع أولئك المساكين انهم في حالة يرثى لها. وبدوا لنا عديمي الأهمية تماما. وعرفنا ان أحدهم كان ساقيا في مطعم، وكانت واحدة من الفتيات عاملة في مقهى، أما الزنجي فكان مغنيا.
ومع ذلك كان فيلم “بايزا” قد ولد بميزانية ايطالية محدودة تماما. وفي أوقات كثيرة تولد أشياء جيدة من البلاهات. ومن الشيء الجيد يمكن أن تولد معجزة. لقد كان «بايزا” أول احتكاك حقيقي لي بالسينما. ومن هذه التجربة عرفت أن السينما ربما كانت هي وسيلة التعبير الأكثر قربا إلى تكويني. ونظرا لكسلي الشخصي وجهلي وفضولي ورغبتي في أن أرى كل شيء وأن أصبح مستقلا، ونتيجة لافتقادي الى التنظيم واستعدادي للتضحية الحقيقية، أدركت أن السينما هي الشكل الصحيح للتعبير بالنسبة لي.
تعلم الدرس
وكان هذا هو الدرس الذي تعلمته من روبرتو: ذلك الخشوع للكاميرا، وبمعنى أدق، ذلك الايمان غير العادي بالأشياء المصورة.. بالناس.. وبالوجوه. وحتى ذلك الوقت، عندما كنت أذهب الى المسرح أو عندما كنت أكتب السيناريوهات، لم أكن أفهم أبدا أي شيء مما كان يحدث بالفعل. لقد بدا لي أن كل ذلك كان مجرد وقت ضائع. ففي النهاية كنت أنتج فقط أدبا، وأدبا محدود القيمة ايضا. وعندما كنت أخلو الى نفسي مع الورق، كان هناك شيء ما جاف يبدو أمامي وأنا اراهم يعملون بتلك الفوضى في المسرح وبذلك الافتقاد الى الذوق دون ان افهم من الذي يعطي الاوامر ومن المسؤول عن هذا. وكان ذلك يزعجني كثيرا.
وأدركت انه لن يكون باستطاعتي أبدا أن أصبح مخرجا. ومن ناحية أخرى، جعلني العمل مع روسيلليني أرى ما صدمني بشدة. ان خضوع المرء لموقف ما تجاه الحياة ليس مجرد احتمال عابر، ليس كأن تقول: إنني أحكي خرافاتي وقصصي، لا. إنني أحاول أن أحكي ما شاهدته وعندئذ، فإن الإيمان غير المحدود في الانسان يصبح هو نفسه المادة الخام التي يتم التعامل معها. ان ما صدمني أكثر من أي شيء وجعلني في النهاية أفهم وأنظر الى الاشياء بهذا الحب، تلك العلاقة التي تنشأ من وقت لآخر، بينك وبين وجه، بينك وبين شيء.
أدركت انني لكي أصبح مخرجا وأصنع أفلاما تملأ حياتي، ولكي أصبح ثريا جدا، وساحرا ومؤثرا للغاية، فليس باستطاعتي أن اطلب أكثر من ذلك الشيء الذي يحقق ذاتي ويساعدني على أن أجد معنى.