مسلسل “الهرشة السابعة”.. صراع بين العقل والعاطفة
د. ماهر عبد المحسن
من خلال عدد من العلاقات الإنسانية التي تبدو منفصلة نجح مسلسل “الهرشة السابعة”، الذي عُرض في رمضان الماضي، في أن يقدم تحليلا مجهريا لتفاصيل الحياة النفسية والاجتماعية الدقيقة التي تقف وراء أسباب الخلافات الزوجية، التي تعكر صفو الحياة وتدفع الزوجين إلى التفكير في الطلاق.
تعتمد الكاتبة مريم نعوم في حبكتها الدرامية على فكرة “الهرشة السابعة”، التي تعكس التغيرات التي تطرأ على الزوجين على مدار السنوات السبع الأولى من الزواج، وتصل إلى ذروتها في السنة السابعة، وعندها إما تنتهي العلاقة الزوجية بالطلاق أو بتجاوز هذه المرحلة والاستمرار.
وبهذا المعنى، تكون السنة السابعة هي المحك، أو الاختبار الكبير الذي ينبغي على الأزواج أن يتجاوزوه إذا أرادوا أن يستمروا في حياتهم الزوجية، خاصة في ظل وجود أولاد. الفكرة ليس لها أساس علمي، بالرغم من كثرة الدراسات التي بحثت في أسباب فتور العلاقة الزوجية بعد السنوات الأولى للزواج، وقد وضح ذلك من تساؤلات نادين (أمينة خليل) حول سبب اختيار السنة السابعة تحديدا دون السادسة أو الثامنة مثلا. غير أن الكاتبة تجتهد في محاولة إيجاد المبرر العقلي لهذه “الهرشة” من واقع التجارب التي يدلي بها الآخرون. فزميل نادين في العمل شادي (محمد الكيلاني) ، الذي سبق له الطلاق، يغوص في أعماق قرار الانفصال ليؤكد أنه الخيار الأفضل عندما تكتشف أن الطرف الآخر لم يعد هو نفسه الذي بنيت عليه اختيارك في أول العلاقة، وأن الانفصال ربما يكون قرارا قاسيا في البداية، لكن الأمور ما تلبث أن تمضي في مسارها الصحيح بعد أن يعتاد الطرفان العيش منفصلين، بل ويؤكد أن الحياة ستكون أفضل، لأن أحدهما لم يعد قيدا أو عقبة في طريق الآخر.
غير أن ماجد الكدواني (ضيف الشرف) يؤكد في الحلقة الأخيرة على أن استيعاب هذا التغيير، بعد سنوات من الزواج، هو الذي يضمن للحياة الزوجية أن تستمر، كما يؤكد آدم زوج نادين (محمد شاهين) على أن إجادة فن إدارة الخلافات الزوجية هو ما ينبغي أن يتحلى به الزوجان حتى يمكنهما تجاوز الأزمة (الهرشة).
والهرشة في المعنى العامي تشير إلى نوع من الاضطراب النفسي أو العقلي الذي قد يصل بالشخص إلى ما يشبه الجنون، لكن التعبير الجسدي للهرشة في الحياة العملية يجعل منها دلالة على التفكير العميق أو الشعور بالضيق، أي أن معناها يتوزع ما بين العقل والعاطفة، وهو ما يتأكد من خلال تصرفات الشخصيات في المسلسل.
على المستوى الفني كانت “الهرشة السابعة” موضوعا لأعمال فنية أخرى سابقة، لعل أشهرها فيلم “هرشة السنة السابعة” الذي قامت ببطولته مارلين مونرو وتوم إيويل عام ١٩٥٥م، لكن المسلسل كان أكثر قدرة على مناقشة الفكرة، بحكم طبيعة الدراما التلفزيونية التي تعتمد على عدد أطول من الساعات ما يمنح الفرصة لتناول المسألة بنحو أكثر تفصيلا. كما وضح أن الكاتبة واعية تماما بأبعاد الظاهرة بحيث نجحت في صياغة حوارات أكثر ذكاء وموضوعية بين أطراف الخلاف، خاصة آدم ونادين، فكل طرف يرى المشكلة الزوجية من وجهة نظره الخاصة دون أن يضع نفسه مكان الآخر، والموقف برمته يذكرنا بالتحليل الألمعي الذي قدمه جون جراي في كتابه ذائع الصيت “الرجال من المريخ والنساء من الزهرة”.
والمفارقة الطريفة التي خلقتها هذه الحوارات أن الخلاف ينتقل بالمنطق نفسه إلى المشاهدين إذا كانوا متزوجين، فالزوج ينحاز إلى آدم ويسلم بقوة حجته والزوجة تنحاز إلى نادين وتسلم بسلامة منطقها، والمحصلة أن الأزمة تنتقل من الفن إلى الواقع، وتسهم في زيادة تعقيد العلاقة ما لم يكن الزوجان على قدر أكبر من الاستيعاب والرغبة في تجاوز الخلاف.
وفي مقابل علاقة آدم بنادين، التي تحركها العاطفة والانفعال ويسودها الصخب والصوت العالي، نجد علاقة شريف (علي قاسم) بسلمى (أسماء جلال) العقلانية الهادئة التي يغلب عليها الطابع الغربي، بحيث تأتي الحوارات صادمة والحقائق عارية. وضح ذلك منذ بداية العلاقة عندما طلب شريف من سلمى أن يخوضا تجربة العيش المشترك، دون زواج، على سبيل التجربة، ولم يكن المطلب الشاذ في حد ذاته هو الأمر الصادم في الموضوع، لكن المنطق البارد الذي كان يدعمه. كما وضح في علاقته بابنته الأجنبية، غير الشرعية، التي ظهرت في حياته فجأة بعد زواجه من مصرية، وكانت ثمرة لعلاقة عابرة، خاضها مع أجنبية، في سن صغيرة.
ونجد المنطق العقلاني نفسه يسود علاقة والديّ شريف، اللذين انفصلا لكنهما استمرا في علاقتهما كصديقين، كما أن المنطق العاطفي كان يسود علاقة فيفي والدة آدم (حنان سليمان) بزوجها الذي توفى، وبزوجها الجديد الدكتور حسين (عماد رشاد)، فإخلاصها لزوجها المتوفي لم يتعارض مع إقدامها على تجربة حب جديدة، لأن نظرة فيفي للحياة كانت أكثر تفاءلا وتصالحا مع نفسها ومع الآخرين.
وفيما يبدو، فإن استئناف الحياة بعد الانفصال يتطلب توافقا مزدوجا من قبل الطرفين، سواء على المستوى العاطفي أو العقلاني، فقد حاول إبراهيم (محمد محمود)، الذي انفصل عن زوجته هناء (عايدة رياض) في مرحلة عمرية متأخرة، أن يستعيد علاقة الزوجية مرة أخرى، لكنه فشل، لأنه كان قد أتخذ قرار الرجوع بدافع من الحنين إلى حياته الماضية في حين اتخذت هناء قرار الاستمرار في الانفصال مع الاحتفاظ بالصداقة بدافع من تفكيرها العقلاني في المستقبل. فدائما ينحو صوت العقل بصاحبه إلى تحويل علاقة الزوجية إلى نوع من الصداقة في حين تميل العاطفة بصاحبها نحو الانزواء واجترار الذكريات.
وفي كل الأحوال، يُلاحظ أن “الهرشة” لا ترتبط بسنة معينة كما هو شائع، لأنها تصيب العلاقات الزوجية الباكرة والمتأخرة على السواء، أي أنها تصيب البدايات والنهايات. وإذا أردنا الدقة، فهي تصيب العلاقات الزوجية على مدار حياتها، بحكم التغيير الذي يحدث للأشخاص بفعل الزمن. وتظل القدرة على استيعاب التغيير هي المحك الذي يُعول عليه لتجاوز الأزمة، سواء أكان الأساس عاطفيا كما بين آدم ونادين أو عقلانيا كما بين شريف وسلمى.
علي مستوى الإخراج نجح كريم الشناوي في ضبط إيقاع الأحداث بالرغم من تعدد الشخوص والعلاقات، وبدا ذلك واضحا في التمييز الدقيق بين علاقات الكبار وعلاقات الصغار من المتزوجين، فخبرة السنين وضحت في أداء الأولي، واندفاعات الشباب وضحت في أداء الأخيرة، كما أن نبرة الحوار نفسها اختلفت بين أصحاب الصوت العاطفي مثل آدم ونادين، وبين أصحاب الصوت العقلاني مثل شريف وسلمى. وقد استطاع الشناوي أن يعيد للشاشة العربية الدفء الأسري الذي افتقدته في السنوات الأخيرة باستغراقها في الأعمال ذات الإبهار الشكلي على حساب المضمون الاجتماعي.
ساعد على ذلك موسيقى خالد الكمار، التي نجحت في تجسيد العواطف الزوجية المتضاربة على الشاشة، خاصة في الحوارات الإنسانية العميقة التي كانت تدور بين آدم ونادين.
على مستوى الأداء يمكن القول إن أداء الكبار، أحمد كمال ومحمد محمود وعماد رشاد وعايدة رياض، كان سلسلا ومعبرا، لكنه لم يصف جديدا لرصيد كل منهم على حدة، عدا حنان سليمان التي لعبت دورا كوميديا جديدا يختلف عن أدوارها التراجيدية السابقة، فقد نجحت في تجسيد شخصية العجوز المتصابية التي تسعى إلى تجديد شبابها بخوض تجربة الحب والزواج مع رجل يقارب لها في السن.
كما وضح الأداء المتميز لأمينة خليل التي لعبت دور الزوجة المقهورة التي لا تستسلم لقهر الزوج وتعمل على تحدي الأوضاع التي وجدت نفسها متورطة فيها وأن تثبت وجودها من خلال العمل في المجال الذي تحبه.
والشيء نفسه يمكن أن يقال عن محمد شاهين الذي برع في أداء دور الزوج المشتت بين مطالب الزوجة والاولاد وبين رغبته في تحقيق طموحاته العملية. وعلى الجانب الآخر يأتي أداء علي قاسم وأسماء جلال رتيبا ومملا، لكن ما تلبث أن تتحول هذه الرتابة إلى سمة مميزة في الأداء عندما يدرك المشاهد أنها جزء من الشخصية التي تنتمي إلى ثقافة أمريكية يسبق العقل فيها العاطفة، وأن البطء في الأداء ما هو إلا انعكاس للبطء في إيقاع التفكير الذي يصحب الكلام ويسبق الفعل.
وفي الأخير، فإن مسلسل “الهرشة السابعة” يعد واحدا من المسلسلات ذات البصمة الخاصة في موسم الدراما الرمضانية لهذا العام.