مسلسل “تلت التلاتة”.. تحدي في التمثيل وفي الكتابة
د. ماهر عبد المحسن
من المسلسلات التي أذيعت في شهر رمضان الماضي ولم تصاحبها ضجة إعلامية كبيرة مثل مسلسلات أخرى أقل كثيرا في المستوى كان مسلسل “تلت التلاتة” الذي لعبت بطولته غادة عبد الرازق أمام الممثل السعودي محمد القس، وأخرجه حسن صالح، وكتب له القصة هبة الحسيني. ويأتي المسلسل ضمن اتجاه محمود في الدراما الرمضانية، في السنوات الأخيرة، يعمد إلى تقليص عدد الحلقات لتكون خمس عشرة حلقة بدلا من ثلاثين، خاصة في الأعمال ذات الطابع البوليسي التشويقي، مثل “تلت التلاتة”، الذي لا يحتمل المط والتطويل، ويحتاج أكثر إلى تركيز في الأحداث وسرعة في الإيقاع.
لم يخف على المشاهدين من أصحاب الفطنة أن المسلسل مأخوذ عن عمل أجنبي، وتحديدا الفيلم الدانماركي Loving Adults. والحقيقة أن الحلقات الأربع الأولى فقط هي المأخوذة من الفيلم المشار إليه، بل والمنقولة حرفيا على مستوى المشاهد والكادرات، أما باقي الحلقات فقد مضت في اتجاهات أخرى بعيدة عن الأصل الأجنبي، لأن الشخصية الرئيسية النسائية في الفيلم تحولت إلى ثلاثة توائم في المسلسل، وعند هذه النقطة ينشأ التحدي، والتحدي هنا ليس لأحداث الفيلم، لكن لأحداث المسلسل في حد ذاتها. لأن وجود ثلاث شخصيات متشابهة أمر غير مألوف في الدراما المصرية، بل والعالمية كذلك.
والذائع أن يكون هناك شبيهان، لا ثلاثة، والأعمال المصرية مليئة بهذا اللون من الدراما، خاصة في الأعمال الكوميدية مثل أفلام إسماعيل ياسين وفؤاد المهندس ونجيب الريحاني، أو الأعمال النفسية مثل مسلسل “القرين” لمحمود ياسين، أو الأعمال البوليسية مثل فيلم “بدل فاقد” لأحمد عز، والقائمة تطول. ولم تعرف الدراما المصرية فكرة التوائم الثلاثة، على ما أذكر، إلا في مسلسل “ألف ليلة وليلة” ، الذي قامت ببطولته شريهان، وفيلم “كده رضا” الذي قام ببطولته أحمد حلمي.
والتحدي، في هذا اللون من الدراما، يأتي على مستوى التمثيل والكتابة أكثر مما يأتي على مستوى الإخراج. على مستوى التمثيل تأتي الصعوبة من أن فكرة الشبيهين تتيح للممثل أن يلعب الدور ونقيضه في الوقت نفسه، كأن يكون شريرا في شخصية وطيبا في الأخرى، أو يكون جادا في شخصية ومستهترا في الأخرى، أو ذكيا في شخصية وغبيا في الأخرى، وهكذا. لكن المسألة تختلف في حالة الشخصيات الثلاث المتشابهة التي ينبغي أن يلعبها الممثل أو الممثلة، لأن المسألة تحتاج إلى نوع من الجدل الهيجلي، أي أن تكون هناك شخصيتان متناقضتان وتكون الثالثة بمثابة المركب بينهما، بمعنى أن تضم في داخلها السمات المتناقضة للشخصيتين الأخريين وأن تتجاوزهما في الوقت نفسه، وغالبا ما تكون هذه الشخصية هي الأقوى والأكثر تأثيرا في الأحداث، لأنها هي التي تسيطر على الشخصيتين الأخريين.
تدور أحداث مسلسل “تلت التلاتة” حول رجل الأعمال أمجد (محمد القس) الذي تتعرض شركته للإفلاس ويضطر إلى بيع قصره إلى زوجته (غادة عبد الرازق) حتى تستطيع أن تقترض من البنك بضمان القصر ومن ثم يمكنه سداد ديونه، لكن يحدث أن تكتشف الزوجة خيانته لها مع سكرتيرته سمر (مي سليم) وتقرر عدم بيع القصر، وهنا يقرر أمجد أن يقتلها، لكنه يخطئ ويقتل الأخت الشبيهة، وعندما تعلم الزوجة تتحالف مع الأخت الثالثة للانتقام من الزوج الخائن، القاتل.
يحتوي المسلسل على التواءه Twistتغير مجرى الأحداث، لكن يظل أداء غادة عبد الرازق هو البطل الحقيقي للمسلسل، فقد نجحت، باقتدار في تجسيد الشخصيات الثلاث بالرغم من الفروق الدقيقة التي كانت بينهم، تحقق ذلك من خلال الملابس وتسريحة الشعر وطريقة الكلام، كما تحقق بنحو أكثر من خلال الأبعاد النفسية والعقلية للشخصيات، التي برعت غادة في إبرازها، وكانت سببا في نجاح الخدعة الكبرى التي بنى عليها السيناريو دراما المسلسل، فكثيرا ما كان يختلط على المشاهد الأمر بحيث لا يعرف حقيقة الشخصية التي تؤدي أمامه، لكنه ما يلبث أن يدرك مبعث الخلاف عندما يعود إلى الحدود الدقيقة التي أجاد السيناريو في رسمها لكي تفصل بين الشخصيات المتشابهة.
كانت هناك شخصية طيبة (فريدة)، وشخصية مستهترة (فرح)، وشخصية شريرة (فريال). وكانت فريال هي الأقوى بالرغم من أنها لم تكن تجمع بين النقيضين، فقد كانت نسيج وحده، لكنها كانت العقل المدبّر.
ويمكن أن يُقال الشيء نفسه عن محمد القس، الذي نجح في تقديم دور مركب لا يقل عن الأدوار التي لعبتها غادة عبد الرازق، لأنه، في حقيقة الأمر، لم يكن يلعب دورا واحدا، لكن أدوارا متعددة، فهو رجل الأعمال القوي أمام شريكه وأمام موظفي الشركة، وهو الزوج الضعيف أمام زوجته التي اكتشفت خيانته، وهو العاشق الولهان أمام سكرتيرته الشابة الجميلة، وهو الشرير القاسي الذي قتل زوجته حتى يسترد أمواله وينقذ الشركة من الإفلاس، وهو الأب الحنون أمام ابنة فرح أخت الزوجة (ليلى أحمد زاهر)، الذي وقف بجوارها كي ينقذها من جو (الشاب المستهتر) قبل أن يوقع بها في البداية، ثم هو الرجل النذل الذي استغل ثقة البنت فيه فتحالف مع الشاب للإيقاع بها في النهاية رغبة في الانتقام! وفي كل مرة عليك أن تصدقه لوجود المبرر الدرامي من ناحية، ولقدرة القس على التلون والانتقال السلس بين الأحوال النفسية المختلفة للشخصية من ناحية أخرى.
على مستوى السيناريو نجحت هبة الحسيني في الخروج بالخط الدرامي للمسلسل بعيدا عن الفيلم الأجنبي المأخوذ عنه القصة الأصلية، وتقديم دراما مختلفة تقوم على تعدد أطراف الصراع وزيادة جرعة التشويق والإثارة الناجمة عن وجود ثلاث شخصيات متشابهة يقمن بأداء نفس الأدوار، لكن بالتبادل.
لم يكتف السيناريو بالتوائه واحدة تكشف عنها الأحداث في نهاية المسلسل، ولكن اعتمد في دفع الأحداث على تقديم التواءات كثيرة قبل الوصول إلى الذروة، وكان حريصا في كل مرة على الكشف عنها أولا بأول، وهي مسألة كانت مقبولة في النصف الأول من الحلقات التي كانت تؤسس للصراع بين فريال وأمجد، لكن الاستغراق فيها أربك المشاهد، خاصة في الحلقة الأخيرة، التي بدت زائدة عن الحاجة بعد أن كشفت أحداث الحلقة الرابعة عشرة عن السر الكبير الذي كان يحرك الأحداث، ويكاد يدفع الجميع إلى الجنون، وكان ينبغي أن ينتهي المسلسل بعد اكتشاف هذا السر.
نجح السيناريو في تضفير الصراع بين شخصيات العمل الكثيرة، بحيث وضح أن لكل شخصية دوافعها الخاصة التي تتصرف على أساسها، كما نجح في رسم هذه الشخصيات، خاصة شخصية محمد القس، وشخصيات غادة عبد الرازق الثلاثة، لكنه بالغ في رسم شخصية فريال، بحيث صارت أقرب إلى الشخصية الخارقة التي تعرف كل شيء عن الشخصيات الأخرى، وتتصرف بنحو يرغم الآخرين على أن ينصاعوا لها، وإلا يكون مصيرهم الموت أوالخراب، وهي بهذا المعني تذكرنا بشخصية المرأة التي لا تقهر، التي لعبتها نادية الجندي في معظم أفلامها، حدث ذلك مع الزوج ومع الأب (صلاح عبد الله) ومع الحبيب (أحمد مجدي)، ومع السكرتيرة الراغبة في الاستحواذ على الزوج وأمواله، فقد تم التنكيل بهم جميعا، ووصل التنكيل إلى حد القتل كما في حالة الزوج وحالة السكرتيرة. والحقيقة أن هذه العلاقة غير المتكافئة بين فريال ومن حولها من أطراف الصراع أضعف السيناريو وأفقد الصراع الكثير من حيويته ومصداقيته.
وإذا كان السيناريو حريصا على أن يكون عادلا، فلم ينه حلقته الأخيرة قبل أن يقتص من الزوج، الذي مات في حادث حريق مدبّر، فإنه لم يكن على نفس الدرجة من الحرص عندما جعل فريال وفرح تهربان إلى خارج البلاد، وتنعمان بحياتهما في البلاد الأوربية، بعد أن ارتكبا جرائمهما المروعة داخل مصر، ليس هذا فحسب، لكن المكالمة الأخيرة التي دارت بينهما كشفت عن سفر فريال إلى إيطاليا للقاء جو، الشاب المستهتر، الذي شهّر بسمعة ابنة فرح، لمواصلة مسلسل الانتقام الذي بدأته في القاهرة.
والحقيقة أن المشهد لا معني له، إلا إذا كان صناع العمل يعتزمون إنتاج جزء ثان من المسلسل، وهو الأمر الذي ينبغي استبعاده تماما، لأن أحداث المسلسل قد استنفدت كل أغراضها الدرامية، ولم تعد تحتمل مزيد من الحلقات، فضلا عن أن يكون هناك جزء ثان!
وأخيرا، يحسب للسيناريو أنه حافظ على الإيقاع السريع للمسلسل منذ الحلقة الأولى وحتى الحلقة الأخيرة، ويحسب للممثلين أنهم قدموا مباراة ذات مستو عال في التمثيل. وفي كل الأحوال، يظل “تلت التلاتة” واحدا من المسلسلات القليلة التي تستحق المشاهدة هذا العام.